...

القدّيس مرقس الأفسُسي

 

 

القدّيس مرقس أسقف أفسس، الذي تعيّد له الكنيسة المقدَّسة في التاسع عشر من كانون الثاني، وُلِدَ في القسطنطينية سنة ١٣٩٢ لعائلة فاضلة أمّنت له، إلى جانب التربية على الإيمان القويم، الدّرس على نخبة من المعلّمين في العاصمة الإمبراطورية. لمع في العلم والتُّقى منذ صباه، امتهن التعليم شاباً ولمع فيه أيضاً، لكنه ما لبث أن آثر ترك العالم إلى الرهبنة، وهو في السادسة والعشرين. إلى جانب حياة الصلاة والخدمة وسائر الجهادات الرّوحيّة كراهب، تعمّق مرقس في دراسة آباء الكنيسة وأنشأ عدداً من المؤلفات لا سيما في العقيدة والصلاة. بدا واضحاً، في الموضوعَين، تأثّره بالقديس غريغوريوس بالاماس.

في ذلك الوقت كانت الإمبراطورية البيزنطية تعيش أصعب أوقاتها. الاقتصاد منهار، الدولة والجيش منهكان، الغزاة الأتراك على الأبواب، وكل محاولات السلام أو حتى التهدئة معهم فشلت. كل هذا حتّم على دبلوماسيي الأمبراطورية أن ينشطوا باتجاه الغرب علّهم يجدون لدى ولاة أوروبا وأمرائها دعماً. هذه الظروف رأى فيها البابا إڤجانيوس الرابع، رأس الكنيسة الكاثوليكية آنذاك، فرصة سانحة فأرسل إلى الإمبراطور البيزنطي والبطريرك عرضاً مفاده: الدعم المالي والعسكري من أوروبا مقابل الوحدة الكنسية على أن تُناقَشَ مسائل الوحدة في مجمع يُعقَد في مدينة فيرارا الإيطالية، يرأسه البابا والإمبراطور (نُقِل المجمع فيما بعد إلى فلورنسا). همّ الإمبراطور كان إنقاذ مملكته فشرع مع بطريرك القسطنطينية يوسف الثاني بالتهيّؤ للمجمع. بإزاء ذلك كان قد جُعِل القديس مرقس أسقفاً على أفسس فضمّه البطريرك إلى الوفد البيزنطي إلى إيطاليا. قُبيل انعقاد المجمع بدا لأسقف أفسس أن الإمبراطور، وحتى بعض أساقفة الكنيسة، ذاهبون واهتماماتهم سياسية أكثر منها كنسية فصار هاجس القدّيس أن “لا مساومة في مسائل الإيمان. نذهب بانفتاح ونحاور بتواضع ومحبّة، ولكن لا نُفرّط بما أمّننا الله عليه من أجل مُلكٍ أرضي”.

افتُتح المجمع في شباط سنة ١٤٣٧، ومنذ الجلسات الأولى ظهر جلياً أن البابا إڤجانيوس الرابع لم يأت ليناقش مع الأرثوذكس مسائل الوحدة والإيمان بل ليملي عليهم الوحدة بشروطه. أبدى الأرثوذكس مرونة في عدة مسائل ولكنّها لم تكفي. فخاطب القديس مرقس البابا قائلاً “يشهد الله علينا كم نتمنّى استعادة الوحدة معكم بل ونتوق إليها. ولكنّنا نريدها وحدة صادقة حقيقية، وحدة في الإيمان كما تسلمّناه من رسل ربّنا الأطهار. لم نأت إلى هنا لنوقّع على استسلام ولا من أجل أن نقايض على العقائد الإيمانية. همّنا أن نصل وإياكم إلى وحدة في الإيمان، لا أن ننقذ مملكة ولا حتى ممالك الأرض كلّها”. قلنا خاطب القديس مرقس البابا، ولكنّه في الحقيقة كان، بكلامه هذا، يتوجّه إلى المجمع كلّه. فمن وجهة نظر البابا إڤجانيوس لا مجال إلى الوحدة إلا بضمّ الكنيسة الأرثوذكسية، والأزمة البيزنطية خير أوان لفرض هذا الضمّ. هذا ويشير المؤرّخون إلى أن مفهوم الرئاسة الكنسية لدى البابا إڤجانيوس الرابع كان سياسياً أكثر منه كنسياً. كذلك في الجانب الآخر، كان بين أعضاء الوفد الأرثوذكسي بعض من كانوا يرون في التوقيع على الوحدة، كيفما كانت ومهما كانت شروطها، المجال الوحيد المتاح لإنقاذ بيزنطيا من خطر الاجتياح التركي الداهم. وكلّما طالت جلسات المجمع وتعقّدت، كلّما ازداد هؤلاء. ولعلّ الأمبراطور كان أكثرهم حماسة بهذا الاتّجاه. هاجس القدّيس مرقس كان إذن أنّه لا هذا الفريق ولا ذاك كان يسعى إلى الوحدة الإيمانية بصدق، بل لكل من الفريقين دوافعه. طال المجمع أكثر مما توقّعه الوفد الأرثوذكسي بكثير ونفدت إمكاناته المادية حتى طال أعضاءه الجوع. أما البابا إڤجانيوس فأبلغهم صراحة أنّه ليس بوارد أن يعينهم ما لم يوقّعوا على وثيقة كان قد أعدّها، مفادها أن تخضع الكنيسة الأرثوذكسية خضوعاً تاماً لرئاسة البابا وتعاليمه كافة بلا نقاش، ولإشرافه الإداري.

هنا بات القديس مرقس واقفاً وحيداً يدافع عن استقامة الإيمان وعن الأمل في الوصول إلى وحدة حقيقية مقدّسة، والضغوط عليه تزداد لا من جهة اللاتين وحسب بل ومن البطريرك يوسف الثاني ومعظم أعضاء الوفد الأرثوذكسي أيضاً. إزاء استمرار القديس مرقس في موقفه رافضاً التوقيع على وثيقة البابا إڤجانيوس، ثار غضب الإمبراطور فأمر بتنحيته عن المشاركة بأي من الجلسات، وفرض عليه الإقامة الجبرية حتى انتهاء أعمال المجمع. توالت هنا الأحداث سريعاً: توفّي البطريرك يوسف الثاني ووُجدت بجانبه رسالة (تبيَّن فيما بعد أنّها كانت مزوَّرة) يُعلن فيها خضوعه والكنيسة لوثيقة البابا إڤجانيوس خضوعاً غير مشروط. أطبق الأمبراطور على الكنيسة وأجبر أعضاء الوفد الأرثوذكسي على التوقيع على الوثيقة البابوية التي أُعلن عنها رسمياً في احتفال كبير أقامه البابا إڤجانيوس، يوم الخامس من تمّوز سنة ١٤٣٩.

أخبار المجمع والوثيقة البابوية سبقت الوفد الأرثوذكسي إلى القسطينية فتلقّاها الشعب بحزن عارم وغضب لامس حدّ الثورة. أما أعضاء الوفد فعادوا إلى القسطنطينية، دون القديس المرقس الذن كان ما زال في الإقامة الجبرية، وما لاقوا من الشعب إلا المقاطعة فأيقنوا إذذاك أنّهم ما ساوموا على الإيمان وحسب بل باعوه بأبخس الأثمان. أما القدّيس مرقس، فلما سُمح له بالعودة إلى القسطنطينية سنة ١٤٤٠ استقبله مؤمنو المدينة بالفرح والإكرام اللائقين بالقدّيسين. طبعاً لم يَرُق هذا للامبراطور، ولعلّه رأى في عودة القديس مرقس خطراً على سلطته. فأمعن في ملاحقته والتضييق عليه وصولاً إلى سَجنه، بالرغم من وضعه الصحّي المتدهور جداً منذ كان في الإقامة الجبرية. ليعود فيطلق سراحه بعد سنتين أو ثلاثة. طيلة فترات المضايقة والاضطهاد والسجن بقي القديس مرقس صلباً في إدانته وثيقة إڤجانيوس وظروف توقيعها، وما إن أفرِج عنه حتى حذا البطاركة الشرقيون حذوه فرفضوا الاعتراف بالوثيقة وأدانوها.

اشتدّ المرض على القديس مرقس كثيراً، وفي الثالث والعشرين من حزيران سنة ١٤٤٤ رقد بالربّ مستريحاً من جهاداته وأوجاعه، وفي قلبه وعلى شفتيه الصلاة من أجل الوحدة في الإيمان.
الأب نكتاريوس خير الله
الأحد ١٨ كانون الثاني  ٢٠١٥

 

 

 

 

القدّيس مرقس الأفسُسي