...

الصّليب كمال الحرّيّة!.

 

 

   لا فراغ في النّفس. يُفرغُ الإنسان نفسَه ولا يَفرغ من ذاته!. إحساسه بالفراغ من امتلائه من ذاته!. فلأنّه يأتي من العدم يشعر في نفسه بالفراغ!. لذا إمّا يمتلئ من نفسه أو يمتلئ من الله. وبين هذا وذاك سيرة عمر. السّقوط حركة تلقائيّة إلى طلب ما للنّفس من دون الله. الله، بعد السّقوط، لم نعد نعرفه إلّا بغصب النّفس!. إذا طلبتَ ما لنفسك تخلّيتَ عن الله، وإذا التمستَ اللهَ تخلّيتَ عمّا لنفسك. لا تقدر أن تحبّ نفسك والله. إمّا الواحد وإمّا الآخر. متى طلبتَ نفسك كنت، في عين نفسك، حرًّا من الله. ومتى طلبت الله، كنت، في عين الله، حرًّا من نفسك. إن التمست الحرّيّة، كما تراها في عين نفسك، أحببت نفسك. عمليًّا، محبّة نفسك ليست محبّة، بالمعنى القويم للكلمة؛ لأنّ المحبّة تستلزم أن يكون هناك آخر تنعطف عليه، تمتدّ صوبه، تصبّ فيه. تترك مكانك، حيث أنت، في داخلك، عن إرادة، لتخرج إليه، حيث هو، دون أن تذوب فيه، تتحرّك في اتّجاهه. موقعك، مكانك الّذي تنطلق منه، داخل نفسك، هو كيانك، أي حيث أنت كائن. هذه هي ذاتك. هناك يقيم وعيك لنفسك. ماهيةُ ذاتي لا أعرفها. فقط أعرف نفسي لأنّي أعيها. فمتى تحرّكتُ، في الكيان، باتّجاه الآخر، حقّقتُ كياني، حقّقت ذاتي. بالانعطاف أتحقّق!. إذًا، بالمحبّة أصير إنسانًا، لأنّي بحركتي الكيانيّة صوب الآخر، أحقِّق ما خُلقتُ من أجله. أنا مخلوق محبّة. لذا قلت، بالمحبّة أصير إنسانًا، لأنّي بغير المحبّة أبقى مشروع إنسان. فإن لم أُحبب، واكتفيت بنفسي، فإنّ ما للإنسان فيّ يضيع. ماذا يبقى إذ ذاك؟ إنسان مِسخ!. إنسان مشوّه!. كيان أبرص!. لذا قلت، محبّة النّفس ليست محبّة، لأنّ المحبّة ليست قائمة في ذاتها بل في الآخر. في الحركة الدّائمة صوب الآخر تلقاها، وإلّا لا تكون!. هكذا، بحركة المحبّة الدّؤوب تلقى نفسك الحقّ، تحقّق نفسك الحقّ، تصير نفسَك الحقّ، في البهاء الّذي خلقك ربُّك عليه!.

   عمليًّا، إذًا، لا محبّة للذّات ممكنة إلّا من منطلق محبّتك للآخر. على هذا، لا تعرف المحبّة إذا أحببت ذاتك في الآخر بل إذا أحببتَ الآخرَ في ذاتك!. بمحبّتك للآخر توجد محبًّا، في الحقّ، لنفسك!. هناك محبّة حقّ لنفسك وهناك محبّة باطلة. محبّتك الحقّ لذاتك، بمعنى حرصك الكامل على نفسك، من محبّتك للآخر تنبثق. أمّا المحبّة الباطلة للذّات فمِن إقامتك في ذاتك. إذ ذاك، توجَد مسمِّمًا نفسَك. المحبّة الحقّ للنّفس هي البرّ، والمحبّة الباطلة هي الخطيئة. فمَن يصنع البرّ لا تكون له، فقط، محبّة حقّ لنفسه، بل تكون له محبّة حقّ، بالأَولى، للآخر. ومَن يصنع الخطيئة لا تكون له، فقط، محبّة زيف لنفسه، بل تكون له بغضة، بالأَولى، للآخر!. الآخر، للبار، قِبلة عين؛ والآخر، للخاطئ، مِضغة، مادة استهلاك!.

   ومَن الآخر؟.

   هو الله أوّلًا!. مَن قال إنّه يحبّ الإنسان الآخر وهو لا يبالي بالله، فهو كاذب وليس الحقّ فيه، لأنّ مَن لا يحبّ الله لا يقدر أن يحبّ مَن “يعتبره” أخاه. يحبّ ذاته، في نهاية المطاف، في “أخيه”!. لذا ثمّة إنسانويّة (Humanism) سليمة وإنسانويّة فاسدة. الأولى تأتي من محبّتنا لله، والأخرى ممّا ندّعيه أنّه محبّتنا للإنسان!. لا يمكن الإنسانويّة الحقّ أن تكون قرينة الإلحاد!. وما الإلحاد؟. ثمّة نوعان من الإلحاد: الأوّل هو التّمسّك بعبادة الذّات بالكلّيّة والتّنكّر الكامل لله، كما لو كان فكرة، مفهومًا، ببرودة عقليّة تامّة. والثّاني التّمسّك بالرّأي الذّاتيّ الرّافض لله من منطلق رفض الرّسوم المعروضة عنه في المجتمع. الأوّل يتنكّر لله كفكرة، وهو ليس فكرة. والثّاني يتنكّر للشّهادة المعروضة عنه، وهي مغلوطة أو ناقصة. الأوّل غريق غروره، والثّاني غريق ردّة فعله. ليس أيّ منهما يعتقد، في عمقه، أنّ الله غير موجود، هذا وهم، ولو قال به، بل الأوّل يُحيله مفهومًا، ثمّ يدّعي أنّ “مفهوم” الله باطل، والثّاني يكتفي من الله بما بلغه عنه ولم يعجبه، ويعلن رفضه لله جملة وتفصيلاً ويعتبره كأنّه غير موجود!.

   الإنسان حرٌّ في أن يختار، لحياته، خطّ السّير الّذي يرغب. فإن اختار أن يحبب نفسه من دون الله فإنّه يمسي أسير خياره، ولا يعود له من الحرّيّة شيء آخر!. هذه تكون خطيئته!. ما الفرق بين الخطأ والخطيئة؟. الخطأ هو خطأ في ما لا حياة فيه، والخطيئة خطأ في مَن هو حيّ، في الإرادة، في المحبّة والمحبوبيّة… لكن حرّيّة الخيار هي أقلّ الحرّيّة. هذه إن كانت للخطيئة ضاعت. فإنّ مَن يصنع الخطيئة يصير عبدًا للخطيئة!. الخيار السّيّء يسيء إلى إنسانيّة الإنسان!. أمّا مَن أحسن الخيار، فإنّ حرّيّته تزدهر وتدفعه في مراقي محبّة الله، ومن ثمّ في مراقي محبّة الإخوة. فإن تعاطى المرء حرّيّته، على هذا النّحو، فإنّه، لطبيعة المحبّة الّتي أُعطي له بالخِلقة أن يتعاطاها، يصير، بمعنى، لله صنوًا!. القول الكتابيّ أنّ الله خلق الإنسان على صورته ومثاله، كان لأمرَين: الأوّل أنّ الله زوّده بكلّ ما يحتاج إليه، حرًّا، لكي يختار أن يستجيب لمحبّته بمحبّة. هذه هي الصّورة. والثّاني أنّ الله، متى استبان الإنسان مريدًا بالكامل لأن يستجيب لدعوة ربّه: “أعطني قلبك يا بنيّ!”، كان مستعدًّا لأن يُسبغ عليه نعمته، أي روحه، أي حياته غير المخلوقة، أي أن يصير إلهًا – أنا قلت إنّكم آلهة!. هكذا رسم وهكذا ارتضى -!. هذا هو المثال!. إذًا الحرّيّة يَبلغ الإنسانُ ذروةَ قصدِ الله من زرعها فيه، متى حملته إلى الباري، حرًّا، ليستقرّ في حضنه، ليقيم في محبّته، ليسكن فيه   – أنا فيكم وأنتم فيّ كما أنّي أنا في الآب والآب فيّ -. الحرّيّة للمحبّة لأنّه لا محبّة بلا حرّيّة. أمّا الوقوف عند حدود حرّيّة الخيار فلا معنى له ولا قيمة. ليس الأهمّ أن تختار بل ماذا تختار. خيار بلا قصد عبث. وأن يختار الإنسان ما لنفسه، ولا حياة له في ذاته، خيار غاشم يجعل وجوده بلا معنى!. هذه فلسفة العدم. حياة بلا معنى تؤول إلى موت بلا معنى؛ بين هذا وتلك عيشٌ تفه وسُكرُ أوهام!.

   إذًا تصير حرًّا متى أحببتَ، ومتى أحببت تبذل نفسك لمَن تُحبب، لربّك. تموت عن نفسك لديه، تستعبد نفسك إليه. في هذا الفعل تكمن حياتك، ومنه تستمدد هوّيّتك. تصير إنسانًا على ملء قامة الإنسان. ما دام الإنسان في حال السّقوط، وما دام أسير الخطيئة، فالقيامة والحرّيّة الحقّ لا تكونا إلّا بالبذل الكبير، بالصّليب!. للرّاتع في خطاياه، الصّليب لعنة، ولمَن يشاء أن يقوم من موت خطاياه، الصّليب البركة!. بالجراحة، في جسد المريض، تُستأصل العلّةُ، بيتُ الدّاء، وبالصّليب، في عرش القلب، تُستأصَل الأهواء، أصلُ العلّة!. من الألم البهي، للمحبّة، تأتي العافية والرّاحة، العافية عفوًا، أي غفران خطايا، والرّاحة حياةً أبديّةً، أي روحًا قدّوسًا!.

   بالصّليب تجلّت محبّة الله بالكامل. “قد تمّ”، قال السّيّد، مشبوحًا على الصّليب. وبالصّليب تتجلّى محبّة الإنسان لله بالكامل. ليكن لي بحسب قولك!. تعلّموا مني!. في يديك، أستودع روحي!. هو أسلم الرّوح، لكيما بروحه نُسلم الرّوح… بين يدَي الآب!. تبارَك الله!.

الأرشمندريت توما (بيطار)، رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي، دوما – لبنان

عن “نقاط على الحروف”، 3 نيسان 2016

 

 

الصّليب كمال الحرّيّة!.