...

أُرددْنا بالصّليب إليك

 

نجاوى للصّليبِ من ركعةِ الإنسانِ لربِّهِ…

 

   هكذا يأتينا الصّليبُ اليومَ مِرْفَقَ حُبٍّ يتفجّرُ عاليًا وسطَ الكونِ حاملاً لنا نورَ الحياةِ ومعنى وجودِنا الخلاصيِّ في المسيحِ الإلهِ، الرّبِّ يسوعَ القدّوسِ وحدَه…

   “إلى أين نذهبُ… كلامُ الحياةِ الأبديّةِ عندَكَ”… والحياةُ الأبديّةُ هي أنتَ… أنتَ وحدَكَ الكائنُ الّذي كان وسيكونُ وهو كائنٌ إلى الأبدِ…

   ونحن اليومَ، سيّدي وربّي وحافظُ حياتي بحملِكَ كلَّ من يأتيكَ، إليكَ، ليبقى فيكَ نورًا من نورِكَ، وحياةً من حياتِكَ، وموتًا من موتِكَ على الصّليبِ، الّذي ارتضَيْتَه كمجرمٍ للّذين خافوكَ، فاحتالوا عليكَ مسلمينَكَ حسدًا، لأنّكَ أحببتَ كلَّ الآتين إليكَ والدّاعين باسمِكَ والصّارخين لكَ، نقولُ لكَ:

   “يا ربَّنا وإلهَنا… لكَ المجدُ والسّبحُ المثلثُ التّقديسِ…

   لكَ نسجدُ وإيّاكَ نعبُدُ لنردَّ لكَ الوزنةَ الّتي خلقتَنا فيها ومنها وهي أنتَ وروحُكَ القدّوسُ لِعِظَمِ صلاحِكَ يا إلهَنا… يا برَّ حياتِنا ومُقطِّعَ قيودِنا”…

   يا إلهَنا… أنت الّذي دعيْتَنا مُحرِّرًا إيّانا من ربقةِ الأسرِ لنفوسِنا الّتي ربطَنا الشّيطانُ فيها وبها، كي لا نعرفَكَ إذ نعرفُكَ، ولا نرى نورَكَ معاينيكَ، يا برَّنا ويا حرّيّتَنا من زوالقِ نفوسِنا، من لجوئِنا إلى وضعِكَ في الظّلِّ حتّى لا نؤذيَكَ بنا وحتّى ننساكَ، فلا تتبعَنا في حياتِنا… بل تتركَنا لنَمْرَدَةِ خطيئتِنا، حتّى تعلوَ علينا بنا، فنصرخَكَ متألّمين لكَ وعنكَ… يا إلهَنا لماذا تركتَنا؟!…

   أنتَ يا مسيحَنا لنا!!… لأنّكَ اتّخذْتَنا… فهل نتَّخِذُكَ نحن أيضًا حبًّا، حياةً ومشيئةَ كينونةٍ ساجدين لكَ في إصباحاتِ فجرِنا… وآكلينَكَ في كلِّ لقمةٍ لنقدِّمَ فضلاتِ جوعِنا للّذين حولَنا، لفقراءِ أزقّتِنا الّتي فيها، بها ومنها تَعرَّفْنا إليكَ يا فاديَنا؟!.

   مِن على الصّليب اليومَ، تفتدينا!!…

   يا برَّنا… يا معينًا نغترفُ منه نَفَسَ أرواحِنا… يا بؤبؤَ أعينِنا الّتي تحفظُنا في نورِ عينَيكَ… يا جابلَنا من نَفَسِ تألّمِكَ علينا، لأنّنا ونحن في البحثِ عنكَ، نغيبُ عنكَ بحثًا عن ذواتِنا، عن إرثِنا الّذي نحملُه حياةً من حياتِنا لكَ، لكنّنا وإذ نلقاكَ لا تُقصي أعداءَنا عنّا، نخافُ منكَ علينا، نُسائلُكَ: لماذا تركتَنا نسقطُ في حبائلِ الشّرّيرِ المحيطةِ بنا؟!… ننتظرُ أن تعاملَنا كأنّنا أولادُكَ… نضعفُ، لكن أنت انتَشِلْنا… إئمَن لنا… نأمنْ نحن أيضًا لِبِرِّكَ فينا!!.

   لا تتركْنا إلى الانقضاءِ… لا تُبعدْ وجهَكَ عنّا… أُنظرْنا بعينِكَ، بروحِ دموعِ أمِّكَ الواقفةِ تحت صليبِ حبِّكَ لنا، ونحن لم نَصِرْ بعدُ أمَّكَ ولا حبيبَكَ الّذي تاقَ إلى الخلودِ بالحبِّ فوجدَكَ، ونحن الّذين نسعى كلَّ يومٍ لإرضائِكَ لماذا تتركُنا هكذا بعدُ يتامى؟!…

   في حياتِكَ لنا ومعنا على الأرضِ… كيف ترانا؟!… كيف تجدُنا… كيف تكونُ أنت حقيقةً خوفَنا من موتِنا؟!. من عمى أبصارِنا… من عدمِ ثباتِ مطالبِنا…

   وتُسائِلُنا: ماذا تريدون أن أفعلَ لكم… أن أصنعَ بكم؟!… لماذا تصرخون في اللّيلِ وفي النّهارِ تابعين أهواءَ قلوبِكم بعدَ السّقوطِ من بيتِ نفسي، من جسدي الّذي اتّخذتُهُ والآبَ لأصيرَ واحدًا معكم منكم ولكم، فلا تعودوا تخافونني أنا حياتَكم إذا رأيتموني معلّقًا على الصّليبِ لأفتديَكم؟!…

   أتيتكُم لأُغيِّرَ نظرَ وحسَّ وروحَ حياتِكم… لأصيرَكم فتروني لا كغريبٍ، بل إلهًا منكم ولكم، حاملاً صليبَكم وهو أنا وأنتم، وكلُّ آخرَ يعرفُنا… أنا وأنتم، فصيروني واحدًا فيَّ ومعي لأنّي أنا اخترتُكم… لكنّي سأبقى على صليبِ موتي حتّى تختاروني روحًا وحياةً لحياتِكم، فأمتدَّ إليكم وأُصعدَكم معي إلى خلاصِكم بألمي لأجلِكم وفيكم على الصّليبِ!!…

   أنتم مباركون لأنّكم ارتضيتموني إلهًا وربًّا ومخلّصًا وأنا فيكم ومعكم على الصّليب…

   يا أحبّائي… حجّةُ وداعي لكم اليومَ أنّكم صرتموني لأنّكم ارتضيتُم وتبنّيتُم واقعَ ألمِكم، خطيئةَ برِّكم ولم تتركوني معلّقًا وحيدًا، لا هيئةَ لي معكم وفيكم ولا منظرَ، إلاّ وجهَ نورِ الإلهِ الآبِ على وجوهِكم مشعًّا على الصّليبِ فيّ ومنّي ولي على وجوهِكم، لكم…

   أنتم يا فَرَحَ صلبي وقيامتي في كلِّ من يبكي ضعفَهُ وخطيئتَهُ في تركي وحيدًا مصلوبًا على حبِّكم ولم تنزلوني بعدُ… لكنّكم لا تستطيعون إنزالي عن صليبي عن ومن مجدي ومجدِكم، إن لم تصيروا أحياءً في كلٍّ منكم فيَّ ومني لكم وللعالمِ الّذي ينتظرُني وقيامتي في كلِّ ضعيفٍ وفقيرٍ ومضطهدٍ ومتروكٍ ومرذولٍ ومقهورٍ…

   النّهايةُ أنّي اليومَ أُصلبُ لكم وعنكم لتوبتِكم وحبِّكم لي وحبّي لكم…

   اليومَ تنتظرون قيامتي الآتيةَ؟!… فلا تنظروني ساجدين لألمي…

   أقيامةٌ وأنتم ما زلتم تئنّون، لأنّي لم أعطِكم غايةَ قصدِكم؟!…

   ماذا تريدون أن أفعلَ لكم وبكم؟!. أأشفي عمى عيونِكم عمَّن؟!… عن حقيقةِ الحقِّ المكبَّلين به، لأنّي أنا ولدتُكم فيّ؟!…

   يا مالكي دنيا الغشِّ والحبِّ والخلاصِ من الموتِ بموتِكم لي وعنّي…

   كيف تخلطون الغثَّ مع السّمين، فتأكلون التّرابَ وتلبسون البزَّ والأرجوانَ وأنا معلّقٌ على صليبِ حبّي وفدائي لكم؟!. لماذا لا تعون أنّكم أنتم حرّيّتي لكم في أرضِ الأحياءِ… وأنّي عُلِّقتُ على صمتِكم كي تدخلوا سرّي فتعوا أنّ الكلمةَ الإلهيّةَ هي في صمتِ الحبِّ والإعراضِ عن كلِّ مَن ليس أنا لكم وفيكم…

   كيف تحيون بي؟!… بنغمةِ الشّكِّ أو بالقبولِ بالصّمتِ وحملِ الصّليبِ الّذي هو أنا وأنتم وكلُّ آخرَ، فتقبلون نفوسَكم… لا تحاسبوا الّذي أحبَّ أكثر من ذاتِهِ من ألوهتِهِ، فارتضى التّجسُّدَ لتصيروا أنتم آلهةً تحيون بصليبِ حبِّه لكم… إنزعوا عنكم الأقمصةَ الجلديّةَ، عصائبَ رؤوسِكم، والتّخايلَ في الأسواقِ ومجتمعاتِكم بذهبِ الخيوطِ الّتي يخيطُ بها الفقراءُ أرديتَكم وأفخرَ أزياءِ سهراتِكم واحتفالاتِكم ومعابدِكم وحتّى ألبسةَ وأرديةَ كنائسِكم…

   يا أحبّائي… أنا المصلوبَ عنكم أصرخُ من على صليبي لكم…

   لِيَصِرْ حبُّ الإلهِ لكم دينَكم وديدنَكم… فلا تعودوا إلى غيِّكم وعتاقةِ أنانيّاتِكم، فتصرفوا وجهَكم عن إلهِكم الّذي افتداكم بدمِهِ لخلاصِكم على الصّليبِ معه الّذي أنتم أعليتموه عرشًا له ولكم…

   اليومُ اليومَ هو حجّةُ خلاصِنا… لأنّنا في سجدتِنا تحت صليبِكَ نُسائلُكَ… أتحبُّنا يا ربَّنا؟!…

   ما هذا الإيقاعُ الغريبُ والضّعيفُ بعدَ تجسُّدي وعرسي معكم ولكم…

   بعد لبسي خطيئتَكم لأُلبسَكم ألوهيَّتي…

   نكرّرُ الوجدَ حتّى يطمئنَّ قلبُنا في ضعفِنا… فسامحْنا… واردُدْنا إليكَ يا فرحَنا… يا إلهَنا تعالَ وشدِّدْنا بحبِّكَ ولا تنسَنا إلى الانقضاءِ…

   لأنّكَ أنت حياتُنا، إلهُنا، صليبُنا ومجدُ نورِ ضياءِ وجهِكَ لا تغرِّبْهُ عنّا… بل تعالَ تعالَ نكمّلْ مسيرةَ الحبِّ والرّجاءِ حتّى نلتقيَك في مجدِكَ، لتُصْعِدَنا بعد توبتِنا إلى ملكِ أبيكَ وروحِكَ القدّوسِ، بشفاعاتِ أمِّكَ الطّاهرةِ مريمَ وجميعِ قدّيسيكَ… فتعالَ لأنّنا اليومَ ننتظرُكَ على صليبِكَ…

آمين…

الأمّ مريم (زكّا)، رئيسة دير القدّيس يوحنّا المعمدان، دوما – لبنان

عن “تأمّلات في الإنجيل”، 3 نيسان 2016

 

 

أُرددْنا بالصّليب إليك