...

القديس نكتاريوس اسقف المدن الخمس

ولد القديس نكتاريوس في 1/10/1846م في قرية من قرى مقاطعة ثراقي الجنوبية، وهو الخامس من ستة أولاد ولدوا لزوجين فقيرين هما ذيموس ومريا كيفالاس. سمي في المعمودية أنستاسيوس، تربى نكتاريوس في جو ديني أرثوذوكسي وكان لجدته دوراً أساسياً في حياته الروحية، كان ومنذ صغره مواظباً على قراءة الأناجيل وسفر المزامير، وبصعوبة مالية استطاعت العائلة تأمين العلم لأبنائها، درس نكتاريوس في قريته حتى سن الثالثة عشر، وكانت نفسه تتوق إلى الدراسة في المدينة العظمى، القسطنطينية، ولكن من أين يأتي بالمال للسفر والدراسة.
في أحد الأيام صرّ ملابسه على ظهره ووقف عند المرفأ يتطلع على الباخرة المغادرة إلى القسطنطينية. وإذ للحظة، قبطان السفينة يمازحه دون أن يتعطف عليه. لكن السفينة أبت أن تغادر الرصيف كما لو أن عطلاً طرأ على محركها إلى أن أِشار القبطان إلى الصبي بالصعود. وما أن وطئت قدماه ظهر السفينة حتى زأر المحرك وأقلعت السفينة.
وصل الصبي المدينة العظمى، بحث عن عمل طويلاً فلم يوفق إلى أن قبله صاحب محل فظ لتسويق الدخان. هذا سخره في عمل شاق طول النهار لقاء بعض المأكول. تحمل نكتاريوس فظاظة وقساوة رب العمل فترة من الزمان، وأخيراً كتب رسالة جاء:
“يا ربي يسوع، تسألني لماذا أبكي. ثيابي اهترأت وحذائي تخرق، وأنا حافي القدمين موجوع متضايق. نحن في فصل الشتاء وأنا بردان. البارحة مساء أعلمت صاحب المحل بحالي فسبني وطردني. قال لي أن أكتب رسالة إلى القرية حتى يبعثوا لي بما أحتاج إليه. ولكني، يا ربي يسوع، منذ أن بدأت بالعمل لم أرسل لوالدتي قرشاً واحداً.. ماذا تريدني أن أعمل الآن؟ كيف أعيش بلا ثياب؟ ثيابي أرثيها فتعود وتتمزق من جديد. سامحني على إزعاجي. أسجد لك وأمجدك. خادمك أنستاسيوس.”
ثم طوى الرسالة ووضعها في ظرف وكتب العنوان التالي: “إلى ربنا يسوع المسيح في السماوات”.
وباكراً في اليوم التالي لبس ثيابه بسرعة وقصد مكتب البريد. كان صاحب المحل قد أعطاه خمس رسائل أخرى لإرسالها وكان الشارع مقفراً. وحده صاحب المحل المجاور شاء التدبير الإلهي أن يلتقيه. “إلى أين أنت ذاهب يا أنستاسيوس؟”. “إلى مكتب البريد” “هات ما عندك وأنا أضعه لك”. وأخذ الجار الرسائل، فرأى رسالة أنستاسيوس فقرأها. وبعد أيام قليله حمل إلى أنستاسيوس الصغير صرّة كما لو كانت من مكتب البريد، ثياباً وأحذية وشراشف ومالاً، وفوق الصرّة هذه الكتابة “من الرب يسوع إلى أنستاسيوس”.
ثم انتقل الصبي إلى العمل لدى الجار النبيل وتمكن من إكمال دراسته إلى سن العشرين. وبذات الوقت كان يعلم في الكنيسة الأطفال الصغار أحرف الأبجدية وبعض الدروس. ثم انتقل إلى جزيرة خيوس معلماً. وبقي هناك مدة عشر سنوات. وفي خيوس اقتبل أنستاسيوس الحياة الرهبانية في الدير المعروف بـ”الدير الجديد”. كان ذلك في خريف سنة 1876م. وسلك في النسك ثلاث سنوات ثم سيم شماساً وأعطاه أسقف الجزيرة اسم نكتاريوس. ثم غادر إلى أثينا لمتابعة دراسته اللاهوتية. وهناك تعرف على بطريرك الإسكندرية صفرونيوس، فسامه هذا الأخير كاهناً في العام 1886م. بقي نكتاريوس كاهناً وواعظاً ومعرّفاً بضعة أشهر إلى أن جعل أرشمندريتاً وعين واعظاً وسكرتيراً بطريركياً في القاهرة ثم مدبراً للمكتب البطريركي هناك.
وفي الخامس عشر من شهر كانون الثاني من العام 1889م سيم نكتاريوس أسقفاً برتبة متروبوليت على المدن الخمس (بندابوليوس) وهي الأبرشية القديمة المساوية لمنطقة ليبيا العليا اليوم.
تمحورت خدمته الأسقفية في القاهرة حول كنيسة القديس نيقولاوس وقد أحب الشعب حباً كبيراً لاسيما الفقراء. وفيما كانت تكبر محبة الناس له كان يكبر حسد كثيرين، كهنة وأساقفة، وأخذوا يدبرون له المؤامرات. وقد استطاع الحاسدون أن يقنعوا البطريرك صفرونيوس العجوز أن نكتاريوس يعمل على استمالة الشعب لإزاحته والاستيلاء على البطريركية. فكتب البطريرك رسالة إلى نكتاريوس جاء فيها: “يُعفى نكتاريوس، أسقف المدن الخمس، من مهامه كمدبر للمكتب البطريركي في القاهرة ومن الممثلية البطريركية ومن الإدارة الكنسية.. ولا يسمح له أن ينتقل بصفة رسمية أياً تكن المناسبة ومن دون ترخيص رسمي..” ثم بعد شهرين طلب منه أن يترك البطريركية نهائياً. هكذا وجد نكتاريوس نفسه مقطوعاً مُبعداً مشوه السمعة، ومنذ تلك اللحظة أضحت حياته سلسلة من المحن.
عاد نكتاريوس إلى أثينا وهناك حسبته السلطات المدنية والكنسية غريباً، عانى كثيراً حتى الخبز نقصه. وتعطفت عليه صاحبة البيت وعفته من تسديد الإيجار. وبعد مدة ارتضت السلطات تعيينه واعظاً بعيداً في بعض الجزر. وما أن وصل إلى الجزر حتى وأن الشائعات قد سبقته هناك، فأخذ الناس يسخرون منه ويهينوه، وتحمل بصبر، وبعد مدة أدرك الناس الحقيقة فأحبوه واحترموه. ومكث في الجزر واعظاً ثلاث سنوات إلى أن تمّ تعيينه مديراً عاماً لإكليريكية ريزاريز في أثينا. ودامت هذه المدة ما يقرب من اثني عشر عاماً، ولم تتوقف المؤامرات ضده. ولكن أحبه تلاميذه كثيراً.
وكانت المرحلة الأخيرة من حياة نكتاريوس مرحلة تأسيس دير الثالوث القدوس في جزيرة إجينا، ديراً نسائياً ضمّ خمس فتايات في البدء. كانت لنكتاريوس مواهب إلهية فشفى المرضى وطرد الشياطين وبصلاته أمطرت السماء بعد جفاف ثلاث سنوات ونصف السنة.
كان نكتاريوس أليف والدة الإله والقديسين وكثيراً ما كانوا يظهرون له أثناء الخدمة الإلهية وكان هو يرتفع عن الأرض. وقد كتب نشائد عديدة لوالدة الإله، ومن أشهرها نشيد “عذراء يا أم الإله” الذي لحنه الأب غريغوريوس من دير سيمونوبيترا في الجبل المقدس.
خلال ذلك كله كانت صحته في ترد مستمر. وقد أصيب بالتضخم في غدة البروستات، وقد أخبر أبناءه وبناته الروحيين بقرب مغادرته العالم الأرضي، وقد أسلم الروح في اليوم الثامن من شهر تشرين الثاني من العام 1920م.
بعد رقاده بقي جسده كما لم ينحل وتنبعث منه رائحة طيب زكية. وزعت لاحقاً رفاته في أكثر أنحاء العالم. وحتى يومنا هذا ما تزال تسجل عجائب جمّة تجري باسمه، وقد تمّ إعلان قداسته في العام 1961م.

www.orthodox-saint.com

القديس نكتاريوس اسقف المدن الخمس