...

الخليقةُ مشروعُ محبَّة

 

 

 

“ورأى اللهُ أنَّ هذا حَسَنٌ”. خُلِقَ الإنسانُ حُرًّا من أجل المحبَّة. هو صلةُ وَصْلٍ بين الخالِقِ والمَخْلُوق. قدماه على الأرض وفكرُه مُتَّجِهٌ نحو السَّماء. هو جَسَدٌ وروحٌ، ظَاهِرٌ وخَفِيٌّ.

يقول القدِّيس إيريناوس: “خَلَقَ اللهُ الإنسانَ لكي يُقَدِّمَ اللهُ له مواهِبَهُ العجيبة”. الخَلْقُ عَمَلُ محبَّةٍ من جهةٍ واحِدَةٍ، من أجل الشَّرِكَة وتبادُلِ المَوَدَّة. هذه المبادَرَةُ تَسْتَدْعِي القَبُولَ أو الرَّفْضَ.

خُلِقَ الإنسانُ إذًا لكي يشتَرِكَ بالحياة الإلهيَّة. الحضارَةُ الحالِيَّةُ ترفُضُ الشَّرِكَةَ مع اللهِ لأنَّها تستخدِمُ الخليقةَ دون الرُّجوعِ إلى الخالِق، ممَّا يجعلُ الإنسانَ المعاصِرَ يرفُضَ الآخَر.

إنَّ رَفْضَ الأزلِيَّة يدفَعُ الإنسانَ إلى التَّفتيشِ عن سعادتِهِ من خلال المُمْتَلَكَاتِ الأرضِيَّة. الخطيئةُ عندَهُ أنَّهُ أَخْطَأَ الهدف: هذا هو مصدرُ المأساة البشريَّة.

*    *    *

عندما يفتحُ الإنسانُ قلبَهُ إلى الله، تَجْتَاحُ داخِلَهُ “القوى الإلهيَّة غير المخلوق énergies divines incréées، فَتُحَوِّلُ كيانَه دون أنْ تَمَس طبيعَتَهُ، كالحديد الـمُحَمَّى بالنَّار، يصبِحُ أحمرَ اللَّوْنِ ومُضِيئًا وحامِيًا: صورة عن التَّأَلُّه. الإنسانُ يَقْبَلُ الشَّرِكَةَ مع اللهِ دون أن يصيرَ إلـهًا بحسب الجوهَر.

الشَّرْقُ المسيحِيُّ كانَ يَتَطَلَّعُ دائِمًا إلى التَّأَمُّلِ والتَّسْبِيحِ أمام الخليقة. 

الغربُ المسيحِيُّ فَضَّلَ ٱستِهْلاكَهَا. هذا مختصرُ تاريخِ العلوم.

الغربُ ٱتَّجَهَ ٱبْتِدَاءً من الألفِيَّةِ الثَّانِيَة إلى العمل التِّكْنُولُوجِيِّ ممَّا حَوَّلَ عِشْقَهُ إلى “الخليقةِ عوضَ الخالِق”.

“ما أعظمَ أعمالَكَ يا رَبُّ كلَّها بحكمَةٍ صَنَعْتَ”.

أَصْلاً، يمتلِكُ الإنسانُ، ليس فقط أَعْيُنًا جسدِيَّة، بل أيضًا، أَعْيُنًا روحِيَّة تساعِدُهُ ليفهَمَ معاني الرُّموز في خليقَةِ الله.

كلُّ هذا لا ينفِي أهمِّيَّة المادَّة، مادَّة الطَّبيعة، لكنَّه يجعلُنَا نَتَطَلَّع إليها بمنظارٍ آخَر ونتعامَل معها من خلال هذا المنظار. 

اللهُ حاضِرٌ دائِمًا في الخليقة كلِّها. “الحاضِرُ في كلِّ مكانٍ والمالِئُ الكُلّ”. العلماءُ المعاصِرُونَ يختَبِرُونَ، من خلال فحصِ الجزئيَّات، أنَّ كلَّ الأشياءِ مرتَبِطَة ببعضِها البعض.

 

*    *    *

الإنسانُ عالَـمٌ صغيرٌ (microcosme)، هو جِسْرٌ بين الأرضِ والسَّماء، رسالَةُ حُبٍّ. والحُبُّ وحده يقودُ إلى الحُرِّيَّة. هو قادِرٌ – إنْ وَحَّدَ نفسَهُ – أنْ يُوَحِّدَ الخليقَة، إذ يقود المخلوقَ إلى خالِقِه. يفعلُ ذلك من خلال شُكْرَانِهِ على النِّعَمِ الَّتي يتمتَّعُ بها. بوداعَةٍ يعترِفُ بعطاءِ الخالِق السَّخِيّ.

إذا تمتَّع الإنسانُ بهذا الشُّكرانِ وهذا التَّواضُع، يصبِحُ على صورةِ المسيح، كاهنَ الخليقَةِ، يُقَدِّمُ كلَّ شيءٍ لله، بما فيها البيئةُ الطَّبيعِيَّة، وبالمقابِل يُعطِيه اللهُ الفرحَ والقداسَة: “الَّتي لكَ مِمَّا لكَ نُقَدِّمُها لكَ عن كلِّ شيءٍ ومن جهةِ كلِّ شيء”.

أفرام، مطران طرابلس والكورة وتوابعهما

عن “الكرمة”، العدد 28، الأحد 14 تموز  2013

 

الخليقةُ مشروعُ محبَّة