...

القداسة

 

 

قال الفيلسوف ديكارت (Descartes): “أنا أفكِّر إذاً أنا موجود” (Je pense donc je suis). في المسيحيَّة نقول: ” أنا أُحِبُّ إذاً أنا موجود (j’aime donc je suis)”، هذا يُعطي معنًى لحياتي. أمّا بالنسبة لهدف الحياة في الكنيسة الأرثوذكسية فهو القداسة.
يقول الرَّبُّ يسوع في إنجيل يوحنا: “جئتُ لكي تكون لهم حياة ولكي تكون لهم أفضل” (يوحنا 10: 10). ويقول القدّيس سيرافيم ساروف: “هدف الحياة هو اقتناء الروح القدس”. في يوم العنصرة نزل الروح القدس على التلاميذ بشكل ألسنة ناريَّة. هو نفسه ينزل علينا ويستقرّ فينا في سرّ المعموديّة. الروح القدس هو الذي يجعلنا نشترك في حياة الله، في قداسة الله القدّوس وحده.
ينادي الله شعبَه منذ القديم: “كونوا قدّيسين لأنِّي أنا قدُّوس” (أخبار 11: 45)، وأيضًا، في العهد الجديد: “كونوا أنتم أيضًا قدّيسين في تصرّفكم كلّه” (1 بطرس 1: 15-16). هذه القداسة تحقَّقَت بملئها في يسوع المسيح قدوس الله وحده.
* * *
كلُّ إنسان مدعوٌّ لكي يشارِكَ قداسةَ اللهِ بالنعمة الإلهيَّة. المشارَكَة تحصل، منذ اليوم، في القداس الإلهي الذي هو مملكة الآب والابن والروح القدس، وهي تذوُّقٌ مُسْبَق للملكوت السماوي “الآن وهنا”.
* * *
القدّيس هو المفروز، المخصَّص لله. لذا، في سرّ المعموديّة يُقَصُّ من شعر المعمود علامةً على تكريسه لله. الحياة الإلهيَّة دخلَت فيَّ، في جسدي، في كياني كلّه. أصبحتُ واحداً مع كلّ القدِّيسين، عضواً كامِلاً في الكنيسة، في جسد المسيح. هذه كانت غايةُ تجسُّدِ ابن الله وآلامِه وموتِه وقيامتِه وصعودِه إلى السماء وإرسالِه الروح القدس.
لكن كيف نتقدّس؟
بذورُ النِّعمةِ فينا، منذ المعموديّة، هي طاقةٌ كامِنَةٌ إلهيَّة، (Énergie divine en potentiel)،
فكيف تتحوّل إلى طاقة فاعلة (Énergie cinétique) في حياتنا؟
علينا، وبملء حرّيتنا، أن نتقبَّلها، أن نتبع طريقَ المسيح، مثالَه، أن نكون مأخوذين بمحبّته، متطلّعين إليه، متشبِّهين به، تابعين وصاياه. هذه كانت مسيرةُ القدّيسين الذين انفصلوا عن “روح العالم”، روح هذه الدنيا، وليس بالضرورة عن العالم. هذا هو المعنى الحقيقيّ للتوبة (Métanie- repentir) أي تغيير طريقة تفكيرنا، طريقة حياتنا، وليس فقط الندم على خطايانا.
طريق القداسة أيّها الإخوة الأحبّاء تكون:
1- بنَبْذِ روحِ العالم، أي الخطيئة التي أصبحت “موضة” في أيّامنا. نحن غير ملزَمين أن نتقبَّلَ كلّ ما يأتينا من وسائل الإعلام ومن الدعايات الفارِغة.
2- هناك أماكن، أشخاص، عادات لا تتَّفِقُ مع معتقداتِنا، يقول الرسول بولس: “إنَّ المعاشَرات الرديئة تُفسِدُ الأخلاق الجيّدة” (1 كور 15: 33).
3- أن نتعلّم كيف نستخدم إيجابيّاً التكنولوجيا الحديثة.
4- إحذروا من الفلتان الجنسيّ باحترام الشخص (personne) لا بإخضاع العلاقات للشهوة.
أخيراً وليس آخِراً، القداسة غير الأخلاقيّات. المسيحيَّة ليست مجرَّدَ دِين، وصايا وشرائع، هي نارُ محبّةٍ آكِلَة للرَّبّ وللآخَرين، تشتعِلُ في قلوبنا. هي تخطِّي النُّظُم الاجتماعيَّة دون إلغائها، هي السماء على الأرض.
أفرام، مطرن طرابلس والكورة وتوابعهما
عن “الكرمة”، العدد 24، الأحد 10 حزيران 2012

 

 

القداسة