...

الشّيخ جاورجيوس الّذي من دير القديس بولس الآثوسي

 

الشّيخ جاورجيوس

 الّذي من دير القديس بولس الآثوسي1

 

وُلد1 الأب جاورجيوس،  الّذي كان اسمه في العالم جيراسيموس موسخوناس، في 6 أيلول1910 في قرية “خافذاتا” من “كيفالينيا”. ماتَ والده عن عمر 35 سنة، بسبب التهاب حادّ في الزّائدة.

اهتمّ عمّه كيرياكوس بإخوته اليتامى. عمل بجهد لتدبير أوضاعهم، ثمّ بعد خمس عشرة سنة صار راهبًا. نذر ذلك بسبب نجاته خلال الحرب، وعام 1927 أتى إلى دير القدّيس بولس وصار راهبًا، وأُعطي اسم قسطنطين.

كان الصّغير جيراسيموس يعمل في أثينا وفي “بيرييا” ويساعد إخوته بدوره، لا سيّما أنطونيوس. قال: “لو بقيت في العالم لصرت مثل Croesus2. كنت أعمل وكان المال يتدفّق عليّ بغزارة”.

سنة 1935 بعد انتهاء خدمته في الجيش، أتى بدافع الامتنان ليرى عمّه في الجبل المقدّس. وعلى الرّغم من كونه شابًّا حيويًّا، أشعلت حياة الآباء وعمّه الحماسة فيه، وقرّر البقاء ليصير راهبًا.

بعد فترة اختباره، رُسم راهبًا في 29 كانون الأول 1937 وأخذ اسم جاورجيوس. كان يجاهد بحماسة، ويجتهد جدًّا في واجباته الدّيريّة. كان إنسانًا مثمرًا في كلّ شيء. كان طبّاخ الدّير الأفضل، والبستانيّ الأفضل. كانت حديقته تصلح لأن تكون معرضًا. عندما كان الآباء يذهبون ليلاً إلى الخدمة، كان هو ينقب حديقته بالمعول نقبًاعميقًا جدًّا، تقريبًا إلى عمقِ متر، وهو يقول صلاة يسوع. كانت شتول البندورة تنمو عاليًا، وكان يحتاج إلى سلّم ليقطف البندورة. كان أيضًا الفرّان الأفضل. كان يعجن ويقول: “سأصنع لكم خبزًا لتأكلوه بالخبز”. وبالفعل كان الخبز لذيذًا جدًّا. كان أيضًا صيّادًا ماهرًا. كان كلّ ما يفعله كاملاً وممتازًا. وكان يصنعه من كلّ قلبه كي يريح الآباء.

         ساعد الدّير كثيرًا في الأعمال، وفي الإدارة، وأيضا كممثّل عن الدّير ومُشرف على أعماله.

     في أيّام الإحتلال كان بستانيًّا. أدخلوه في المعارضة، وكان يساعد الحلفاء على الهرب إلى الشّرق برفقة رهبان آخرين. وشى به رومانيّ، فأمسكوه وقادوه إلى معسكر “بولس ميلا”، حيث مَثَلَ أمام المحكمة العسكريّة. سأله القاضي:

– لماذا تأخذون الأعداء وتُرسلونهم إلى سميرنا وإلى مصر؟ إن قرع الآخر بابك، ماذا تقول له؟ يقول المسيح في الإنجيل أن نساعد المحتاجين إلى المساعدة.

سأل القاضي: أي، هل ستساعد الألمانيّ إن أتى إليك وطلب منك المساعدة؟

– إن كان يحتاج إلى المساعدة، طبعًا. بحسب نوعيّة المساعدة الّتي يحتاجها. لكنّكم أنتم لستم بحاجة إلى شيء. تُغرقون العالم في الدّماء، وتذبحون البشريّة.

حكم عليه القاضي بالموت. أخذوه إلى المعتقل في الأبراج السّبعة، وبعد يومين مرض بالملاريا. أخذوه إلى المشفى، وكان هناك النّاسخان (الرّاهبان بندلايمن وثيوفيلاكتوس نانوبولي، أخوان في الجسد، وهما من قلاّية النّسّاخ في “كارييس”)، والشّيخ ميلاتيوس الإسقيطيّ. كان الأب جاورجيوس محمومًا جدًّا. ذات مساء، ما إن خيّم الظّلام، حتى تعافى وجلس في السّرير وقال: “لقد أتى الآن القدّيس بولس والقدّيس جاورجيوس، وقالا لي إنّهما سيحرّرانني بعد ثلاثة أيّام”. لم يصدّقه الآخرون وظنّوا أنّه يهذي من شدّة الحرارة. ثمّ سقط الأب جاورجيوس من جديد في سبات. وبعد ثلاثة أيّام، فيما كان غير قادر أن يجرّ قدميه بسبب الحرارة والإرهاق، عند السّاعة الثّالثة بعد الظّهر، قفز من الطّابق الثّالث فوق إحدى الأشجار، من دون أدنى خدش، وفرّ. وعلى الرّغم من أنّ المكان كان تحت حراسة مشدّدة، لم يقبض عليه أحد.

انطلق إلى الدّير سيرًا على الأقدام، من دون أن يعرف كيف يسير. لكنّه، بتيقّظه، نجح في الهرب، ووصل إلى الدّير. لكنّه لم يدخل إليه. بقي في مغارة فوق الدّير، وكان رئيس الدّير سيرافيم والأب أندريا المسؤول عن المائدة، والأب داوود وحدهم من عرفوا بوجوده هناك. كان الأب أندريا يذهب ويناوله بالسّرّ أيّام السّبوت حين يحتفل بالقدّاس الإلهيّ في المدفن. كان مكان اللّقاء مغارة أخرى، مغارة القدّيس بولس الموجودة فوق برج الدّير. بقي 19 شهرًا في المغارة، ولا بدّ أنّه أمضى حينها شتاءً في منتهى القسوة. كان يأخذ حذره لئلاّ يكتشفوا مكان وجوده. أشعل النّار ليلاً لئلاّ يظهر الدّخان، وهكذا كان يدفئ المغارة. في المساء، كانوا ينزلون إليه الطّعام بسلّة من السّور.

في الرّبيع،  الّذي فيه كانت الشمس تتأخّر عن الوصول إلى المغارة، كان يخرج إلى الصّخرة المقابلة. مرّة لسعته أفعى. استجار بالرّسول بولس ولم يُصبه مكروه.

عندما انتهى الاحتلال، وزال الخطر، عاد الأب جاورجيوس إلى الدّير، واستلم خدمته من جديد. قال: “أمضيتُ وقتًا صعبًا، لكنّني لن أتذوق فرحًا كهذا ثانيةً في نفسي. كانت هذه بركة القدّيس بولس والقدّيس جاورجيوس اللّذين حرّراني”.

كان ابنُ وزير نيوزيلندا واحدًا من  الّذين خلّصهم الأب جاورجيوس بتهريبه. حالما انتهت الحرب أتى ليشكره مقدّمًا له كيس ليرات داعيًا إيّاه مخلّصه. أجابه:

– “لقد خلّصك الله وخلّصني أنا أيضًا”.

– “يرسل لك والدي هذه النّقود بكلّ محبّة”.

– “لست بحاجة إليها، فأنا قد تركتُ كلّ ذلك في العالم قبل انطلاقي إلى هذا المكان”.

– “خذها لأجل الدّير”.

– “الدّير لا يحتاج إلى مال نيوزيلنديّ”.

تأثّر النّيوزيلنديّ جدًّا، ولاحقًا أرسلت حكومة نيوزيلندا إلى الأب جاورجيوس شهادة تقدير تعترف به كمُحسن كبير لها.

كذلك، أرسلوا إليه وسامًا من إنكلترا، وأرادوا أن يعطوه ليرات ذهبيّة إنكليزيّة بمثابة معاش تقاعديّ، لكنّه أعادها إليهم. “كلّ ما فعلتُه كان من أجل وطني”. وآخرون كثيرون ممّن أنقذهم الأب جاورجيوس كانوا ممتنّين له، وأرادوا أن يكافئوه. ولكنّه لم يقبل شيئًا، على الرّغم من أنّ تلك السّنوات كانت صعبة بسبب الفقر والبؤس.

كتب مذكّراته في كتاب سميك واصفًا فيه كلّ ما مرّ به. ولو نُشر هذا الكتاب، لكان نفذ سريعًا. لكنّ الأب جاورجيوس أحرقه ذات يوم بعد إتمام قانون صلاته. قال: “هذه لا تُناسب الرّهبان”.

كان الأب جاورجيوس ممهورًا بمواهب عديدة وبنفس صلبة. في كلّ شيء كان ممتازًا. وتميّز، أكثر من كلّ شيء آخر، في المجال الرّهبانيّ، وقد سما روحيًّا. كان مجاهدًا عظيمًا طبعًا، لكن، ما ساعده كثيرًا هي نصائح الأب أثناسيوس الفاضل، رئيس دير غريغوريو، الّتي كان يسمعها بعد تلاوة الإنجيل، ويحفظها بدقّة.

قال له الأب أثناسيوس: “لن تضيء لمبة. ستأوي باكرًا إلى قلاّيتك، وتنام باكرًا، وتنهض من أجل قانونك والخدمة”. قال له أبوه الرّوحيّ ذلك مرّة واحدة، وهو حفظه طول حياته. لم يضئ لمبة بتاتًا.

قال له أيضًا ألاّ يضع ماء على جسمه. وهو حفظ ذلك، وفعل أكثر من الوصيّة. منذ ذلك الحين، بقي من دون حمّام. قال: “في قريتي كنت دلفينًا، كنت أسبح كثيرًا. ومع ذلك، فمنذ أتيت إلى الدّير لم أغطس في البحر من جديد”. كذلك قال: “خاصمتُ الإسفنجة والمكنسة منذ سنوات”.

كان الأب جاورجيوس يشبه ألماسةً غالية الثّمن رُميت طوعيًّا في الوحل والتّراب. هذا ما أراده هو نفسه. عمل ذلك بداعي النّسك والتّواضع ليحتقروه. كان يحاول ألاّ يَظهَرَ مُهِمًّا وألاّ يكرّموه. طوعيًّا لم يستحمّ البتّة. عندما وضعوا سائل الصّابون في المطبخ، سأل متعجّبًا: “ما هذا؟” وهو يضغط على الزّر. حالما أجابوه إنّه صابون، مسح يديه بغمبازه، وقال بحزن واضح وحيرة: “يا للهول! هذا صابون”.

م يلبس ثوبًا جديدًا أبدًا. قال: “لن أصير عبدًا للثّوب. لا الجبّة ولا الرّسامة يصنعان الرّاهب، إنّما الشّوق السّماويّ والسّيرة في الله”. لكن، إن ذهب إلى العالم من أجل أُمور الدّير، كان يولي ذاتَه بعض الانتباه لئلاّ يُعثِرَ أحدًا.

كان يقرأ القدّيس إسحق السّريانيّ والفيلوكاليا كثيرًا ودعاها “كرّاسة كبيرة”، لأنّها كانت مختصرة. لازمه هذان الكتابان على الدّوام، وكان يستند على الآباء، ويستشهد في كلّ ما يقوله بالأنبا إسحق.

قال لراهب: “لديّ صديقة (الفيلوكاليا) لا تدعني أُخطئ عندما أواجه صعوبة وأسألها النّصح”.

مع أنّه أتمّ الصّفّ الابتدائيّ، فقد حفظ غيبًا فصولاً كاملة. كانت الفيلوكاليا قد بليت من كثرة قراءتها. كان يجتنب إعطاء النّصائح عامّة، ويقول: “لديكم موسى والأنبياء”. عندما يطلب منه أحدهم النّصائح، كان يجيب: “مَن أنا لأنصحكم، يا أبتِ؟ أجد ذاتي غير مستحقّ. كلّ واحد يعرف كيف يدبّر خلاصه”. كان يكلّم الجميع بالجمع حتى المختبر الأخير. تمتّع بتهذيبٍ زائدٍ. كان يُكلّم الآخر بصفة الجمع: “من فضلكم”.

كان يحبّ الخِدم الكنسيّة كثيرًا. ينزل إلى الكنيسة قبل “تبارك الله…”، ويغادر بعد “بصلوات آبائنا…”. لم يجلس البتّة على مقعد الكنيسة. كان يبقى واقفًا على الدّوام. لقد أوصاه الأب أثناسيوس ألاّ يجلس خلال القدّاس الإلهيّ.

كان المسؤول عن الكنيسة، عندما يدخل الكنيسة من أجل إضاءة القناديل، يجد الأب جاورجيوس  الّذي كان يأتي بعد قرع الناقوس الخشبيّ الأوّل، ليجلس في النّرثكس ويُصلّي المسبحة. كان حضور الأب جاورجيوس يعزّيه. سأله مرّة لماذا يأتي باكرًا جدًّا. أسرّ له الأب جاورجيوس بالتّالي: “عندما كنتُ شابًّا، تأخّرت مرّتين أو ثلاثة عن الخدمة. قلت: “سأنزل إلى الكنيسة بعد صلاة نصف اللّيل، أنا متعب”. حينها رأيت القدّيس بولس في نومي يحمل عصاه ويقول لي: “إنهض وانزل إلى الخدمة، لأنّني سأكسر هذه العصا على ظهرك، الويل لك”. اقتنى دقّة بالغة: بعد صلاة النّوم، لم يكن يشرب الماء ولم يكن يأكل شيئًا. كان آخر من يسجد ويقول: “أنا أعرف دوري. أذهب أخيرًا كي أكون الأوّل”. طبعًا لم يكن يؤمن أنّه الأوّل، لكنّه أراد بذلك أن يُخفي عمله المتواضع. عند أخذه قربانة الأنديذورُن، أو لدى الدّهن بالزّيت في السّهرانيّات، لم يكن يدير ظهره للكاهن، إنّما كان ينصرف متراجعًا إلى الخلف، بداعي التّقوى.

استحقّ أن يرى القدّيس نكتاريوس في رؤيا، في وقت الخدمة. “رأيت رئيس كهنة، لابسًا حلّة رئاسة الكهنوت بكاملها، يخرج من الباب الملوكيّ. جوابًا على تساؤلي عن هويّته، قال لي صوتي الدّاخليّ: “القدّيس نكتاريوس!”. أسرعتُ، وسجدت إلى الأرض طالبًا بركته: ” باركني. نحن في الدّير نقيم لك سهرانيّة”. رسم عليّ إشارة الصّليب، ثمّ اختفى كلّ شيء.

مرّة أخرى أخبر: “مرّةً، كنت واقفًا في النّرثكس لدى خروج الآباء من الكنيسة، فرأيت شيئًا غريبًا. كان بعض الآباء لابسين اللّباس الرّهبانيّ بكامله، الجبّة، والقبعة، واللاّطية، والإسكيم. أمّا البعض الآخر فكانت تنقصهم اللاّطية، وبعضهم الآخر تنقصه القبعة، وآخرون ينقصهم الإسكيم، وآخرون تنقصهم الجبّة، وآخرون كانوا يلبسون الغمباز فقط. حينها، سمعت صوتًا بجانبي يقول: “ما تراه يشير إلى ما أَخذه كلّ واحد من الخدمة لدى خروجه من الكنيسة”.

أحبّ التّقليد، وابتعد عن الأمور العالميّة، والتّطوّرات التّقنيّة. مَثَّلَ الدّيرَ في الوقت  الّذي كان مجلس رئاسة الجبل المقدّس يدرس فيه موضوع فتح طرقات للسّيّارات في الجبل المقدّس، وذلك قبل الألفيّة الثّانية بقليل. اعترض الأب جاورجيوس، ولم يُوقّع. كان لديه بُعد نظر. فهم جيًّدا، مثل القلائل، أنّ الطّرقات ستُدمّر الجبل المقدّس. لكنّ الطّرقات شُقَّت، وعندما رأى الأب جاورجيوس أنّهم يشقّون الطّريق إلى ديره، غادره وذهب لمدّة سنة ونصف إلى “كيراسيا”. نصحه أحد الآباء الرّوحيّين: “فعلت جيّدًا أنّك رحلت، لكنّني أَنصحُك بالعودة، لأنّ أيّامك يمكن أن تكون معدودة، ورأيت كثيرين تعساء وهم يموتون بعيدًا عن مكان توبتهم”.

عاد إلى ديره، ورأى طرقات أخرى تُشَقّ. حينها، قال لذاته: “لن أرحل من ديري، لكنّني لن أستقلّ سيّارةً قَطّ في الجبل المقدّس، طالما أنّني لا أوافق على شقّ الطّرقات، لأنّها ستدمّر الجبل المقدّس”. ولقد أَرفق قوله بالفعل. كان يركب السّيّارة أثناء وجوده في العالم خارجًا في مهمّات تتعلّق بالدّير. أمّا في الجبل المقدّس، فلم يركبها مطلقًا. كذلك، لم يركب الباص. عندما يستدعي الواجب ذهابهم إلى الجبل لرؤية أمر ما، كان الأب جاورجيوس ينطلق قبل ساعتين على الحمار. وكممثّل عن الدير، كان يصعد من “دافني” إلى “كارييس” سيرًا على الأقدام. كانت لديه مثل هذه الأمانة! وهذه الأَمانة تَعلَّمها من “العجوز”، كما كان يُسمّي الفيلوكاليا، لئلاّ يبدو عليه أنّه يقرأ.

عانى مرّة من الفتاق، فزار أحد معارفه، الممثّل عن دير فاتوباذي، وسجد لزنّار الكلّيّة القداسة الشّريف. صلّى فشفته الكلّيّة القداسة. منذ ذلك الحين وحتّى رقاده، استمرّ في الذّهاب، كلّ سنة، إلى احتفال عيد الزّنّار المقدّس. لم يلتمس قلاّية أو سريرًا. كان الآباء يعرفونه، ويعملون كلّ ما في استطاعتهم لراحته، لكنّه كان يجلس على مقعد في النّرثكس طول السّهرانيّة. كان ينطلق قبل يوم من الدّير بالمركب، ويصعد إلى “كارييس” سيرًا على الأقدام حاملاً كيسه على ظهره، ومن “كارييس” إلى دير فاتوباذي يتابع أيضًا سيرًا على الأقدام. بعد السّهرانيّة يعود إلى “كارييس” سيرًا على الأقدام، ويُمضي اللّيل هناك. ومن جديد كان ينزل من دافني سيرًا على الأقدام ليُبحر بالمركب. هذا قام به حتى 1997، وهو في عمر السّابعة والثّمانين، إذ إنّه رقد في العام التّالي.

عندما جلبوا معجنًا إلى الدّير، امتنع عن الدّخول إلى الفرن باستثناء مرّة واحدة، بعدما توسّل إليه الفرّان أن يساعده لأنّه حاول أن يصنع الخبز مرّات عديدة ولم ينجح في ذلك، ثم طلب منه الياروندا الذّهاب. ذهب وعلم السّبب بمجرّد إلقاء نظرة، فنصحه ورحل.

ومع أنّه كان نشيطًا وعاملاً، كان يحبّ الهدوئيّة كثيرًا. قال: “المرافقة الأفضل لنفسي هي الوحدة”. مرّة حين كان ممثّلاً للدّير وبقي في “كارييس”، استمرّ الضّباب الكثيف لمدّة 27 يومًا، بحيث إنّ شجرة الكرز المقابلة لم تظهر من النّافذة. لم يُضايق ذلك الأب جاورجيوس المحبّ الهدوئيّة. إنّما اعتبره بركة، وقال: “كانت أحلى أيّام حياتي. كنت أجلس وأصلّي المسبحة”.

يشهد أحد أعضاء مجلس الجبل: “أكثر مَن أثّر فيّ من ممثّلي الأديرة كان الأب جاورجيوس الآيوبافليتي. كان راهبًا صالحًا ورجل صلاة. عندما ترأّس مجلس إدارة الجبل، كان يغادر المكتب حيث يجلس الآخرون جميعًا، ويذهب إلى مكتب مجاور ويصلّي المسبحة. عند مناداته للتّوقيع، كان يذهب ليوقّع، ثمّ يغادر من جديد ليتابع الصّلاة بالمسبحة. امتلك التّمييز والنُّبل. في المسائل الّتي لم يوافق عليها لأسباب ضمير رهبانيّ، لم يكن يتشاجر أو يُصرّ على رأيه أو يحاول فرضه”.

قال أيضًا عن خبرة: “إن تركتَ الخدم الكنسيّة والقانون والاعتراف، فكأنّك تدهن حذائك، وسيُخرجك الشيطانُ من الدّير”.

لم يقبل شيئًا من أحد، مهما أَعطوه. وعندما كانوا يسألونه: “لماذا؟” كان يجيب: “وجدتُ ذلك في القانون الكبير: “الكاره الهدايا يعيش”3. مرّة، لدى وجوده في العالم، رأته إحدى المسنّات ينتعل حذاءً مثقوبًا، وقالت له: “يا أبتِ، إسمح لي أن أَجلب لك حذاء”. أجاب: “أنا في دير لديه أحذية. هناك فقراء آخرون، ساعدي في مكان آخر”.

عندما سأله أحد الحجّاج من أين هو، أجاب بتمويه وبساطة: “أنا وُلدتُ في مركب، لستُ من أيّ مكان”. ثم علم الزّائرُ، مِن الدير، بعد سؤاله، أنّ هذا كان الأب جاورجيوس  الّذي أراد ألاّ يعرفه أحد وينشغل معه. مرّة عندما كان بستانيًّا، أضلّ أحدُ الحجّاج الطّريق، ووصل إلى طريق مغلق. سمعه الأب جاورجيوس يصرخ طالبًا النّجدة. ذهب وخلّصه. في صلاة الغروب رآه الرّجل وأراد أن يشكره. أجاب: “تشكرني أنا، يا سيّد، أنا لا أعرفك. لقد أخطأت”، واختفى.

عنما تخطّى الأب جاورجيوس الثّمانين، قال: “لقد تخطّيتُ قواي4. الآن، ماذا أنتظر؟ من الآن فصاعدًا تعبٌ ووجع”.

توقّف حينها عن القيام بأيّة مهامّ، وكان يُمضي اليوم في المكان حيث سمعت مارو صوت الكلّيّة القداسة، عندما جلبت الهدايا الشريفة. كان يُشعل القنديل ويصلّي المسبحة حتى الغروب. جَعلَ لوحَين أو ثلاثة ألواح خشبيّةٍ بمثابةِ سقفٍ وملجأ. وكان لديه كرسي صغير بسيط ليجلس. كان يلبس معطفًا رقيقًا من أجل البرد. ردّد صلاة يسوع لساعات طويلة لا تنتهي. كان يُعِدُّ للرّحلة الكبيرة. قال: “يا أبتِ، ما الأربعاء، وما السّبت؟ لا بدّ أن يحدث هذا. لا أخاف أبدًا”.

كان يتجنّب الكلام مع العابرين أو يتباله. سأله إكليريكيّ:

– “من أين أنت أيّها الشّيخ؟”.

– “أنا عابر”.

– “ما اسمك؟”.

– “أنا يقطينة”.

مرّات عديدة كان يبقى طول اللّيل في المدفن وهو يصلّي، وكذلك في الشّتاء أيضًا على رغم البرد القارس. مرّة نسي القندلفت أن يفتح باب الدّير في الصّباح أثناء الخدمة، وبقي الأب جاورجيوس يقرع ليفتحوا له.

عندما كان يذهب آباء شبّان إلى قلايته ويسألونه إن كان يريد شيئًا ليجلبوه له، كان يطلب منهم أن يدَعوه وحده. كانوا يسألونه: “لماذا، أيّها الشيخ؟”. كان يجيب: “عندما تبقى وحدك، يُرسل لك الله ثلاثة ملائكة ليبقوا معك”. لم يُبدّل قلاّيته حتى سنّ الشّيخوخة، على رغم أنّها كانت عالية وكان يستصعب صعود درجات عديدة. طبعًا في نهاية حياته، عَميَ تقريبًا وكان يسير وهو يتلمّس الطّريق مستندًا إلى الحائط. قَبِلَ بأن يضعوا له لمبة ليرى. كان شكورًا، ويقول: “على الأقل الآن أرى سريري”.

في آخر حياته عانى من وسطه، وكان ينزل كلّ يوم إلى الخدمة. ذات يوم، انتهت المزامير السّتة وكان الأب جاورجيوس غائبًا. صعد الخادم في المأوى ليراه، فوجده راقدًا كما كان جالسًا، والمسبحة في يده. كان ذلك في الصّيف، في 23 تموز 1998. لم يعثُروا على ثيابٍ خاصّةٍ له ليُلبسوه. أعطى الآباء من ثيابهم، وغسلوه للمرّة الأولى في حياته منذ أن صار راهبًا.

مغبوطٌ هو الأب جاورجيوس  الّذي بعدم استحمامه وتواضُعه نجح في حفظ كنزه الرّوحيّ غير مسلوب. نجح بنباهةٍ أن يتجنّب العدسة التّصويريّة، الأمر  الّذي كان صعب التّحقيق لأنّه عاش سنوات طويلة في الدّير، وكان ممثلاً عن الدّير، ومسؤولاً في مجلس إدارة الجبل في “كارييس”. بسبب تواضُعه لم يُعثَر له على صورة أو هويّة أو بطاقة تعريف.

فليفرح الآن وليتهلّل هناك حيث هو، وليصلِّ لينال المسامحةَ  كلُّ من أدانه وأَذَلَّه  بسبب شكله الخاجيّ.

فلتكن صلاته معنا، آمين.

 

 

                      ترجمة الأم بورفيريّة

دير القدّيس سمعان العامودي – النوريّة

 

[1] – مأخوذة من كتاب  ” شذرات من التقليد النسكيّ الهدوئيّ الآثوسي”  قلاّية القيامة جبل آثوس – بتصرّف

[2] – آخر ملك لليديا، حكم من سنة 560 حتى سنة 546 ق. م. اشتهر بكثرة غناه، وأخضع المدن اليونانيّة على طول ساحل آسيا الصّغرى قبل أن تتمّ إطاحته من قبل ساويروس ملك الفرس.

[3] – أمثال 15: 26

[4] – “أيام حياتنا سبعون وإذا كانت مع القوة فثمانون.

الشّيخ جاورجيوس   الّذي من دير القديس بولس الآثوسي