...

أجداد المسيح

 

 

 

إن مطلع إنجيل متى الذي يُقرأ الأحد القادم، هو: «كتاب ميلاد يسوع المسيح ابن داود ابن ابراهيم…»، غير أن بشارة لوقا (٣: ٢٣-٣٨) تنسب المسيح ليس فقط إلى إبراهيم ولكن إلى آدم، أي انها تجعل انسانيته متصلة ببداءة الكون وتجعله وارثًا لأبعاد التاريخ كله وهدفًا للحقائق السابقة لظهوره وكأنه منتهى تبلور ومنطلق ضياء. انه بهذا المنظار نهاية الدروب وطريق جديدة. 

 ما يلفت في صلوات الكنيسة انها تؤكد اتصال المسيح بمن سبق الشريعة الموسوية، وتؤكد الخط الآدمي لا الخط الإبراهيمي حصرًا كما توضح اتصال السيد بنوح وبغيره من الأبرار الذين تقول التوراة انهم غير عبرانيين. هناك التواصل مع عربي مثل أيوب وكنعاني مثل ملكي صادق. هؤلاء جميعا قالت عنهم صلاة الغروب أمس ان المسيح الفادي عظّمهم في جميع الأمم. نخرج هنا من الحصرية اليهودية إلى مسكونية الأصل وإلى استبطان المعاني الروحية المرتبطة بهذه المسكونية.

فبنوح مثلا يقيم الله مع البشرية عهدا كونيا سابقا للعهد الإبراهيمي ولا يبطله العهد الإبراهيمي. بملكيصادق هناك صلة مع كنعان -وليس فقط الصلة النموذجية التي تتحدث عنها الرسالة إلى العبرانيين لمّا نقول عنه انه على مثال ابن الله من حيث ان لا أبَ له ولا أُم ولا نسب ولا لأيامه بداية ولا لحياته نهاية، غير ان الطقوس، وهي محلّ التفسير، تجعله من أجداد المسيح. وبالرجوع إلى سفر التكوين (١٤: ١٨) حيث يُذكر ملكيصادق للمرة الأولى لا نجد أية علامة نسب ممكنة بين إبراهيم وبينه، ومع ذلك تجعله الكنيسة جدا للسيّد. لماذا تأخذه من الموقع الذي هو فيه إلى موقع نسابة؟ أليس ذلك لتؤكد اليوم ارتباط المسيح بكل الشعوب قبل أن تؤكد عبرانيته لتشير إلى انه مهيأ بترابيته أيضًـا لخلاص العالم؟

نخلُص من هذا إلى ان الحركة ليست من المسيح إلى الوراء، بل من الأجداد الأمميين (الذين من الأمم) ومن الآباء الإبراهيميين إلى المسيح. هو الذي يكشف قيمة الأسلاف والأبرار من كل صوب ومن خلاله تتعين النبوءة، ليس بعد رجعة إلى التاريخ بل حركة استقطاب للتاريخ وبالتالي حركة تجاوز له، ذلك لأن المسيح في أيام بشريته كان في ديمومة الناسوت، يأخذ هذا الناسوت إلى ألوهيته ويذيب التاريخ في الكشف بغية الدخول إلى ملكوت المعنى، حتى يصحّ قول القديس يوحنا الدمشقي ان «الكلمة صار جسدا والجسد كلمة».

أمام الكشف العيسوي، الكون وما فيه كلمة. العالم يعبر إلى مصيره بالمسيح لأن العالم مشدود الي المسيح المُعلن بعدما كان العالم في الكلمة الأزلي المكنون. فكما انكشف العالم من الكلمة المستتر في الله، كذلك يتقلّص العالم في الكلمة المتجسد وتنطوي فيه الأمم جميعا. الحضارات له تهيء كما منه تنطلق من بعده، ولئن كانت الآتية اليه والذاهبة منه ليست الا بمقدار قيامها به.

أحد الأجداد اليوم لا يعظّم الأمم بل يسبّح المسيح الذي عظّم الأمم. كذلك لا يمجّد العبرانيين: «لا لنا يا رب لا لنا بل لاسمك أَعط المجد» (مزمور ١١٥: ١). ليس لأمة من عظمة منفصلة عن عزّة الله والا وقعنا في وثنية الأمة. الاثم القومي في عمقه انه يعزل الأُمّة ومصيرها عن الله، يجعل لها كينونة مستقلة عن الرسالة التي لم يحملها ولكنه حملها لمن انتمى اليه في كل أُمّة. الرسالة لم تُلقَ على أكتاف الأمم بل أمامهم. الأُمّة ليست أُقنوما او ذاتا. هي شيء على قدر اقترابها من الله.

جاورجيوس، مطران جبيل والبترون وما يليهما (جبل لبنان)

عن “رعيّتي”، العدد 50، الأحد ١٣ كانون الأول ٢٠١٥