...

أعطِ دمًا وخذ روحًا!.

أعطِ دمًا وخذ روحًا!.

 

أعطِ دمًا وخذ روحًا!.

 

   هذا قول سارٍ في أوساط الرّهبانيّة. يحكي الشّهادة. ولو كان بذل الدّم، محبّةً بالمسيح والنّاس، متضمَّنًا فيه، بنعمة من فوق، فالشّهادة، بالأحرى، بذل مستمرّ، يوميّ، الكلام على الدّم فيه كلام على تقديم الله والآخرين، حبًّا، على الذّات، وروح التّضحية بإزائهم!. البذل، تحديدًا، معناه أنّ مَن تبذل نفسك من أجله فقيرٌ، بالحبّ، إليك وما لديك. أقول إليك وما لديك، لأنّ البذل عطيّة قلب، أوّلاً، وما لديك ليس في ذاته القيمة، وإن كان لا يخلو من قيمة، بل هو علامة حبّ، وتعبير وداد، وفيض قلب. إذًا، الله، بالحبّ، فقير إلينا قبل أن يُكلف إلينا فقراءه!. هي طبيعة الحبّ تقتضي الامّحاء ليتجسّد في استجابة المحبوب لمَن أحبّه. هنا يكمن سرّ الصّورة والمثال، الصّورة لأنّ الإنسان يأتي من حبّ الله، وهو قادر على أن يحبّ، والمثال متى قال الآمين وأحبّ بمحبّة ربّه!. خارج هذا المثال وتلك الصّورة، الإنسان تراب ورماد، أو قل: عدمٌ، وروحُ عدمٍ في تراب ورماد!. كلّ موجود يأتي من حبّ، خَلْقًا، والإنسان، من دون حبٍّ، موطنُ روح العدم!. هذا معنى الظّلمة. الظّلمة الخارجيّة الّتي يذهب إليها الّذين فعلوا السّيِّئات، أي الّذين لم يصيروا على مثال الله في المحبّة، هي من طبيعة الظّلمة الّتي سبقت الخلق. الظّلمة، هنا، لا تعني أنّه كان هناك وجودٌ ما، دخله الرّبّ الإله وجعله نورًا، بل تعني أنّ محبّة الله لم تكن، إلى الخلق، قد خَلقت!. قبل الخلق كان الله، ولا شيء إلاّه، ثمّ فعلت المحبّة، فكان النّور بإزاء ظلمة ما قبل الخلق، وكانت الخليقة!. النّور والظّلمة استعارتان من عالم النّاس حتّى يفقهوا، بالمقاربة، ما لربّهم!. على أنّ النّور والظّلمة، بعد الخلق، أتيا بوجود نورانيّ وبوجود ظلاميّ!. الوجود النّورانيّ نفهمه، بمعنًى، لأنّ الوجود أساسه النّور، أمّا الوجود الظّلاميّ فلا نفقهه لأنّه تناقضيّ: وجود عدميّ، وعدم وجوديّ!. ما طبيعة هذا الأخير؟ مناقِضة للمحبّة!. إذًا الوجود الظّلاميّ إيغال في محبّة الذّات، من دون محبّة الآخر في الحقّ، إلى المنتهى!.

   جلست إلى صديق عرف، عن كثب، المتروبوليت الرّاحل بولس (بندلي)، عليه رحمة الله، فحدَّثني عنه. عرفت الرّجل عن بعد، فكنت بحاجة لشهادة ممّن عايشوه ولهم همّ القداسة. أقول بحاجة لأنّ القداسة تعنيني وتَشغلني، فيما ألحظ أنّ الإحساس بالقداسة، بيننا، على شيء من ضمور، والنّاس، بعامّة، يعبرون بمَن يتقدّسون عبورهم بالعاديّين، فلا تستوقفهم التماعات روح الله فيهم.

   لفتني معيارُ القداسة لديه أنّه بذل الدّم من أجل الفقير، وألاّ يخيِّب ربَّه البتّة!. لذا ما عرف الرّاحة أبدًا. همّه كان أن يريح الفقيرَ إلى الرّاحة!. كان آلة تعب من أجل الله!. يتخطّى نفسه أبدًا!. ما كان يتوقّف عن العمل من أجل الآخر ليستجمع قواه!. كان في سيرورة من عمل إلى عمل إلى عمل!. لا ينام إلاّ مُنهكًا!. جاء إلى دار أسقفيّةٍ شبه متداعية وغادرها إلى ربّه شبه متداعية، كما هي!. لم يكن همّه فيها. الباب الخارجيّ، لديه، مفتوح أبدًا!. همّه كان الإنسان. والإنسان والفقير عنده واحد. الحبّ لا طبقيّة فيه. لذا لم يعمل في السّياسة بل في الإلهيّات!.

   سؤال، في ذهني، بشأنه، كان يشغلني: لِمَ كان يأبى إلاّ أن يهتمّ بحاجات النّاس بنفسه لا بالتّوكيل؟ فلو جاءه مريض، مثلاً، بحاجة إلى مستشفى، فإنّه كان يأخذه، شخصيًّا، بسيّارته، ولا يخليه إلاّ بعدما يقضي له حاجته بالكامل!. أهذا سوء إدارة وتدبير أم شيء آخر؟ طرحت التّسآل على محدّثي فردّ عليّ بجواب جميل!. ما كان يشاء، قال، أن يعامِل أحدًا إلاّ بالاهتمام والإكرام الكاملَين إنفاذًا للقول الإلهيّ: كلّ ما تريدون أن يفعل النّاس بكم، هذا افعلوه أنتم، أيضًا، بهم. وكذا، الحقّ، أقول لكم بما أنّكم فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الصّغار فبي فعلتموه!. هذا جعله، لا فقط يقيس الآخرين على نفسه، بل يماهي الآخرين بمسيح الرّبّ!. لا بالكلام بل بالتّعب الدّؤوب على تحقيقه!.

   على هذا، كان المتروبوليت المبارَك في حركة لا تتوقّف. سائقان، لا واحد، كانا يُقلاّنه، قبل الظّهر وبعده، إلى اللّيل، في كلّ الاتّجاهات!. مَن يتصوّر راعيًا يغطّي عكار برمّتها، يحضر كلَّ جنازة فيها، أو أقلّه يعزّي مَن تعذّر عليه الصّلاة على الرّاقدين، من ذويهم؟

   فقيرًا كان في كلّ أمر، لا يطلب نفسه في شيء. لا يهن ولا يعرف التّراخي. مشدود تمامًا. يعمل الكلّ على أكمل ما يكون، طبعًا قدر الطّاقة!. بذلٌ بلا حدود!. تعبٌ حتّى الدّم سيرتُه!. هذا بلا تمييز بين النّاس، مسيحيِّين ومسلمين، لا فرق، في وفرة من التّمييز، في الرّوح والحقّ!.

   هذا إنجيلٌ حيّ، قال محدّثي. جَدْوِلِ الوصايا، وقابلها بسيرة الرّجل، تَرَ تطابقًا أخّاذًا، بينها وبينه!. في الفقر، في العفّة، في الطّاعة، في الإمساك، في الوداعة، في الاتّضاع، في عدم المساومة، في الغربة عن محاباة الوجوه، في لطف الكلمة، في طيب القلب. عندما كان يضحك لنادرة، كان يستغرق في الضّحك كالطّفل. الابتسامة لا تفارق فاه، وعينُه مجروحة على النّاس. فرح وشركة في المعاناة معًا!. فرحًا مع الفرحين وبكاءً مع الباكين!.

   المسيحيّة شيمتها التّضحية، بكلام القدّيس بائيسيوس الآثوسيّ. التّضحية من الضّحيّة، من الذّبيحة، من بذل الدّم!. لا يسفك حبيبُ المسيح دمَ أحد، وهذا شاملٌ الرّفقَ بخَلْقِ الله، قاطبة، بل يبذل دمَه لكلّ أحد، تضحيةً، محاكاة ومدًّا لمَن بذل نفسه من أجل الجميع!. هو مَن يساهم حَمَل الله الرّافع خطيئة العالم!.

   سألتُ صديقي: أتعتبر المطران بولس قدّيسًا؟ أجاب بلا تردّد: بكلّ تأكيد!. قلت: أصار قبره محجّة؟ قال: لست أدري!. فأردفت: أسمعتَ بأعجوبة أتاها في حياته، أو حكاها أحد، بعد رقاده؟ أجاب: كلاّ!. ثمّ أضاف: لكنّه، في وجدان العديدين، من كلّ المشارب، رجلٌ لله!.

   لا شكّ أنّ الرّجل يَشْغَل لدى الكثيرين موقعًا مميَّزًا، وأنّه كان نموذجًا طيِّبًا للمؤمنين. هل يكفي ذلك لتُعلَن قداسته؟ لا آظنّ!. آراء النّاس، هنا وثمّة، تلفتنا إليه، لكنّ روح الله هو يعلن قداسته!. معايير البشر لا تؤكّد قداسة أحد، ولا تقولها إلاّ إذا حرّك الرّوح وجدان المؤمنين في الكنيسة!. لا السّيرة إثبات، ولا كلام النّاس، حتّى لا نقع في الاستنساب، والتّمنّي!. ومتى حرّك الرّوح وجدان الكنيسة استبان حضوره في المؤمنين تقوًى غير عاديّة بإزاء الرّجل وما يخصّه. إذ ذاك يعتور النّاس حياله ما لا قِبْل لها به. يُتَعاطى كقدّيس قبل أن تعلِن الكنيسةُ قداستَه. المجمع المقدّس دورُه الأوّليّ الملاحظة والمتابعة والتّسجيل. يشهد لما هو حاصل. ولا يقول كلمتَه إلاّ بعد أن تكون كلمةُ روحِ الله قد باتت بَيّنة، مسموعة من الجميع!. هنا، لا بدّ من الإيضاح، في زمن الإعلام، أنّ على الكنيسة أن تحذر طغيان الإعلام، ودفعَ إعلان القداسة بالتّرويج الإعلاميّ لمَن يُعتبر “مرشّحًا” لإعلان القداسة. في مثل هذا المسعى خطَر عميم، إذ نستعيض عن عمل روح الله بالتّركيز على ما يوفّره لنا الإعلام من فرص!. نؤثّر في النّاس بالكلام المدروس والدّراما السّينمائيّة، ما يجعل إعلان القداسة شأنًا إيحائيًّا نفسانيًّا!. علينا أن نميِّز بين التّعريف بالقدّيس، والتّرويج للقدّيس!. هذا بحاجة إلى نضج روحيّ ووعي وحرص لدى المشرفين على رعاية المؤمنين حتّى لا نجدنا كمَن يقود حملة تسويقيّة لمرشّح سياسيّ أو منتَج استهلاكيّ أو شعار وطنيّ!. الشّأن الرّوحيّ يُتعاطى بالخفر والتّقوى والصّوم والصّلاة، وانتظار التّجلّيات!.

   بالعودة إلى الكلام على المتروبوليت بولس (بندلي)، لا شكّ أنّنا بحاجة إلى تدوين أخباره وعظاته بأمانة وتدقيق، بإشراف الرّؤساء والحريصين على ميراث الكنيسة؛ بإصرار، ولكن بهدوء، بروح المسؤوليّة، ولكن من دون ارتجال!.

   هذا الأحد أحد الصّليب من الصّوم الكبير. لا تستمرّ الكنيسة إلاّ بقدّيسيها، ولا يستبين القدّيسون إلاّ على الصّليب!. عندنا، ههنا، في شخص أبينا بولس، مَن علّمنا دروسًا في بذل الدّم من أجل المسيح، على الصّليب!. سؤالنا ورجاؤنا هو: أما آن الأوان لمقاربة روحيّة له ولأمثاله، وهؤلاء بيننا، عسانا بتشوّفنا إلى تلمّس عمل روح الله، نستدعيه لنفرح ونتعزّى ونُبنى ويصير لنا، في هذا الزّمن، مثالٌ نسير في خطاه ونتقدّس به ونستشفع؟ أنطاكية، تراث القداسة، مفتوحة لنا، اليوم، لنلاحظ الرّوح ونسير في ركبه، في غمرة ما يكدّنا من آلام وتجارب ومحن!. وحده هاجس القداسة، في هذه الدّيار، يبقينا متماسكين، حتّى لا نتفرّق!.

الأرشمندريت توما (بيطار)، رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي، دوما – لبنان

عن “نقاط على الحروف”، 15 آذار 2015