...

الصَّـوْمُ

 

 

الصَّوم خُلْوَةٌ مع الله. يبتعِدُ فيه المؤمنُ عن الملذَّات الدنيويَّة الجسديَّة ليُرَكِّزَ على الملذَّات الروحيَّة. يُشَبِّهُهَ القدِّيس باسيليوس الكبير إلى نَسْرٍ لا يستطيع أن يُحَلِّقَ إِلاَّ بجناحَي الصَّلاة وعملِ الرَّحمة. مارَسَه المسيحُ نفسُه أربعين يوماً وبعدَها جرَّبَهُ الشَّيطان ثلاثاً. حينَها قال للمجرِّب: “ليسَ بالخبزِ وحده يحيا الإنسان بل بكلِّ كلمةٍ تَخْرُجُ من فمِ الله” (متى 4: 4). هذا ما يعلِّمُنَا نحن أبناء القرن الحادي والعشرين أن لا نكتفي بالأمور الجسديَّة ولا نركِّز عليها.

نبدأُ بالجهاد في التَّحرُّرِ من وَطْأَةِ شهوةِ الجسد، شهوة الطَّعام الَّذي يَسْتَلِذُّهُ اللُّبنانيُّون. إلى جانب ذلك، في زمن الإِمْسَاكِ صَوْمٌ عن المعلومات، عن التلفزيون الَّذي يَسْتَعْبِدُ ويُظْلِمُ الكثيرين في أوقاتِ فراغِهِم، صومٌ حتَّى عن الأخبار العالميَّة إِكتفاءً بالإنجيل والصَّلوات، فرصة لعمل الرَّحمة: زيارةُ المرضى والمحزونين، إعانةٌ للمحتاجِين، إمْتِنَاعٌ عن كلِّ ما يُحْزِنُ اللهَ والآخَرين، عملٌ كثيفٌ للإحسان، تَرَوُّضٌ على المحبَّة، تَذَوُّقٌ لطهارَةِ الجسدِ والنَّفسِ واستِبَاقٌ لقيامَتِهِمَا.

* * *

يُعَلِّمُنَا آباؤنا القدِّيسون أَنَّ الجهادَ الرُّوحيَّ من أجل الخلاص يبدَأُ بتطهيرِ النَّفسِ والجسد. هذا إستناداً إلى قول الرَّبِّ يسوع 

 

في إنجيله: “طوبى لأنقياء القلوب لأنَّهم يعاينون الله”. مُبْتَغَانا، إذاً، أن نصيرَ أنقياءَ جسداً وروحاً حتَّى نعودَ إلى حياة الفردوس، والفردوس بالنِّسبة لنا هو هذه الأُلْفَة مع الله. هكذا، يصبح اللهُ حبيبُنا الأَوْحَد ومنه ننطلِقُ إلى محبَّة الآخَرين.

 

 * * *

تاريخيًّا، إبتدأ الصَّوم كانقطاع تامّ عن المأكل والشرب ثلاثة أيّام قبل الفصح، ثم اتَّسَعَ مع خبرةِ الكنيسة فصار أربعين يوماً. كان الموعوظون يتدرَّبُونَ خلالها على التَّعليم في سبيل المعموديَّة المقدَّسَة في الفصح. القانون 56 من المجمع الخامِس-سادس، مجمع تروللو (692)، يقول أنَّ الَّذي لا يصوم يُقْطَعُ من شركة الكنيسة. مع ذلك، لا يُمارَسُ اليوم هذا التَّأديب الصَّارِم. لكنَّ الكنيسة الأرثوذكسيَّة لا تزال تعتبرُ أنَّ الصَّومَ  وجهٌ أساسيٌّ من وجوهِ الإنتماءِ إلى الإيمان، والَّذي يخالِفُ يخالِفُ على حسابِه الشَّخصيِّ أي يخسَرُ روحيًّا.

الـمُحِبُّ، في خبرةِ كلِّ إنسان، يعرفُ أنَّ عليه أن يمتنِعَ عن كلِّ شيءٍ يبعدُه عن محبوبِه. هذا يعني أنَّ الدافِعَ الأخيرَ للصَّوم هو عِشْقُنَا لله ومحبَّة القريب.

أفرام، مطران طرابلس والكورة وتوابعهما

عن “الكرمة”، العدد 11، الأحد 17 آذار  2013

الصَّـوْمُ