...

الخبرات الأولى

الخبرات الأولى

 

للأب صفروني سخاروف
ليس بالأمر السّهل عليّ وصف الخبرة الرّوحيّة الممنوحة لي في بدء حياتي. لقد عشت على ضفاف عالمين، ممزَّقًا بين المرئيّ واللّامرئيّ، بين عالم العقل ومملكة السّماء. وما أودّ الكشف عنه بقولي إنّي كنت مقيمًا بين عالمين هو أنّ ما حصل لي كان يفوقني؛ فالمبادرة لم تكن منّي، بل من الله الحيّ، الّذي وقعتُ بين يديه (عب10: 31). وعلى الرّغم من عذابي، تاهت روحي في دهش قدّام الله.
الرّبّ حفظني من رباطات كان ليكون من الصّعب عليّ كسرها. لذلك، عندما احتجت إلى أن أتحرّر من كلّ المسؤوليّات الواقعة على عاتقي بشأن الآخرين، كان لي ما طلبت؛ فشكرت الله على اهتمامه بي؛ وعرفت أنّي، إذا متُّ، فلن يتألّم أحد لخسارتي. كنت محظوظًا جدًّا، إذ كان بإمكاني أن أجازف بأيّ شيء، حتّى بالموت. كلّ انتباهي كان مركَّزًا على داخلي. هكذا دام حالي إلى سنين طويلة. أمّا الصّلاة، فتفاوتت في الشّكل والقوّة، ولم تجتذبني في كلّ الأوقات باقتدار مماثل. لكنّي، في بعض الأحيان، كنت نَهِمًا لا أشبع. ولو شئتُ، في ذلك الوقت، أن أتوقّف عن الصّلاة، لَما استطعت (كنت، في ذلك الحين، في فرنسا، قبل رحيلي إلى جبل آثوس). في تلك الأيّام المباركة، كنت أشقى المخلوقات على الأرض؛ ولكن، أكثرها بركة.
في بعض الأحيان، كانت تجتاحني نار من أعلى رأسي، وتلتمع في جسدي حتّى أخمص قدميّ؛ فتتملّكني صلاة حارّة لأجل العالم، مرفَقَةً بدموع غزيرة، ساعات طويلة لا حدّ لها. في أكثر الأحيان، كنت أصلّي راكعا على ركبتيّ، وجبهتي ملتصقة بالأرض. وعندما كان جسدي يتعب، كنت أغفو. لكنّ ذاتي اللّاواعية كانت تستمرّ بالصّلاة، ولم أكن أعي أنّي كنت نائمًا. فقط عندما أَصحو، كنت أعي أنّ جسدي كان نائمًا، لأنّه لم يكن في الوضع الّذي كان عليه أثناء الصّلاة.
مرّتين أو ثلاثًا، أضعت، في شوارع باريس، كلّ إحساس بالعالم المادّيّ من حولي بسبب الصّلاة. لكنّي كنت أصل سالمًا إلى وجهتي. وإنّي أتأسّف، إلى حدّ ما، إذ لم يكن لي رفيق يصف لي تصرّفي في تلك الحالات الّتي أعيش.
مرّة، كنت أحضر، في باريس، ندوةً لشاعر مشهور، كان يقرأ قصائده. وكان الجمع من صفوة النّاس. كلّ شيء كان مرتّبا جدًا، من النّاحية الاجتماعيّة. أمّا أنا، فغادرت عند منتصف اللّيل. وفي الطّريق إلى منزلي، رحت أتأمّل كيف يمكن لهذه الظّاهرة، الّتي هي من أرقى أشكال الإبداع البشريّ، أن ترتبط بالصّلاة. ولمّا دخلت غرفتي، بدأت بالصّلاة: “قدّوس الله، قدّوس القويّ، قدّوس الّذي لا يموت، ارحمنا…”، وإذا بشعلة خفيفة تهفُّ على وجهي وصدري، رقيقة كنسمة عليلة، لكنّها غير متناغمة والرّوحَ الإلهيّ.
في داخلي، كنت ممزَّقًا بين الفنّ والصّلاة. وبعد صراع طويل وعنيد، تغلّبتِ الصّلاة. غير أنّي، في المعهد اللّاهوتيّ، لم تنفعني الصّلاة في تركيز انتباهي على المادّة المعطاة. كان عليّ أن أتصارع وهذه العوائق الّتي لا قيمة لها بحدّ ذاتها. لكن، ما نفعني كثيرًا أنّي أُعطيت غرفةً خاصّة فوق جناح الأساتذة، ممّا سمح لي بأن أصلّي كما كنت معتادًا. وعلى الرّغم من كلّ اهتمامي بحياة الكنيسة وتاريخها، فإنّ حاجتي الرّوحيّة إلى الصّلاة تعثّرت؛ فارتحلت إلى جبل آثوس.
هناك، في الجبل المقدّس، لاقَتْ حياتي مسارها الصّحيح. كنت أذوق فرح القيامة، يوميًّا، بعد القدّاس الإلهيّ. وعلى أغرب ما يمكن للمرء أن يتصوّر، انفجرت صلاتي هادرة كالبركان من يأسي العميق المستحوِذ على قلبي… حالتان غير متآلفتين التقتا فيّ. هذه وقائع أسجّلها، على الرّغم من أنّني لم أكن أفهم ما يجري فيّ. ظاهريًّا، لم أكن أقلّ حظًّا من كثيرين حولي.
بعد ذلك، توضّحت الأشياء؛ فالرّبّ منحني نعمة التّوبة (لو24: 47). نعم، كانت نعمة!! لحظة كان يَهِنُ فيّ اليأس، كانت الصّلاة تفتر، والموت يجتاح قلبي. وبوساطة التّوبة، كان كياني يتمدّد؛ حتّى بِتُّ ألامس، بالرّوح، الجحيمَ والملكوتَ، في آن. ومع الحرب العالميّة الأولى، عام 1919، ومع أخبار سقوط آلاف القتلى على جميع الجبهات، أُغرق الكون كلّه، حسب رؤيتي، في غيمة لا تُخترَق من العبث. لم أستطع تقبّل الموت، ولا العبث. ووجدتُ نفسي في حالة ما بين بين… كنت أفكّر جزئيا، وأحسّ جزئيا بأنّ كلّ ما عرفته وما أحببته، ممّا أعطاني حياة وألهمني خيرًا، كلّ شيء، حتّى الله نفسه، كان سيموت لو أنا متُّ. كانت خبرة مخصبة: الإنسان، كشخص، بإمكانه أن يصير مخزنًا لكلّ ما هو موجود.
كنت أحيا في عالمين: واحد أَدركتُهُ بالنّظر والسّمع والباقي بقواي الجسديّة، والعالم الآخر كنت فيه روحًا، كلّيّ السّمع والتّرقّب. حاولت، بجدّيّة، أن أبصر؛ لكنّي رأيت بعينين أخريين. وهذان العالمان المتباينان لم ينقسما في الصّلاة؛ ففي النّهار، كانت الصّلاة تنساب في العالم المحسوس. لكن، خلال اللّيل، كانت الصّلاة تنقلني إلى عالم غير محسوس، إلى مدارات روحيّة. إنّني أعجز عن عنونة الأبديّة الّتي غمرتني. عندما كنت أقرأ الأناجيل، كانت كلّ الكلمات مألوفة عندي. لكن، ما كان وراء كلّ منها، في كيان الله ذاته، فذاك لم أكن أَفهمه. فكرة واحدة كانت لافتة وواضحة، بالنّسبة إليّ، وهي أنّ كلّ شيء موجود في المسيح، ابن الله، وفيه وحده فقط. وله صلّيت… وصلّيت بالطّريقة نفسها إلى الآب، حتّى يُنْزِل الرّوح الحقّ، المنبثق منه، عليّ أنا، ليرشدني إلى ملء الحقّ (يو16: 26، 13). إنّ بحثي عن الإله المتواري وجد أصداء عدّة، في العهد القديم، توافق حالتي؛ وكلماتٍ عدّة تعبّر عن حاجاتي؛ فتعاطفتُ مع اعتراضات أيّوب، ومع تأوّهات الأنبياء الّذين وُلدوا قبل المسيح. والتقطتُ وحيًا للصّلاة من المزامير. لكنّي، من العهد الجديد وحده تعلّمت مِحَكَّ كلّ شيء، مهما كان أصله. وعطشي إلى معرفة الله كان بلا ارتواء، إذ إنّني صلّيت كثيرًا، وترجّيت كثيرًا، لكنّ روحي لم تكن تلقى الاكتفاء. هذه كانت “كأسي” في جبل آثوس. الحزن والفرح انسكبا فيّ، يخفّف أحدهما الآخر. لم أرَ طريقًا واضحًا منفتحًا أمامي. كنت في ضياع تامّ، مملوءًا ألمًا. لكنّ هذا المناخ الرّوحيّ بعينه هو الّذي وَلَّدَ فيّ فهمًا لعظمة الإنسان. أليس من خلال هذا الألم المقدّس يتّصل الإله القدير والكائن الأسمى، أي الله، بمخلوقاته، معطيًا إيّاها المعرفة بتدرّج، لا فقط عن الكون المخلوق، إنّما عن نفسه أيضًا؟!…

من كتاب في الصّلاة للأب صفروني، تعريب الأمّ مريم زكّا.

 

 

الخبرات الأولى