...

استرنا يا الله بستر جناحيك

 

 

 

عظة المطران جورج (خضر)

في دفن المتقدّم في الكهنة الخوري جورج (الخوري)

في كنيسة القديس جاورجيوس – برمانا

الثلاثاء في 12 كانون الأوّل 2011

 

 

 

سيادة الأخ الجليل كوستا كيال،

إخوتي الكهنة، والشمامسة، يا أحبة.

ماذا يستر الله بين جناحيه؟ انه لساترٌ اولا خطΑايانا لكي يحرقها. ما الذي يحرق خطايانا؟ هي المحبة الكاملة تحت جناحي الرب، اذ ليس من لقاء بين الحب والخطأ، الى أن تجري حياتنا في قبضة الحب الالهي. فإذا نظرنا الى وجه انسان، في القراءة النفسية التي لنا، نرى مجموعة خطايا مرسومة على وجهه. ولكن القديسين قالوا لنا: ينبغي أن تقرأوا فقط النور الذي جعله الله على هذا الوجه منذ الخلق. لا يبقى إلا النور. فإذا ما انتقل أيّ منا الى رحمة الله، لا يحق لنا الا أن نسمو بقراءة النور مطوّبا على وجهه وعلى عائلته.

كنت أتحرّك منذ أكثر من ستّين سنة في إحدى مدائن هذا البلد في الشمال. وإذ بي أرى شابا أفتى مني بقليل. سألتُه: من انت؟ قال: أنا جورج خوري. قلتُ: من يكون جورج خوري؟ اجاب: انا شاب من هذه الضيعة التي تسمى كفرعقّا في الكورة. وقال: تعال معي. ذهبت معه. واذ به يجعلني في وسط شُبّان هذه القرية، وقال: تكلّم. وكان في جيبي الصغير إنجيل اعتدنا نحن، تلك الجماعة، أن نقرأه في كل مكان. قالت الناس: هؤلاء قُرّاء الإنجيل، مع أنهم ينتمون الى مجموعة دينية لا تقرأ شيئا. طوّعنا هذه الجماعة لتجيء من الإنجيل، ولتصير كلمةُ الرب الجسر الوحيد بيننا. وأخذنا نتصاعد الى كفرعقّا والى جوارها. وبقي هذا الرجل المسجّى هنا يحنّ اليها، حتى الأسابيع الاخيرة من عمره. يذهب ليقول للأفتى: إنما انتم تجيئون من هذا الكتاب، وليس من كلمة اخرى في العالم. تجيئون منه او تموتون. قالوا: نحن لا نريد أن نموت. قال لهم هذا الرجل: اذًا، عليكم أن تقرأوا، أن تبتلعوا هذا الكتاب حتى يصير إياكم، وتصيروا إياه.

ثم غاب عنّي قليلا جورج خوري. ورأيته عاملا في أحد المصانع في بيروت. قلتُ له: أَقابلتَني لتجيء الى هنا، أَم لتعمل في الكلمة وتمتصّها؟ تعال الى حيث يجب أن نكون. ورأيتُه وخلاّنًا له يتردّدون علينا في تلك المنطقة، ويقولون: هذه سُلّم الى الله. نحن جئنا نصعد على هذه الدرجات لأننا لا نقبل شيئا أقلّ من أن نرى الله. ثم افترقنا قليلا بسببٍ من ظروف الحياة. ثم أُرسلت خادما الى هذه المنطقة، فوجدت الرجل في هذه القرية. قلت له: ماذا تعمل هنا؟ قال: انا صرتُ كاهنا لله العليّ، وخادما للناس بقوة الكلمة التي صارت لي وابتلعتُها. تركتُ الكلمة بين يديه تبتلع القوم. وقيل لي في تلك السنوات إن هذا الكاهن يحبّ الرعية لأنها رعية يسوع. هو لا يعرف إلا يسوع، ويريد هذه الجماعة أن تلتصق به حتى تصير منه، وحتى لا يعرف البشرُ إلا المسيحَ على وجه الكاهن. بقي في خدمتهم طوال عشرات من السنين، أكبرُكم يَعرفها وأصغركم ذاق ما تبقّى منها. وصرتُم كنيسة -ولا أُريدُ بها هذا البناء-، صرتم كنيسة المسيح. هي عظيمة فيه وبه، وتحاولون أنتم أن تُصبحوا عظماء بها وفيها، تحاولون. وهذا الرجل يتعذّب. قال لي مرّاتٍ: الإيمان قليلٌ وضعيفٌ عند الناس. ماذا أعمل بالناس؟ كيف آتي بهم الى الرب المبارك؟ كيف يتجلّون؟ كيف يَحيون بلا مسيح في صدورهم وقلوبهم وأمعائهم ولحمهم ودمهم؟ كيف يحيون؟ من أين يحيون؟ حاولتُ أن أُعزّيه وأن أقول له: إن المخلّص صابر عليهم، ومعذّب بهم ايضا، كما أنت معذّب بهم. ولكن كُتب عليك »أنتَ كاهن الى الأبد على ترتيب ملكيصادق«. أنت كاهن إلى الأبد، وأحد القديسين اللامعين قال لنا: الكاهن يبقى كاهنا في السموات، ولن يكون مثل بقية الناس فقط معمّدا. ولكن وُضعت عليه الأيدي، أي نزلت عليه بركاتُ الرسل الإثني عشر لكي يموت عن الرعية في سبيل حبّه لها. ألسنا نموت يا سيدي كل يوم من أجلك، وخطايانا مستورة تحت جناحيك؟ ولكن محبتك تتنزّل من هذين الجناحين لتُحرق خطايانا.

لقد عملتَ ما عملتَ يا أخي حُبّا بالمخلّص. وتعبت. وأخطأت. وهذا وضع الناس جميعا. ولكنك أردت أن تتوب. وهذا أعرفه. أَعرف هذه الإرادة. قلتَ لي منذ أيام: لقد اعترفتُ أمامك، ولكنك نسيتَ أن تحُلَّني. قلتُ له: انا لا أَنسى. أَعرف أن الآب والابن والروح القدس يَحلّونك من فوق. قال لي: خذ البطرشيل، وحُلّني. وهكذا أَطعتُ هذا الاخ الكريم، لكي يبدو جميلا أمام القديسين الذين لقيهم عند فراقنا عنه. سيقولون له: من انت؟ أأنت كنتَ هذا الولد من كفرعقّا، وهذا الكاهن من برمانا؟ هل انت هذا؟ يقول: انا دون ذلك. انا لستُ بشيء. انا أَحببتُ، وحاولتُ، وأَعطيتُ نفسي بالمعمودية لهذا الذي أَحبّني. وأنا أعود اليه حافيا عاريا، كما خرجتُ من بطن أُمّي. وبعد أيام من ولادته كاد يموت، ولكن الله حفظه لشأنٍ في مشيئته، حتى يأتي ويخدمكم، لكي يحسّ بصدمات في ذاته، لكي يشعر بجراحات في ذاته. ولكنه أَخذ خرقة وضعها في ماء المعمودية، ونضح نفسه بها، ونقّى نفسه بنعمة الروح القدس من كل خطيئة، حتى تُتابعوا أنتم مسيرة النقاوة، وحتى تفرحوا، لأن الميلاد آتٍ، ولأن الفصح دائما آتٍ، كل يوم.  جئنا هنا كثيرين لنُرافقه درجةً درجةً الى باب الملكوت ليسمع صوت الآب يقول له: »كنتَ أَمينا على القليل، سأَجعلُك أمينا على الكثير. ادخُلْ الى فرح ربك«. وفي صلواتكم جميعا ورجائنا أن أبواب الفردوس مفتوحة أَمامه لكي يبتسم له القديسون عند استقبالهم، ولكي يدنو من العرش. لا يستطيع أن يجلس على العرش، ولكنه يلامسه بيمناه، ويقول: جُرحتُ وصُدمتُ وأَخطأتُ. ولكني الآن أمامك أيها الآب والابن والروح القدس، تَمجّد اسمك الى الابد في الأبرار، آمين.

 

 

استرنا يا الله بستر جناحيك