...

تعاليم آبائية حول شفاء الانغماس في الملذات

 

 

 

         حيث أن الانغماس في الملذات هو الهوى الرئيسي الذي تنبع منه الأهواء الأخرى، فإن من يريد أن يحرر نوسه من طغيان أهواء الجسد ينبغي أن يحوّل اهتمامه في هذا الاتجاه. يعلِّم القديس نيكيتا ستيثاتوس أن الشخص الذي يباشر الجهاد من أجل التقوى وهو مبتدئ في الحرب ضد الأهواء “ينبغي عليه أن يحارب بدون توقف ومن خلال كل أنواع التجارب ضد روح الانغماس في الملذات”. جهاده الرئيسي هو ضد هوى الانغماس في الملذات إذ هنا تبدأ الحرب من أجل الحرية الداخلية.

 

         إلا أنه ليس كافياً أن نريد التحرر من هوى الانغماس في الملذات وحسب. ينبغي علينا أيضاً أن نكون خبراء في هذا النوع من الحرب فلكلّ حرب طريقة مختلفة. توجد قاعدة في هذه الحرب الداخلية وهي وجوب الجهاد ضد أسباب الأهواء. ينطبق ذلك على الانغماس في الملذات أيضاً. إننا نفحص مصدر هذا الهوى وما يثيره، ثم نحارب هذا السبب. “لأن خطايانا تُجتَث بمجرد أن نصل لبغض أسبابها ونحاربها” (القديس ثيوغنسطس). لا ينبغي علينا أن نتجنب الأسباب فقط ولكن أن نبغضها. يتحقق ذلك بالتوبة الحقيقية التي هي مصدر الشفاء الحقيقي.

 

         ينبغي علينا أيضاً، بخلاف محاربة الأمور المثيرة للذة الحسية، أن نختبر الألم. لقد ذكرنا ذلك بالفعل، بحسب تعاليم الآباء النسكية المملوءة نعمة، اللذة الحسية مرتبطة بالألم. يخلق إشباع الرغبة في اللذة ألماً، واختبار الألم يبطل اللذة. عندما نتحدث عن اختبار الألم، فإننا نعني الأحزان اللاإرادية والنسك الإرادي كالمرض، والحرمان، والموت، وضبط النفس، والصوم، والسهر، وما إلى ذلك.

 

         يعلِّم القديس مكسيموس المعترف أن “الألم هو موت اللذة الحسية”. من الضروري بالنسبة لنا أن نتألم، لأن هذه هي طريقة شفائنا من اللذة. “يتعين علينا أن نتألم لأن طبيعتنا انخرطت في اللذة الحسية”. بالإضافة إلى ذلك، يعلِّم القديس مكسيموس أن كل الخطايا تقريباً تُرتَكَب بهدف الحصول على لذة، واللذة تبطَل بالضيقة والحزن. إنه يعني بالضيقة والحزن كلاً من الشدائد الإرادية من أجل التوبة، والأحزان الآتية من خلال التدبير الإلهي “الحاصلة بواسطة عناية الله”. تشفى اللذة بالضيقة، إما الضيقة الإرادية التي للتوبة، أو الضيقة غير الإرادية الناتجة عن الصعاب التي تواجهنا في الحياة. التوبة، التي هي حزن إلهي، تحطم اللذة. “تحطيم اللذة هو قيامة النفس” (القديس ثالاسيوس).

 

         نستطيع أن نقول نفس الشيء عن التجارب في حياتنا. إننا نواجه كل المحن الآتية علينا من خلال العناية الإلهية بصبر واحتمال، مؤمنين أن هذه هي الطريقة التي تحررنا من هوى الانغماس في الملذات. إننا لا ننبذ الألم لأننا نعلم أن الألم هو جزء من التجديد. إنه يبيد اللذة الماضية ويجعلنا قادرين على أن نعى ما هو نافع لنفوسنا بحق. على كل حال، ينصح الآباء القديسون بصبر كبير في هذا الجهاد. تتطلب ممارسة النسك الصبر والاحتمال: “الجهاد المستمر ينفي محبة اللذة” (القديس ثالاسيوس). ينبغي على النفس أن تكون مجتهدة ومجاهدة، وينبغي عليها أن تحب العمل الشاق. “الاحتمال الصبور هو جهاد النفس، وحيث يوجد الجهاد يختفي الانغماس في الملذات” (القديس ثالاسيوس).

 

         يعد كل المجهود النسكي الذي للإيمان الأرثوذكسي على أنه جهاد، ويشتمل ذلك على ضبط النفس، والصلاة، والصوم، والسهر، والطاعة. يعلِّم إيليا القس أن الخضوع للأهواء يُمحى من النفس من خلال الصوم والصلاة، ويُمحى الانغماس في الملذات من خلال السهر والصمت. يقول القديس ثالاسيوس “ضبط النفس، والصبر، والمحبة المصحوبة بالألم المستمر” يجفف الملذات الحسية التي للجسد والنفس.

 

         يعلِّم القديس نيكيتا ستيثاتوس بأننا نجعل روح الانغماس في الملذات خاملاً من خلال الصوم، والسهر، والنوم على الأرض، والأعمال الجسدية، وقطع إرادتنا الشخصية “بتواضع النفس”. إننا نجعله في نفس الوقت غير متحرك وغير فعال، ونقوده إلى سجن ضبط النفس بواسطة دموع التوبة.

 

         يساعد العمل النسكي لكل من الجسد والنفس على شفائنا من هوى الانغماس في الملذات.

 

يأتي احتقار اللذة من خلال الخوف أو الرجاء، من خلال معرفة الله أو محبته (القديس مكسيموس المعترف). تتطور المباهج الداخلية من خلال الخوف من الدينونة ومن الله، أو من خلال ترجي الفردوس، أو من خلال معرفة الله الروحية ومحبته، وبتعبير آخر من خلال شركتنا معه. عندئذ نتحرر من الملذات الخارجية. يحرر نمو حواس الإدراك الداخلية النفس. هذا هو السبب الذي يجعل التقليد الأرثوذكسي يشير باستمرار إلى تحول الملذات الحسية. يملأ الله نفس الإنسان ولا يدعها تسعى للشبع من خلال اللذة الحسية.

 

حيث أننا جميعاً مبتدئون في هذا السياق الروحي، ولا نعرف ما ينبغي عمله في كل موقف من مواقف حياتنا، أو أين نوجه انتباهنا بالضبط، يكون من الضروري أن نطيع شيخاً مميزاً. إنه سوف يرى بخبرته الشخصية، ولكن أيضاً بواسطة نعمة الله، الأهواء الرابضة داخلنا ويشفينا.

 

يكتب القديس يوحنا السلمي أنه عندما كان موجوداً في البرية خارج القلاية حيث كان السواح يعيشون، سمعهم يحنقون على شخص ما غير موجود. لقد كانوا يوبخونه بمرارة وغضب كما لو كان موجوداً بحق. عندئذ نصحهم أن يتركوا حياة الوحدة “لئلا يتحولوا من أناس إلى شياطين”. لقد رأى أيضاً آخرين يعيشون في جماعات رهبانية، والذين على الرغم من كونهم حسيين وفاسدين، كانوا “محبين للأخوة وللوجوه الجميلة”. لقد كانوا متأدبين من الخارج، ودودين ويصنعون الخير للآخرين. نصحهم القديس يوحنا السلمي أن يتبعوا طريقة الحياة النسكية “لئلا يتحولوا من مخلوقات عاقلة إلى حيوانات غير عاقلة”. في الحالة الأولى، كان السواح في خطر التحول إلى شياطين، وفي الحالة الثانية كان الرهبان في خطر التحول إلى حيوانات غير عاقلة.

 

         يكمل القديس يوحنا السلمي قائلاً أنه على كل حال كان يوجد آخرون أخبروه أنهم سقطوا في كل من هذين الشرين: ففي بعض الأحيان كانوا غاضبين، وفي أحيان أخرى كانوا متنعمين. لقد أوقفهم عن قيامهم بترتيب حياتهم الشخصية ونصحهم أن يعيشوا في الطاعة لشيخ مميز، وأن يفعلوا أي شيء يأمرهم به. يوضح ذلك أن الانغماس في الملذات هو هوى خطير جداً، يظهر نفسه كل مرة بشكل مختلف، وبالتالي يحتاج لطريقة مختلفة للتعامل معه في كل مرة. يساعد الهدوء في بعض الأحيان، وفي أحيان أخرى تساعد الحياة في شركة رهبانية. يمكن تحديد ذلك من قِبَل الشيخ المميز عديم الهوى. إنه الطبيب الذي يشفى بدون خطأ جراح نفس الإنسان.

 

ينبغي علينا أن نلقي بأنفسنا في الجهاد لكي نشفى من هوى الانغماس في الملذات الشرير، الذي يغلق علينا داخل أنفسنا و لا يدعنا نرى الأمور بوضوح أو لا يدعنا ننفتح على الله. لو كنا نحب اللذة الحسية فإننا نكون غير محبين لله. الانغماس في الملذات هو خطيئة العائشين في الأيام الأخيرة. يكتب القديس بولس الرسول لتلميذه تيموثاوس قائلاً: “ولكن اعلم هذا أنَّه في الأيام الأخيرة ستأتي أزمنَة صعبة، لأنَّ الناس يكونون محبين لأنفسهِم، محبين للمال، متعظِّمين، ……ممحبين للَّذّات دون محبة لله” (2تي3: 1-2، 4)

 

لا يستطيع محبو اللذة أن يحيوا حياة روحية، أو أن يشعروا بحلاوة الحب الإلهي. إنهم لا يستطيعون، ولا يريدون، أن يروا الحياة وراء الحواس. إنهم منحصرون في محبة ذواتهم. إنهم لا يعترفون بالمرة. فهم عندما يعترفون بخطاياهم، يوجهون اهتمامهم نحو الأطراف فقط، ولا يرون المشكلة الرئيسية أبداً، وبالتالي لا يجدون أي نفع في الاعتراف. الانغماس في الملذات هو مذاقة الجحيم الذي يبدأ في هذه الحياة ويقود للمرارة غير المحتملة وألم الجحيم الآتي.

ليت الله يحررنا من طغيانه.

 

الميتروبوليت إيروثيوس فلاخوس

www.orthodoxlegacy.org

 

 

 

 

 

تعاليم آبائية حول شفاء الانغماس في الملذات