...

الخلاص بالمسيح

 

 

 

بقلم المطران الياس معوض عام 1964

النشرة البطريركيّة، العدد الثالث، 2010

كيف غلب المسيح وركّز راية الغلبة الأبدية، وفتح لنا الطريق والباب القائد إلى السماء. لم يختطف أسرى الخطيئة عنوة، بل أعطى حياته بدلاً، وربط القوي (الشيطان) وملك نفوس البشر، بعد أن قضى على طغيان العدد، لا لأنه يملك القوة، بل لأنه بتضحيته وموته أعطيت له سلطة القضاء على أعمال الشيطان عدالة وحقاً. وقد كشف النبي هذه العدالة بقوله “عدل وحكم تهيئه عرشك” (مز 89 : 14).
إن كلمة الله الذي أحنى السموات متنازلاً، وحلّ بين عبيده لكي يخلص الخطأة والساقطين من البشر، ويعيدهم إلى المكانة التي كانت لهم ما قبل الخطيئة الجدية، ويصالحهم مع الله الآب.
كلمة الله هذا الذي هو إله تام، صار لأجل محبته للبشر إنساناً تاماً مثلنا. واتخذ بدون استحالة الجسد البشري، بالروح القدس من العذراء مريم. التي لم تلد – إنساناً سامياً – اتحدت به فيما بعد الطبيعة الإلهية. ولكن من اللحظة التي بشر الملاك جبرائيل العذراء مريم بالحبل، اتحدت الطبيعة الإلهية بالجسد، الذي لم يأخذه السيد المسيح من فوقن بل من البتول العذراء.
فالسيد المخلص وهب الخلاص للعالم بتجسده، باتخاذه طبيعتنا البشرية التي جددها بطبيعته وخلصها ورفعها سمواً. “لأجل اتحاده الكلي بالطبيعة البشرية، رفع الإنسان، ووهبه الخلاص الكلي، لأنه إن لم يتأنس ويصبح مثلنا، لم يكن بالمستطاع أن يخلص الإنسان.”
وكما يقول بولس الرسول في رسالته إلى أهل أفسس (2 : 4 – 6) “غير أن الله كونه غنياً بالرحمة، ومن أجل فرط محبته التي أحبنا بها، وحين كنا أمواتاً بزلاتنا، أحيانا مع المسيح ….. ومعه أقامنا، ومعه أجلسنا في السموات، في المسيح يسوع”.
أما حياة المخلص على الأرض وتعليمه الإلهي، فقد صار للعالم مثلاً حياً يفتدي به البشر في سبيل الخلاص “لأن السيد المسيح لم يحثنا على السير نحو الفضيلة بالقوة، لكنه لأجل طهارته وطول أناته جعل البشر بأن يختارون الفضيلة”، “لأن المسيح الذي جدد الطبيعة البشرية باتخاذه جسداً، علمنا بكرازة الانجيل المقدس، بأن نعيش الفضيلة، وأنار لنا طريق الصلاح التي تبعدنا عن الفساد وتقودنا إلى الحياة الأبدية. ولكي نعيش الفضيلة هذه جعل ذاته المثل الصالح لنا، داعياً إيانا إلى معرفة الله الآب نبع الفضيلة والصلاح”.
فالخلاص صار لنا بانتصار المسيح على الشيطان، “الذي سحق أمخاله واعتقنا من عبوديته. وبدد قتام الخطيئة وأبادها كالدخان”، بصلبه وتقبله الموت عنا، “قدم ذاته قرباناً إلى أبيه السماوي لأجلنا، فداءً عن خطايانا ليحررنا من عبودية الشرير”.
إذن بموته على الصليب صار لنا الخلاص، وبتضحيته كان لنا الفداء. “المسيح الذي قدم ذاته ضحية، بموته على الصليب وطيء الموت وأباده، محا الخطيئة الجدية. حل أمخال الجحيم ووهب القيامة للجميع”، وبهذا أمكننا أن نحتقر كل ما هو زائل في هذا العالم حتى الموت، وفتح لنا أبواب الفردوس لنعود إلى النعيم الذي كان لنا قبل الخطيئة الجدية. وأجلسنا عن يمين العزة الإلهية، وجعلنا أولاد الله وشركاء في الميراث السماوي. لأن “ابن الله الذي هو إله بالحقيقة، تأنس واتخذ جسداً ليقدم ذاته فداء غالي الثمن إلى أبيه السماوي. لأن التجسد الفائق الطبيعة صار سبباً للخلاص، كما أن الدم الطاهر المهراق كان الفداء السامي الذي مكننا بأن نتصالح مع الله الآب، بعد أن وهب لنا غفران المعصية”.
إذن المخلص، بتجسده وتقبله المعمودية من السابق، وبتألمه وقيامته من بين الأموات، حرر الطبيعة البشرية من الخطيئة الجدية مسببة الموت والفساد، وصار بكر القيامة. وجعل ذاته طريقاً ومثالاً للخلاص، ليكون لنا نحن التابعين إياه في طريق الخلاص مكاناً.
وهو الذي جعلنا أولاداً لله وشركاء له في الميراث السماوي، لكن الخلاص لم ينحصر بالأحياء على الأرض، بل امتد وشمل كل الراقدين قبل الدهر، الذين تقبلوا بشارة الملكوت، وعندما انحدر السيد إلى الجحيم كارزاً الخلاص.
“إلى الجحيم انحدرت النفس الإلهية، لأنه كما أشرق للذين على الأرض المسيح، شمس العدل، كذلك ليشرق النور للذين في الظلمة وظلال الموت. وكما وهب الخلاص للذين على الأرض، يهب للذين في الجحيم الخلاص. ويحرر المأسورين ويهب النور للعميان. مانحاً المؤمنين الخلاص الأبدي، أما الجاحدون فإلى النار الأبدية المعدة لهم. لكي تجثو لاسم يسوع، كل ركبة مما في السموات وعلى الأرض وتحت الأرض. الذي اعتقنا من العبودية الأبدية وأقامنا بقيامته المجيدة”.
أما عن تقبل الجنس البشري للخلاص، الذي قدمه السيد بموته على الصليب، فيوضح القديس يوحنا الدمشقي عن ضرورة مساهمة العاملين الأساسيين، وهما العامل الإلهي، والعامل البشري، أي النعمة الإلهية من جهة، وإرادة البشر الحرة من جهة ثانية.
فعمل النعمة الإلهية ضروري إذن لخلاص الإنسان الساقط، “لأنه بدون مساعدة الله لا يستطيع الحصول على الصلاح، أو أن يعمله، وما علينا نحن إلا أن نبقى بالفضيلة، ونتبع الله الذي يدعونا إليها”.
“أو أن نبتعد عن الفضيلة، وهذا يعني بأن نعمل الشر، ونتبع الشيطان الذي يدعونا دائماً، ويقودنا إلى الخطيئة بإرادتنا، ذلك لأن فعل الشر، ما هو إلا الابتعاد عن الخير والصلاح”.
ولكي يخلص الإنسان يتطلب الإيمان والأعمال الصالحة، لأن “الإيمان بدون الأعمال الصالحة زائل ومائت، وكذلك الحال بالنسبة للأعمال الصالحة بدون الإيمان”.
والنعمة الإلهية المبررة والمقدسة توهب إلى المؤمنين بالأسرار المقدسة، التي يخص منها القديس يوحنا الدمشقي في تعليمه، سر المعمودية وسر الشكر الإلهي.
إن العدالة الإلهية لم تفتح فقط أبواب الخلاص، بل ظهرت من خلالها للجنس البشري، لأنه لم يكن بالإمكان في الأجيال العابرة أن يجد الإنسان عدلاً، قبل أن يتجسد المسيح. فالله ذاته الذي لا تخفاه خافية، ككلي المعرفة، فتش وقتئذٍ ليجد عدلاً على الأرض فلم يجد، “الكل زاغوا وليس من يعمل صلاحاً حتى ولا واحد” (مز 14 : 3)، ولكن عندما أشرقت الحقيقة وأنارت الذين في ظلام وضلال الكذب، ظهرت العدالة من السماء بطريقة كاملة وحقيقية للناس. وهكذا تبررنا نحن، أي اعتقنا من العبودية ورباط الخطيئة. حُكم على البريء من الخطأ، بالموت على الصليب، وهو الذي لم يفعل ظلامة واحدة. موته عن الخطايا التي ارتكبناها، وأصبحنا بموت السيد، نحن الخطأة، أبراراً وأصدقاء، فالمخلص لم يقض على طغيان الشيطان فقط، ولم يصالحنا مع الآب فحسب، بل أعطانا في الوقت نفسه “أن نكون أولاداً لله” (يو 1 : 12)، ولما كان قد وحد طبيعتنا بألوهيته، فإنه بالأسرار وحّد كل واحد منا مع

ذاته، وبهذه الطريقة وهب إلى ذواتنا نعمته وحياته. إذن فالخلاص الحقيقي يذوقه الإنسان ويناله بالأسرار التي أسسها السيد المسيح

 

 

 

 

 

 

 

الخلاص بالمسيح