...

سرّ الحرب الروحيّة

 

 

“يا بَني البشر حتّى متى أنتم ثقيلو القلوب؟
لماذا تحبّون الباطل وتبتغون الكذب؟”

بهذه الكلمات الحارّة يستنهض داؤود النبيّ نفوسنا! إنّها كلماتٌ تتعرّض تماماً إلى حقيقة الإنسان، الذي يرى نفسه يوماً يحبّ الباطل فيسقط ويوماً يحبّ الحقّ فينهض. ما هذا السرّ الإنسانيّ، هناك مَيلان، الأوّل نحو الباطل والثاني نحو الحقّ؟ مرّات يثقل قلب الإنسان فيبتغي الكذب، ومرّات تُنهض قلبه قوّة غريبة “فيذبح ذبيحة الصّدق”!

هناك عوالم ثلاثة: الله، الإنسان، والعالم الماديّ. الله روح مجرّد عن المادّة، والعالم الماديّ مجرّد عمّا هو روحيّ، والإنسان كائن حدوديّ يشترك في العالمَين. يستطيع الإنسان وهو مادّة –خليقة أن يناجي الخالق وأن يتّصل بالله، وهذه فرادته الحقيقيّة عن عناصر الكون والعالم الماديّ الأخرى كلّها. وحقيقةً، إنّ الإنسان في حوار دائم مع هاتَين الجهتَين: الله والعالم الماديّ؛ وكلُّ طرف يشدّه إليه. الإنسان كائن تشدّه الرغبات، فتارّةً تشدّه رغباته إلى الله وتارّةً إلى الدنيا. لا يمكن للإنسان أن يبقى على الحدود. إنّ حياته تتميّز بالديناميكيّة. الإنسان كائن الرغبات. والرغبة دائماً عكس الستاتيكيّة. الرغبة تسحب إلى خارج الواقع الحاليّ، إنّها جاذبيّة. لذلك الإنسان متبدّل وليس جامداً، وليست مواقفه ثابتةً دوماً.

يحمل الإنسان إذن في طبيعته قدرة الاتّصال بالله وكذلك بعناصر الدنيا الماديّة. فحين يميل إلى الطرف الأول يتطاير في العشق الإلهيّ، فيصير مثل الله بالنعمة وليس بالطبيعة؛ وعندما يميل إلى الطرف الثاني يفقد روحانيّته ويصير أقرب إلى المادّة لا حياة فيه، كذلك بالحالة وليس بالطبيعة. يمكن للإنسان أن يصير روحانيّاً أو ماديّاً بقدر ما يميل إلى الله أو المادّة، يمكنه بطبيعته أن يسلك في أحد الاتجاهَين.

هذا التحوّل نحو الروح أو نحو المادّة ليس طبيعيّاً ولا عفويّاً ولا أوتوماتيكيّاً ولا بالصدفة! يقدر الإنسان على ما هو روحيّ كما يقدر على ما هو ماديّ، هذا في طبيعة الإنسان نعم، لكن أن يلتفت إلى ما هو روحيّ ويطلبه أو إلى ما هو ماديّ ويشتهيه ويجذبه، هذا في إرادته. إذ تلعب حريّة الإنسان الدورَ الأساسيّ في اختيار أحد الاتجاهَين وتقبّل جاذبيّة أحد الطرفَين، الروحيّ أو الماديّ.

نعم للعالم جاذبيّة متأصّلة في حاجات الحياة وطبيعة الإنسان، وهذه حقيقة أوجدها الله فيه كيما يميل إلى استخدام العالم والعناية به؛ وهذا هو دافع كلّ تطوّر وتحسين ومسؤوليّة ورغبة في احترام الماديّات وتأهيلها لاستخدامات أمثل وبمردود أفضل. لكن المسألة تصبح مشكلةً حين يميل الإنسان بأشواقه إلى الدنيويّات لدرجة يستسلم إليها وتصبح موضع عبادة ورجاء وعشق، وليس مجرّد أداة ثمينة للحياة.

عندئذ تتدنّى الأبعاد الإنسانيّة إلى حدود قيمة الأمور الدنيويّة، وذلك على حساب سموّ الدعوة الروحيّة المنتظَر من الإنسان التزامها. كلّ استخدام للدنيا “خدَمِيّ” هو حقّ، ويرفع من قيمة الإنسان الروحيّة. لكن أيّ استخدام “عباديّ- عشقيّ” يهبط بالإنسان، ويقتل فيه رِفعتَه الروحيّة فيتدنّى.

والله جذّاب جدّاً للإنسان. فبلُغَةِ النسّاك يتطاير الأبرار بالعشق الإلهيّ. وسها داؤود عن أكل خبزه حين تأمّل بالله. والحالات عديدة، التي عند الضرورة ضحّى فيها بشرٌ بكلّ ما هو ماديّ من أجل ما هو روحيّ. يشكّل الشهيد الصورة المطلقة لغلبة خيار الروح على خيار المادّة عند الإنسان، ولهذا للشهيد كرامة خاصّة. لا ننسى أنّ حالات الشهادة هذه تتلوّن وتتعدّد، وكما قال بولس الرسول “من أجلك نُماتُ النّهار كلّه”، إنّه موت شهادة الحياة. الموت الذي يطلبه الكتاب منّا ثمناً لكي نحيا: “مَن أمات نفسه من أجلي يجدها”. هذه الحركة مِن تعشُّق الماديّات إلى عشق الإلهيّات هي ما يسمّيه بولس خَلْعُ الإنسان القديم (موته) ولِبْسُ الإنسان الجديد (قيامته).

هناك عشقٌ بشريّ داخليّ يلفت نظرَ الإنسان إلى كلّ ما هو صالح وإلهيّ وسامٍ، وهذه هي ساحة اللّقاء وحيز التواصل بين الله والإنسان؛ وهذه اللقاءات تسحب الإنسان من وضعيّته الراهنة إلى “ما هو أكثر” في العلاقة مع الله. هذه الجاذبيّة الروحيّة تجعل حياة الإنسان في حركة دائمة روحيّاً أيضاً. لذلك يظهر الإنسان دائماً مندفعاً بسبب هذه الدوافع إلى الله. جاذبيّة الله بالنسبة للإنسان هي جماله وصلاحه. تجيب الصورةُ الإلهيّة على عشق الإنسان الداخليّ الحقيقيّ. وجاذبيّة العالم بالنسبة للإنسان هي الحاجة إليه. ويحقّق العالم للإنسان وسيلة الحياة.

إنّ استمراريّة الحياة تضطرّ الإنسان حكماً أن يلتفت إلى العالم، لكن أحياناً بعد أن يستخدمه يشتهيه. كما أنّ اللهَ يتحرّك بصلاحه نحو الإنسان بالكشف الإلهيّ والعناية الدائمة، على الأبرار والأشرار؛ وهذا ما يولّد عند الإنسان، عندما يعي ذلك، الشعورَ بالانكسار والامتنان لله الذي يتذكّره حتّى عندما ينساه هو. يستنهض الروحُ القدس الرغبةَ فينا إلى الإلهيّات ويحرّك الصورةَ الراقدة فينا والرغبة المؤجّلة أو المجمّدة نحو طلب السماويّات. يثير الروحُ ما يلفت نظرنا إلى ذلك العالم الذي ننساه أو نتناساه؛ لعلّنا نعود “نتوب” إلى الله. وإذا ما حصل هذا وتحرّكت الرغبةُ فينا نحو الله يحرّكها الروح ويقودها بالنعمة. لكن كلّ ذلك دون أن يغصب حريّة الإنسان. الروح يستدعي، وإذا ما استجبنا يساعد. لكن الروح لا يغصب. لأنّ شرط الحبّ هو أوّلاً الحريّة! والحبّ بالغصب هو خنوع. لا حبّ إلاّ بحريّة الاختيار.

العطش الإنسانيّ، إلى الله أو إلى المادّة، هو في طبيعة الإنسان، لكن الالتفات إلى هذا الطرف أو ذاك هو خيار بشريّ.

هكذا يأتي التزامنا بالصوم وممارستِه رياضةً تنمّي فينا الالتفاتَ إلى الله والتجرّد عن شهوة العالم؛ الصوم يجعلنا نختار لأشواقنا المحبّة الإلهيّة. يقبل الصومُ أن نستخدم العالمَ، لكنّه يحفظ القلب لله. العالم غير شهوته. ونحن صائمون نبقى في العالم، لكن شهوتنا تكون مشدودة نحو الله. بالصوم، نحاول – ونحن نحيا في العالم – أن نتّحد بالله.

يروّض الصومُ ما فينا وما لنا من العالم. يشعل الصومُ فينا العشقَ الإلهيّ، الذي كتب عنه القدّيس اغناطيوس المتوشّح بالله قائلاً: “أكتبُ لكم وأنا بعد حيّ، أنّني أشتهي الموت، إنّ هيامي قد صُلب وليس فيَّ بعدُ عشقُ الماديّات، إنّما ماء حيّ رقراق يتدفّق فيَّ ويقول هلمَّ إلى الآب”.

هذا الماء الروحيّ الدفّاق الذي يُحييه الروح يشدّنا إلى الآب وإلى القريب أيضاً، ويخلق فينا ديناميكيّة الحياة الصالحة، آمين.

المطران بولس )يازجي(، متروبوليت حلب

 

 

سرّ الحرب الروحيّة