...

الشجاعة والقداسة

 

 

 

الإخوة الأبناء الأحباء،

بعد مرور عيد العنصرة وصلنا اليوم إلى أحد جميع القديسين أو بكلمة أخرى عيد القداسة التي تثبتت لجنسنا البشري بحلول الروح القدس. وإذا لم يتقدس الإنسان يبقى من التراب وإلى التراب أو من الأفضل أن يبقى هكذا ولا يدخل في مرحلة الحساب.
القداسة هي التي تشعر الإنسان بالشجاعة لمواجهة الله. لأن القداسة تعطي للإنسان خبرة والخبرة تنمي المعرفة والإنسان العارف بشيء معين يجاوب عنه واثقاً في أي وقت يُسأل عنه.

ولكن الشجاعة لا ترتبط بالقداسة كمرحلة لاحقة للمعرفة بل هي ملازمتها في كل وقت. فالإنسان المجاهد لا يمكنه أن يتقدَّم في ساحات الجهاد الروحي إذا لم يكن قد وطد العزم وثبَّت الوجه لمواجهة الشرير عدو الإنسان وللمواجهة اللائقة والمرتبة في كل حين.

هكذا يتكلَّم الآباء القديسون، أن الإنسان الشجاع هو الذي لا يخشى أن يواجه ذاته وضعفاته. ولا يخشى أن يتخلى عن أنانيَّته وأن يبتعد عن شهواته. الإنسان الشجاع هو الذي تعمَّق في السلام الداخلي ولم يعد محتاجاً لا لحراس ولا لجنود ولا لبوابات حديديَّة ولا لأسوار عالية. الإنسان الشجاع يستطيع أن يفعل كما فعل الفيلسوف سقراط صاحب الفضيلة الأسمى في أثينا، يمشي في السوق بدون حراس بينما الملك لا يمشي بدون حراس. الإنسان الشجاع هو الذي يقترب ويتغلَّب بلا سلاح إلى ما يقترب منه صناديد الرجال بالسلاح والدروع والسيوف. لقد أَعْطَتِ القداسةُ (أي الروح القدس) للآباء القديسين أن لا يخافوا الوحوش. فكانوا ينامون معها (القديس سابا وغيره) أو يستخدمونها كالقديس جراسيموس الاردني. والقديس ماماس وغيرهم ألم تربض الوحوش بنعمة عند قدمي القديسة الشجاعة تقلا، ألم تبتعد عنها الأفاعي السامّة. إن من يطالع سير القديسين يجد إلى أي حد من الشجاعة قد توصلوا فيقدمون على ملاقات الموت مباشرة وبدون خشية، مثالنا الأهم على ذلك القديس إغناطيوس الإنطاكي بطريرك إنطاكية الذي قال كلمته المشهورة راجياً المسؤولين في روما ألا يتواسطوا ويبعدوا عنه قرار رميه للوحوش “أنا حنطة يجب أن أطحن بين أنياب الوحوش لأكون خبزاً لذيذاً لسيدي يسوع المسيح”.

لقد أذهل المسيحيون الأوائل العالم بصلابتهم أمام الموت. نتساءل لماذا؟ الجواب لأنهم كانوا يعيشون تلمذتهم ليسوع المسيح كما يرتضي يسوع المسيح وكانوا واثقين أنَّهُ هو الذي يشجعهم على هذه المواقف التي يقف الكثيرون أمامها غير مصدِّقين ما يقرأون أو ما يسمعون. فكيف سيصّدقون أن تلميذ أحد الآباء أمره بإحضار الضبعة على أنها عجلة فأحضرها له، وهم في كل حياتهم عندهم كلمات الرفض والعنف والشك تجاه الآخرين والأنانية المتجذِّرة في توجهاتهم وهذه كلها ضد القداسة وقاطعة لطريق القداسة. كيف يصدِّقون ما يروى عن القديسين صدقاً حقيقياً وهم يشتهون أن يعيشوا مثلهم ولكنهم لا يتجرأون.
لا يقول الكتاب في من يفتح مدناً في الحروب شيئاً ولكن الكتاب يمدح الذي يضبط ذاته، قائلاً عنه، إنَّ من يضبط ذاته أفضل ممن يفتح مدينة.

مثال الشجاعة: هو القدوس الوحيد ربنا يسوع المسيح الذي كان يسير بخطى حثيثة نحو الصلب ولم يخشَ اليهود ولا الحكام ولا العادات والتقاليد الدينية وغير الدينية إذا كانت ضد حرية الإنسان وكرامته وعيشه كما يليق بالخليقة العظمى التي جعلها الله على الأرض متسلطة (الإنسان) ووريثة لملكوت السماوات.

أيها الإخوة الأحباء، إن المجتمعات الاستهلاكية اليوم لا تقودنا في طريق القداسة وبالتالي لا تأخذ بيدنا في سبيل الشجاعة والمواجهة بل تجعل من الإنسان ورقة يابسة في مهب الريح يحتاج لكل شيء ويخاف من كل شيء يخاف أن يجوع، يخاف أن ينقص شيء مما معه، يخاف أن يواجه ذاته، يخاف أن يسبقه غيره في الصرف والتنعم والتبذير، يخاف من أولاده، يخاف من أصحابه، يداري الجميع، أما الثابت الجنان المملوء بالنعمة فيخاف فقط أن يخسر طريق الفضيلة ويخشى على الناس ضياعهم وتشتتهم.

المهم أيها الإخوة الأحباء أن طريق القداسة سهل وهيِّن وهكذا يؤكد لنا السيد له المجد “احملوا نيري عليكم لأنَّ نيري هين وحملي خفيف”. وكل من تشجع وتقوى في هذا الطريق تقدَّس وصار يأتي بأعمال عظيمة فوق إمكانيات العقل البشري. أما من سار بغير طريق فيعيش في الندم والضياع وسيكون محظوظاً إذا أدرك التوبة.

من بين أنواع الشجاعة، شجاعة بشريّة لا يقدم عليها الإنسان المملوء من النعمة وشجاعة أخرى لا يقبلها من يكتفي بالشجاعة المعروفة في هذا العالم. الإنسان المؤمن بالرغم من اكتفائه أن يعيش جريئاً في روحانياته وفضائله يمكن أن يقف مواقف بطولة بحسب العالم وتدهش العالم. أما الشجاع في العالم فقط فهو جبان أمام ذاته ولا يجرؤ أن يدخل عالم الروحانيات. بحسب العالم، الإنسان الشجاع هو من يدبر ذاته ولو سحق الناس. أما بحسب الله فالإنسان الأشجع هو الذي يسحق ذاته لكي يخلص الآخرين وليس حب أعظم من هذا.

نسأل الله تعالى أن يجعلنا جميعاً قديسين ويقدسنا بنعمة روحه القدوس ذاته التي سكبها على تلاميذه في يوم العنصرة لنعيش الحق ونشهد للحق بأقوالنا وأفعالنا ليكون الله المثلث الأقانيم عجيباً فيكم وأنتم بجلباب القداسة رافلون وكل عام وأنتم بخير.

باسيليوس، متروبوليت عكار وتوابعها

عن “الكلمة”، كنيسة طرطوس، السنة 26، العدد 11، الأحد 30/6/2013

 

 

 

الشجاعة والقداسة