...

أمخلّعٌ ويسوعُ فينا؟!.

 

 

في ذلك الزّمانِ… الّذي هو الآن… الّذي كان… وهو الزمانُ الآتي مع يسوعَ إلينا… الّذي هو كلُّ الأزمنةِ وملؤُها..

   لذا دخلَ يسوعُ لأنّ النّاسَ… كلَّ النّاسِ خطئوا وأثموا ولم يكنْ لهم مَن يخلّصُهم من أفعالِهم وأفكارِهم وأقوالِهم وأسوائِهم وأدوائِهم إلاّ المنتظرينه والّذين مازالوا ينتظرونَه… الّذي كان وهو كائنٌ من أوّلِ الأزمنةِ وسيبقى حتّى تفرغَ الأرضُ من جراذينِ خطاياها فيموتَ مع كلِّ طفلٍ وشابٍ وكهلٍ عجزُهُ عن عيشِ الحياةِ البرِّ بسببِ الخطيئةِ الّتي لصقَتْ به من رحمِ أمِّهِ…

   هكذا دخلَ يسوعُ مدينتَهُ كفرناحومَ ليبدأَ من هناكَ عمليّةَ التّطهيرِ للّذين معه، تلاميذِهِ الّذين رافقوه ورأوا كلَّ ما ومن كان يحيطُ به، وكيف كان يعملُ فيهم الرّبُّ المعلّمُ الّذي لم يعرفه إلاّ الّذي أحبَّهُ أكثر من ذاتِهِ، لأنّ الحبَّ إذا لم يُخرِجِ الإنسانَ من ذاتِهِ حتّى يصيرَ الآخرُ ذاتَهُ، فلن يعرفَ تاليًا المسيحَ المنتظرَ الّذي بالحبِّ يصيرُ هو الإنسانَ والإنسانُ هو!!…

   واجتمعَ كثيرون إذ سمعوا أنّه في “بيتٍ”… في ذلكَ البيتِ التقى يسوعُ كلَّ الآتين إليه… ماذا أتى بهم إليه؟! لماذا أتوا إليه؟!… فرِغَتْ حياتُهم من جدّةِ جديدِ العمرِ… تعبوا من أيّامِهم تتكرّرُ… تبدأُ بالنّورِ وتنتهي بالعتماتِ… لتعودَ إلى بدئِها… ويضيفون إليها آلهةً جديدةً… يأكلون… يشربون… يعملون… يشترون… يبيعون… يتخلّعون وبعدها يمرضون يتألّمون… ثمّ يموتون…

   المشكلةُ أنّهم في كلّ هذا كانوا بحاجةٍ إلى المخلّصِ… إليهِ… إلى يسوعَ…

   من هو هذا الّذي سيأتي ليخلّصَهم؟!.

   من هو ذاكَ الوعدُ الّذي صارَ هو هو ذاتَهُ معهم؟!. في البيتِ … وتحلّقوا حولَهُ!!. كلُّهم… أولئِكَ للوقتِ أتَوا… كانوا بحاجةٍ إليه… منتظرينَهُ… أينَكَ يا معلّمُ؟! يا ربُّ؟!.

   سمعوا أنّه في بيتٍ؟!… بيتُ من هذا؟! ما همَّ!.. كان هذا بيتَ قلبِ كلِّ إنسانٍ فرِغَتْ سلالُهُ من المؤنِ ليُكملَ دربَ صليبِهِ إليه… ولم يعرفوا… حتّى الآنَ لا يدركون أنّه أتاهم ليعرفوه باسمِهِ… “أنا هو الّذي هو”… فاعرفوني… لأنّ هذا اسمي!!!… 

   وكانت هذه هي “الكلمةَ” الّتي خاطبَهم بها… وإذ أحسّوا أنّه نطقَ الكلمةَ، عرفوا أنّ  الوقتَ أتى حتّى يسمعوا… فيتعلّموا هم نُطْقَ الكلمةِ الاسمِ،  بعد سماعِها فيُطيعوه لأنّه هو هو الّذي هو!!. الّذي كانَ وهو كائنٌ وسيكونُ.

   ثمّ أتى الحدثُ… أتَوه بمخلّعٍ!!… رجلٍ لا يمشي ولا يتحرّكُ… ولا يصرخُ إرادتَهُ… أعطوني لآكلَ، لأشربَ… لأحيا… بل صَمَتَ صَمْتَ الموتِ واستكانَ!!. في الموتِ!!.

   لم يكنْ للمخلّعِ من مكانٍ يدخلُ منه إلى يسوعَ… حملَه أربعةٌ، حملوا أطرافَ وزوايا العالمِ الأربعةَ… وفي كلِّ زاويةٍ منها كان الإنسانُ يرقدُ مخلّعًٌا مرميًّا على سريرِ موتِهِ… هكذا صارَ العالمُ كلُّهُ مؤطّرًا بالتّخلّعِ… بالموتِ، ولكن… لن يموتَ إنسانٌ هكذا بلا سببٍ، إلاّ الخطيئةَ؛ ويسوعُ قائمٌ بيننا في أيّامِنا… في قلوبِنا… في توقِنا… في بحثِنا عنه… في انتظارِنا…

   هكذا حضرَ يسوعُ إلينا لنعرفَهُ… لنراهُ… لنسمَعَهُ… لينتشلَنا… لنفهمَ قولتَهُ، فيدخلَ اليقينُ إلينا، أنّ هذا هو الإلهُ المنتظرُ… الآتي ليقيمَنا من تخلّعِنا… من موتِنا…

   في جلستِهِ في البيتِ… وفي نطقِهِ بالكلمةِ جعلَ الأربعةَ والمخلّعَ، خامسَهم، يأتون ليزيلَ منهم خطيئتَهم فلا يعودوا إليها…

   هذا كانَ فكرَ يسوعَ… أصابَ الرّجالَ الأربعةَ ليأتوا بخامسِهم ليشفوا كلُّهم… أتوا مثلَ الأرغفةِ الخمسةِ الّتي ما كان غيرُها في الجمعِ إذ كان يسوعُ، أيضًا وأيضًا، يعلّمُ “بالكلمةِ”… وإذ رأى المخلّعَ مضطجعًا أمامَهُ على محملِ الموتِ، وإيمانَ الرّجالِ الأربعةِ يحملونه، وطلبةَ المخلّعِ الصّامتةَ وهو بحرقةِ دموعِهِ الّتي غسلَتْهُ من خطيئتِهِ أمامَهُ… نطقَ يسوعُ في صمتِ قلبِهِ “قد تمَّ”… وقال للمخلّعِ… “يا بنيَّ مغفورةٌ لك خطاياك”!!…

   “من صدّقَ خبرَنا ولمن استُعلِنَتْ ذراعُ الرّبِّ؟!”…

   لنا نحن!!. نعم لنا نحن الّذين عرفناه من البطنِ إذ عَرَفَنا هو بدءًا فأخرجَنا من مواتيّةِ أعضائِنا المخلّعةِ بخطايا آبائِنا وأمّهاتِنا الّتي نحن اليومَ حاملينَها، لأنّنا وُلدْنا لا من الرّوحِ القدسِ، ولكن من إرثِ الخطيئةِ الّذي زرَعَه الشّرّيرُ مع نفخةِ روحِ الحياةِ الّتي سكبَها فينا الرّبُّ لنحيا بها… فنكبرَ ونعرفَهُ!!.

   وكانَ روحُ المضادِ حاضرًا مع الّذين تحلّقوا حولَ يسوعَ… وكان لا بدَّ له أن يكونَ… لأنّهُ حيث يوجدُ يسوعُ يأتي الشّرّيرُ ليقولَ له بلسانِ الكتبةِ والفرّيسيّين أو الصّدّوقيّين أو أيِّ آخرَ… إنّي أنا هنا، لأُحاجَّكَ… فتسقطَ مملكتُكَ…

   “وكانَ قومٌ من الكتبةِ جالسين هناك يفكّرون في قلوبِهم: ما بال هذا يتكلّمُ هكذا بالتّجديفِ؟!”…

   وما عرفوا أنّه الله!!. فقالوا: “من يقدرُ أن يغفرَ الخطايا إلاّ الله وحدَهُ؟!”… وسمعَ يسوعُ فكرَ قلوبِهم، فسخطَهم!!!. ونهرَهم وكان كلُّ ما فعلَهُ يسوعُ حبًّا بالمخلّعِ والأربعةِ الّذين حملوه بإيمانٍ إليه… هؤلاء كانوا الأرغفةَ الّتي كسرَها لتُطعمَ الخمسةَ آلافٍ مع النّساءِ والأطفالِ… فيشفى ويأكلَ منه كلُّ إنسانٍ آمنَ بيسوعَ…

   وما سمحَ يسوعُ  بأن يجوعَ شعبُهُ وهو بينَهم والآن شفى المخلّعَ وكلَّ الّذين زهقوا من حياتِهم الّتي لا فعلَ حياةٍ فيها، لكي يباركَ الأصحاء الّذين آمنوا به… الّذين أحبّوه… الّذين عرفوا أنّ هذا هو الّذي وعدَهم “يهوه” به أنّه آتٍ ليخلّصَهم…

   شفى يسوعُ المخلّعَ بإيمانِهم، بحبِّهم له، لخلاصِ المتوجّعِ في كيانيّةِ جسدِهِ… كان عليه أن يقولَ لشعبِهِ المعاندِ الّذي ما عرفَهُ ولم يعرفْهُ حتّى الآنَ، أنّه هو والآبُ واحدٌ، وأنّه وهو ابنُ البشرِ عندَهُ سلطانٌ على الأرضِ لغفرانِ الخطايا، لأنّه هو ربُّ السّمواتِ والأرضِ وسيّدُ الحياةِ وأبُ كلِّ معذّبٍ، موجوعٍ، جائعٍ، متألّمٍ، يتحرّقُ للحياةِ الضّوءِ، للحياةِ النّورِ، للحياةِ، الّتي إن أقفلَ عينَيه، تبقى ولا تغيبُ، لأنّه هو الإلهُ سرُّ الوجودِ الّذي فيه الأبديّةُ.

   ونادى المخلّعَ آمرَهُ: “لكَ أقولُ قُمْ واحملْ سريرَكَ واذهبْ إلى بيتِكَ”!!.

   أين وما بيتُ المخلّعِ؟!… كلمةُ يسوعَ الآمرَتُهُ بالحبِّ أن يقومَ، أن ينتصبَ، أن تتشدّدَ رُكبُهُ المخلّعةُ من قلبِهِ، فيذهبَ إلى بيتِهِ ليخبرَ بعجائبِ الإلهِ والأربعةُ الّذين كانوا معه تاليًا يبشّرون.

   والآنَ صاروا كما هؤلاء كانوا ومازالوا ينتظرون أن يأتيَهم يسوعُ ويقيمَهم… ليبقى الوعدُ بالقيامةِ حيًّا في كلٍّ منّا… لنقومَ… لنبشِّرَ… ولنولدَ منه أيضًا وأيضًا وإلى الأبدِ… آمين.

الأمّ مريم (زكّا)، رئيسة دير القدّيس يوحنّا المعمدان، دوما – لبنان

8 آذار 2015

 

 

 

أمخلّعٌ ويسوعُ فينا؟!.