...

البشارة

 

 

عيد البشارة هو يوم الخبر السارّ لأنه وُجدت في كل العالم البشري عذراء مؤمنة بالله وقادرة على الإصغاء والطاعة له إلى درجة أنه من الممكن أن يولد منها ابن الله. إنّ تجسّد ابن الله هو عمل المحبّة الإلهية – محبة الصليب الخلاصية – والقوة الإلهية من ناحية، ومن ناحية أخرى تجسّد ابن الله هو عمل الحرية البشرية.

يقول القديس غريغوريوس بالاماس إنه لولا الموافقة البشرية الحرّة لوالدة الإله لكان التجسّد مستحيلاً كما هو مستحيل بدون الإرادة الإلهية الخلاقة. وفي عيد البشارة هذا نحن نعاين في والدة الإله تلك العذراء التي استطاعت أن تثق بالربّ حتى النهاية بكل قلبها وبكل ذهنها وبكل نفسها وبكل قدرتها.

أمّا البشارة فكانت في الحقيقة رهيبة، فإن ظهور الملاك وتحيّته “مباركة أنت في النساء ومباركة ثمرة بطنك” كان لا بدّ من أن يثير في داخل العذراء التي لم تعرف رجلاً ليس فقط الدهشة والرعدة، بل الخوف أيضاً: كيف يكون هذا؟
وهنا نحسّ بالفرق بين إيمان زكريا والد يوحنا السابق – إيمان عميق ولكن متذبذب – وإيمان والدة الإله. أُُخبر زكريا أيضاً بأن زوجته ستلد ابناً بطريقة طبيعية بالرغم من شيخوختها، وكان جوابه لهذا الخبر الإلهي هو: كيف يمكن أن يكون هذا؟ هذا مستحيل! بماذا تبرهن ذلك؟ أي إشارة تستطيع أن تعطيني؟ أما والدة الإله فتطرح السؤال بهذا الشكل فقط: كيف يمكن أن يحدث هذا لي، فأنا عذراء؟ وردّاً على جواب الملاك أنه سيكون، هي تجيب فقط بتسليمها الكامل إلى يديْ الله: “هوذا أنا أمة الرب. ليكن لي كقولك”.

كلمة “أَمَة” في لغتنا المعاصرة تدلّ على الاستعباد، وفي اللغة السلافية كان يسمّي الإنسان نفسه عبداً إذا أعطى كل حياته وكل إرادته للآخر. وهي فعلاً قد أعطت كل حياتها وإرادتها ومصيرها لله وقبلت بالإيمان – أيْ بالثقة غير المدركة – البشارة بأنها ستكون أمّاً لابن الله المتجسّد. وقالت عنها أليصابات البارّة: “طوبى للتي آمنت أن يتمّ ما قيل لها من قبل الرب”.
نجد في والدة الإله قدرة عجيبة على تسليم الذات إلى الله كلياً، ولكن هذه القدرة ليست موهبة طبيعية، بل يمكن للإنسان تنمية هذا الإيمان في داخله عن طريق جهاد تنقية القلب والمحبّة نحو الله. كما يقول الآباء: “أَرِق الدمَ فستنال الروحَ”. قال أحد الكتّاب الغربيين إن التجسّد صار ممكناً عندما وُجدت في بني إسرائيل عذراء استطاعت بكل فكرها وبكل قلبها وبكل حياتها أن تنطق باسم الله بحيث صار الله – الكلمة بذاته جسداً فيها.

هذه هي البشارة التي سمعناها الآن في الإنجيل: إن الجنس البشري قد أنجب وقدّم لله عذراءَ صارت قادرة في حرّيتها البشرية الملكية على أن تكون أمّاً لابن الله الذي بذل نفسه بإرادته لخلاص العالم، آمين.

المطران أنطوني (بلوم) أُسقُف سوروج

 

 

البشارة