...

العفة، من ثمار الروح

 

 

 

ماهي العفة؟

“أمّا ثمر الروح فهو ….تعفف“.

إنّ العفة هي ثمرة الروح القدس الأخيرة، والتي تأتي كسقف للفضائل الأخرى. العفة بتعريفها البسيط هي الاستطاعة في ضبط كلّ شيء. الضبط في الطعام والشراب، في اللباس والنوم، في الضحك والسرور، وأخيراً ضبط الجسد على كلّ الدوافع غير المنتظمة.

العفة هي قهر الروح للجسد وتغلبها عليه. هي سيطرة الروح على المادة، وسيطرة الإرادة ضدّ الأهواء. هي السيطرة على ضعفاتنا وأذواقنا وحاجاتنا ورغباتنا الشرعية وغير الشرعية. فالعفة هي سيطرة الإرادة الصالحة على الإرادة الخاطئة. العفة هي تلك القدرة الرائعة التي تعطينا قوة استجماع الذات الداخلية في حدود المنطق والشرعية، وتجعلنا قادرين أن نحفظها من التطرف والمغالات والانهيارات غير المتوقعة.

العفة كثمرة الروح القدس، هي عفة “على كلّ ما هو قذر“. بمعنى آخر ليس فقط عن كلّ ما ينتج عن الطعام، بل “على كلّ شيء شرير“. فالعفة ثمرة طاهرة لتجديد روحنا الداخلية، وهي سقف كلّ الفضائل. فمن دونها لا قيمة لباقي الفضائل، ولن نستطيع أن تنمو وتثمر.

ما القول: عن إنسان لديه قدرٌ من المحبة، وفي الوقت نفسه هو مدمن للخمر؟ أو إنسان وديع وعنده طول أناة وقدرة احتمال، ولديه رغبة في فعل الخير والإحسان لكنّه عبدٌ للجسد ورغباته الخاطئة؟ فهل يوصف هؤلاء الناس من آخرين بأنهم للروح القدس؟ بالطبع لا. لأنهم لا يستطيعون أن يثمروا بفضيلة كاملة من دون قدرة السيطرة على الذات. لهذا تأتي العفة كفضيلة مكملة وجامعة وشاملة للكل، والتي من دونها وإن تواجدت الفضائل الأخرى تفقد قيمتها. فمن يُحرم من هذه الفضيلة الأساسية لا يستطيع امتلاك أخرى بالكلية، ولا يمكن أن يسكن الروح القدس في نفس تحيا تحت عبودية الجسد.

العفة في الطعام

نحتاج إلى عفة في الطعام تأتي تدريجياً. فالطعام له هدف وهو تغذية الجسد، زرع فينا الله غريزة الجوع لكي تعمل بنا بشكل أفضل، كما أنّه أعطانا لذّة التذوق لنأكل ونشكر بفرح في طعامنا. فهدف الطعام ليس التذوق وإنما تقوية وتغذية الجسد والمحافظة على صحته. إنّ لذة التذوق هي وسيلة تحريض للأكل. من سيأكل، إن غابت هذه الحاسة؟ اللذة في الطعام لذةٌ بريئة وهبها الخالق لأحبائه، وملأ حياتنا بلذّات وتنعمات كثيرة وهذا ما يجعل حياتنا مليئة فرحاً وبهجة، وهو بذلك يحرك فينا اهتماماً لنشتاق لتذوق حلاوات السماء التي تنتظرنا في الدهر الآتي.

إذا أكلنا بانتظام فإننا سنفرح في طعامنا شاكرين. وعلينا أن نطبق العفة في الطعام، ونأخذ ما يحتاجه جسمنا للعيش “نأكل لنعيش، أم نعيش لنأكل“، وإذا عكسنا شروط الأكل سيكون لدينا مشكلة فيزيولوجية أساسها الطعام، بحيث لا نفكر إلا فه ونسقط في خطيئة الشراهة التي هي غياب العفة في الطعام.

هناك مثل هؤلاء الناس كثيراً في المجتمعات. يقول بولس الرسول في رسالته إلى أهل فيليبي “الذين نهايتهم الهلاك الذين إلههم بطنهم…”(فيليبي19:3). ويقول في رسالته إلى أهل رومية “لأن مثل هؤلاء لا يخدمون ربنا يسوع المسيح بل بطونهم“(روم18:16). من إلهه الطعام فهو يفتكر به ويعبده ليلاً ونهاراً . ويطلق عليه الجميع لقب “الشَرِهون” و “عابدي بطونهم“.

يصوّر القدّيس يوحنا الذهبي الفم من يهتمّ بطعامه وبطنه دوماً بشكل دقيق لا نظير له فيقول: ” تشرق الشمس وتبسط أشعتها البرّاقة في كلّ مكان، ويخرج كلّ واحد إلى عمله. فالمزارع إلى محراثه، والنحاس إلى مطرقته، والمرأة إلى نسيجها وحياكة الثياب. أمّا ذاك المتعبد لبطنه فيشبه الخنزير حالما يطلع النهار يبحث عن شيء لاجتراره ليعيل به بدنه، ويطلب ليجد مائدة غنية ليعّدها لنفسه“(Migne 60, 255 ).

عزيزي القارئ، بالتأكيد تجد كثير من هؤلاء الناس حولك، فهم يتواجدون أيضاً في الطبقات المثقفة. همهم الرئيس هو الطعام، هو محور نقاشاتهم وبلسم قلوبهم. وعندما يجلسون إلى المائدة يأخذون بالتهام الطعام دون أدنى أدب في الطعام، يأكلون بأيديهم لكي يلحقوا أن يكلوا أكثر فأكثر، يفرغون الصحن تلو الآخر ولا يشبعون. وما أن ينهون طعامهم حتى تبدأ الاضطرابات المعوية من جراء عبء الطعام في البطن؛ فهم عابدي البطون. وهكذا نمط من الناس يثيرون ردات فعل نفسية لمن يراهم، فالناس الشرهين يدينهم الكلّ ولا يكنّون لهم أيّ اعتبار أو كرامة حتى من من شغل مناصب رفيعة، ويسقطون من عيون الرأي العام.والشعب عادةً يطلق عليهم ألقاباً مزخرفة ويكنّون لهم أسماء مزركشة ليميزونهم . يذكر القدّيس نيقوذيموس الآثوسي في كتابه“نصائح في كتاب” أمثلة عديدة من التاريخ عن أناس كانوا عبيداً للشراهة (….ص201)

الاستعباد لشهوة اللذة التي لا تعود فقط إلى النهم والشراهة، وإنما إلى كلّ ما هو يعود إلى عدم القدرة على ضبط الذات. (ص202).

تتكبّد النفس إساءات كثيرة في تحديقها في الطعام، ويكون سهلاً لسقوط الإنسان في تجارب كثيرة يستغلها الشيطان يقول الآباء الشيوخ: “إذا لم تخرج الاستمتاع بالشهوة من النفس، فذهننا سينسحق في حربه مع الشيطان” (ص63).

الأمر الأسوأ هو عدم ضبط النفس في الطعام والذي يقودنا حتماً إلى الشهوات واللذات الخاطئة. يقول القدّيس سمعان المترجم أنّ الشراهة والنهم في الطعام هما مصدر وجذر الخطيئة الجسديّة. فمن السهل ضبط النفس والجسد إن كان المرء عفيفاً في طعامه وضابطاً لذاته، فبهذا يتجنّب الخطايا المتوَّحِلة. لأنّه حيث لا جذر، لا يكون هناك فرع أو غصن. وحيث لا يوجد نبع، لا ينحدر نهر. وهكذا عندما يبطل وجود الشراهة سيتوقف الخطر الذي يهدّدنا من السقوط في الخطايا الجسديّة. ” ابتعد عن الشراهة؛ فهي أمّ وجذر ونبع كلّ فجور. الشراهة صنبور الفسق النتن، والعهر العفن. اعتقل واهرب من الشراهة حتى لا تكون جذراً وجوهراً للنتانة، فمن دونها لن ينحدر أيّ نهر أو نبع غير معروف المنشأ. بطل الفجور ببطلان الشراهة (سمعان المترجم–ص92).

إنّ الشراهة أهلكت كثيرين كما يقول الكاتب الكنسي نفسه موضحاً بأنّ الشراهة والنهم هما صنبور يجري منه الوحل والطين، وهما نهر يجري بالأهواء والخطايا الموحلة، وهما رأس كلّ فجور، وولادة كلّ الشرور“. (سمعان المترجم–ص99).

يشبّه القدّيس باسيليوس الكبير وفرة الطعام وغناه بالدخان الكثيف المتبخر بالرائحة الكريهة، وكمثل سحبٍ داكنة تواري في طياتها إشراقات الروح القدس. (مقال للقدّيس باسيليوس الكبير حول الصوم).

وكما أشرنا سابقاً، لا يمكن زرع الصالحات بغياب الروح القدس عن النفس، بل تنبت الأشواك والطفيليات. فالشراهة وكثرة الطعام تقتل الجسد كما أنّه تقتل النفس. يقول إيباكراتوس: ” البدين يموت أسرع من النحيف“. بمعنى آخر، البدين بسبب كثرة الطعام يتجه أسرع إلى الموت من النحيف. ويؤكّد الأطباء بأنّ الغذاء المعتدل مع ما يحتويه من طاقة حيوية أمّ الصحة. “أمّ الصحة هي غذاء معتدل، وبها لا آلام ولا كسل“. يؤكّد القدّيس سمعان المترجم على حقيقة هذا الأمر ويضيف “عندما تكون الأمعاء مليئة ومنفوخة بالطعام، يخف النوم وتتدهور الصحة” (سمعان المترجم، ص95).

هناك مثل رائع يقول: “إنّ الشراهة والنهم تقتل أكثر ممّا يقتل السيَّاف“. يقول الجرّاح الشهير لا مبالٍ: “لنعيش سعداء يكفينا ثلث كمية الطعام فقط من كلّ ما نأكل“.

  • عندئذٍ سأله صديقه الذي شكَّ في كلامه: “وماذا ينفعنا الثِلثين الباقيين؟.
  • “هذين الثِلثين ليعيش الأطباء”أجاب الطبيب.

قيل قديماً: “أطباقاً كثيرة، أمراضاً كثيرة“.

يُحكى أنّ طبيباً فرنسياً مشهوراً عندما كان يزور مرضاه الأغنياء في بيوتهم، كان له عادة زيارة المطبخ أيضاً ليسلّم على الطباخ أو الطباخة بابتسامة والقول: “نحن الأطباء لكم ممنونون، فأكثرنا سيموت من الجوع من دون مهنتكم الرائعة“.

إنَّ الشراهة والنهم يهلكان ويدمران النفس وصحة الجسد معاً. فعدم الانضباط في الطعام يسبب الأمراض والبلايا. بأسناننا نحفر حفرة الموت. ينقصنا السيطرة والتحكّم على الذات وتغيب عن حياتنا العفة والتقشف، والاهتمامات والنمو الروحي إذ ذاك متوقف تماماً، أمّا دواخلنا فمليئة من رغد العيش فلا فرامل تلجمه ولا حدود تسيطر عليه. ونحن بحديثنا عن العفة في الطعام، لا يعني أن نأكل كثيراً أو قليلاً، أو نكون جائعين باستمرار ونقهر تركيبة الجسم. فالعفة وضبط النفس أن نأكل ما هو ضروري للجسم لا أن نبالغ ونفرط في الطعام فنقع في شراهة لا تنتهي. مع العلم أنّ الطعام البسيط والغذائي هو صحيّ اليوم أكثر من تنوع الأطعمة وكثرتها.

في المسيحيّة، العفّة في الطعام ليست قانون صحيّ بل قانون في الحياة الروحية. فالعفّة في الطعام تفيد النفس. ولهذا نظَّمت الكنيسة فترة الأصوام كتدريب على العفة والتي تجعل قوّة النفس جبّارة تكبح كلّ هجمات للجسد. يقول القدّيس غريغوريوس اللاهوتي “إنّ شرور وعيوب الجسد كافية، ومن الصعب السيطرة عليها. فالشعلة تحتاج إلى حطب أكثر ليبقى مشتعلاً. والوحش الضاري يطلب المزيد والمزيد من الطعام“.

إنّ خيرات الأرض التي أعطانا إياها الله للتمتع بها ضمن حدود المنطق، لا أن تكون غير مضبوطة. وعلينا عدم الالتصاق بالخيرات الأرضية لئلا تصبح بمثابة الجلّاد لنا. يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: “إذا لم يمتنع المرء عن التلذذ وأكل اللحم مساءً، فالخطيئة ستتجذّر“. هوى الشراهة والنهم خطيئة عظمى.

العفّة في شرب الخمر

إنّ الإنسان الممتلئ من حضور الروح القدس إنسان عفيف تجاه شرب الخمور . فهو لا يشرب من دون ضبط، ولا يجعل من بطنه خزاناً للخمر، ولن يصل إلى حالة البؤس التي يعيشها الإنسان السّكير. فهو يعرف كيف يضبط شربه للخمر دون إفراط به.

يقول القدّيس باسيليوس الكبير “الاعتدال في شرب الخمر أمرٌ ممتاز، يتوافق مع حاجة الجسد“. الخمر ليس بالأمر السيء إطلاقاً، فيكفي المرء أن يشربه بقدر معتدل لما يحتاجه الجسم. فمن يعمل أعمالاً يدوية وعضلية متعبة، الخمر يقوّي أجسادهم السابحة في التعب وعرق العمل. أمّا الذين يجتهدون فكرياً فهم يحتاجون إلى الخمر بنسبة أقل من أولئك العضليين. في كلّ الأحوال، كلّ الناس تستطيع أن تشرب الخمر القليل مع طعامهم، فهو غير محرّم من الشريعة الإلهية. إنّ بولس الرسول ينبّه تلميذه تيموثاوس بشرب القليل من الخمر ليساعده في أمراضه الكثيرة “لا تكن في ما بعد شرَّاب ماء بل استعمل خمراً قليلاً من أجل معدتك وأسقامك الكثيرة” (1 تيمو23:5). يقول داود النبي “وخمر تفرّح قلب الإنسان” (مز15:104). ويقول سليمان الحكيم “الخمر يفرّح الأحياء” (الجامعة 19:10).

إنّ الرب يسوع المسيح في عرس قانا الجليل حوّل الماء إلى خمر. فلو كان الخمر ممنوعاً لما صنع يسوع هذه المعجزة.

الخمر لا يمنع بالكليّة وإنما استخدام الإنسان له يجب أن يكون معتدلاً. ينصح الكتاب المقدّس “لا تكن بين شريبي الخمر بين المتلفين أجسادهم” (أم20:24). فمن يشرب الخمر باعتدال يكون إنساناً عفيفاً في الشراب، أمّا من يشرب ويشرب من دون وعي أو حدود يكون غير ضابط لنفسه وهو بالتالي غير عفيف تجاه الشراب، وبالتالي هو يرتكب خطيئة. فالإفراط في استخدام المشروبات الروحية خسارة كبيرة للنفس والجسد تقود الإنسان للإدمان والسكر وهذا خطيئة مميتة.

لا تشرب الخمر إلى درجة السكر. “لا تنظر إلى الخمر” (أم31:23). و “لا تكن بين شريبي الخمر” (أم20:23). غياب العفة في الشراب يجلب للإنسان هلاك حقيقي. من يفرط كثيراً في استعمال المشروبات الروحية يظلم ذهنه ويصبح قادراً في تلك اللحظة على ارتكاب جرائم مختلفة. فهناك جرائم حدثت من جرّاء السكر.

(ص:210 حكمة سليمان)

إنّ كثرة الخمر يقود إلى الفجور وإلى خطايا رهيبة، كما يقود إلى الكبرياء الأحمق، وإلى الوقاحة وقلة الاحترام والتهذيب. (حكمة سيراخ ص210).

يقول الحكيم سليمان: هناك أمران يبعدان عن الله وعن علاقتنا مع الآخرين، الأول هو الخمر، والثاني هو العلاقة غير الشرعية مع النساء “ الخمر والنساء تجعلان العقلاء أهل ردة” (حكمة سيراخ2:19).

إنّ الإفراط والإكثار في استخدام المشروبات الروحيّة من (خمر وبيرة وعرف وويسكي…) هو جريمة تقودنا إلى جرائم أخرى منها قلّة الأدب والفحشاء. ويؤكد القدّيس باسيليوس الكبير بقوله: “السكر يقود إلى الفجور“. يشدّد القدّيس بولس الرسول بأنّ الإفراط في المشروبات الروحية تفسد وتضلّ “لا تسكروا بالخمر الذي فيه الخلاعة” (أف18:5). فالسكر يقود إلى الهذيان واستخدام الكلمات غير اللائقة، وإلى الشتم والتعدّي والصراخ. يقود إلى الشماتة والقتل، فبه يُحَقّر الشخص تماماً ويلغي وجوده بين الآخرين.

يقول سينيكاس: “إنّ السكر تحقير إرادي وطوعي للإنسان“. يتوجّه سليمان الحكيم إلى الإنسان السكّير بقوله: من تناسبه الحسرة؟ أليس ذاك الإنسان المضطرب، المحبّ للنزاع، المداوم في المحاكم والرازح تحت وطئ القضايا!. من يهيّج الكراهة بالإقياء والكلام الأحمق البذيء، ويضيّع وقته في الثرثرة والغباوة؟ من يبقى وجهه شاحباً وعينيه متورمتين من قلة النوم؟ أليسَ ذاك الذي يمضي وقته بجانب الخمر! أليس أولئك الناس الذين يلتقون مجتمعين حول الخمر للشرب واللهو والتسلية! “لمَن الويل لمَن الشقاوة لمَن المخاصمات لمَن الكرب لمَن الجروح بلا سبب لمن ازمهرار العينين. للذين يدمنون الخمر الذين يدخلون في طلب الشراب الممزوج” (أم29:23-30).

يوبّخ النبي إشعيا مسرفي شرب الخمر بقوله: “ويلٌ للمبكرين صباحاً يتبعون المسكر. للمتأخرين في العتمة تلهبهم الخمر” (إش11:5). الويل لأولئك الذين ما أن يستيقظون من نومهم في الصباح يطلبون الشراب المسكر، ويبقون إلى أوقات متأخرة في الليل سكارى الخمر. هذا الخمر الذي يشربونه يحرقهم.

الإسراف في شرب الخمر شرٌّ مدمّر للإنسان بكليته؛ للنفس والجسد، فكثرة الخمور مسيئة لكرامة وجسد الإنسان، فهي تسمّمه وتقوده إلى الموت المبكّر.

يروى أنّه في مقبرة إحدى المقاطعات، ذهب حارس المقبرة لقضاء عمل ما. ويبدو أنّه قد ذهب إلى إحدى الخمّارات بعد أن كان قد أَوصد باب المقبرة ونسي المفتاح في الحانة التي لم تكن بعيدة عن المقبرة كثيراً، ومن شدّة سكره لم يستطع العودة ليسترجع المفاتيح، فكتب ملاحظة على ورقة وعلّقها على باب المقبرة تقول: “مفتاح المقبرة في الحانة“. وفيما بعد اعترف أنّه لم يستطع إيجاد عبارة مناسبة أكثر من تلك التي كتبها.

يقول القدّيس باسيليوس الكبير أنّ السكر يطرد الروح القدس كما يطرد الدخان النحل. فمن يسرف في المشروبات الروحيّة لا يستطيع أن يكون يوماً إنساناً يسكنه الروح القدس.

العفة في الرغبات الشريرة

نتيجة الخطيئة الجدّية لأول الجبلة ورثنا الميل للهوى والخطيئة. يميل الإنسان دوماً إلى الشرّ، فالشرّ يعجبه ويجذبه. “لأنّ تصوّر قلب الإنسان شرير منذ حداثته” (تك21:8). الجسد يتمرّد والرغبات الشريرة داخلنا تثور. إنّ هدف الغريزة الجنسيّة فينا إنشاء نسلٍ من خلال سرّ الزواج. وهذه الغريزة تتولد فينا مبكراً وتخلق مشاكل كثيرة تجعلنا نخالف قوانين الأدب والأخلاق.وإن نحن توّجهنا وراء ميولنا وأهوائنا سننجرف ووندمّر حياتنا، ونصبح كما الحيوانات غير العاقلة التي ترزح تحت غريزتها فقط من دون لجام. “الإنسان في كرامة لا يبيت. يشبه البهائم التي تباد” (مز12:49).

من يستسلم لشهواته وميوله الشريرة من دون ضبط للنفس، فهو يقلّل من قيمته وكرامته ويشوّه صورة الله فيه ويلغيها ويحقّر مشيئته، ويدنّس نفسه ليشبه الخنزير الذي ينجذب إلى خرنوبه. علينا أن نلتزم العفة وضبط النفس ولا ننجرّ وراء رغباتنا الشريرة. “لا تكن تابعاً لشهواتك، بل عاصٍ أهواءك” (سيراخ30:18). إنّ العفة هي الفضيلة البطولية التي تضع لجاماً لرغباتنا الشريرة وثورات ووثبات جسدنا غير المنضبطة، وتعطّل الفسّق والفجور وتجعل الإنسان عاقلاً مهذباً، نقيّاً وهادئاً وطاهراً ، مرضياً أمام الله.

إنّ العفة بالنسبة لأولئك الناس المتجدّدين بالروح هي فضيلة محببّة لديهم، فهي تمنحهم حياة لائقة كريمة، طاهرة وسعيدة. أمّا بالنسبة لأولئك الناس الجسدانيين، فالعفّة تدخلهم في الخوف، لذا يحاربونها ويكرهونها جداً. وهم يمقتونها ويشتكون منها بحجّة أنّها فضيلة مستحيلة التطبيق؛ وهم بذلك أناس ضالين.

العفّة ليست فضيلة مستحيلة التطبيق، وإلاّ لم يكن ليطلب الله منّا أن نكون مسؤولين عن علاقاتنا الأخلاقية، لم يكن ليهدّد في يوم الدينونة أنّه سيعاقب أولئك الذين يتركون ذواتهم تحت رزح الرغبات الشريرة وينجرفون وراء متطلبات أجسادهم. إنّ الله ليس ظالماً ليطلب منّا أن نحافظ على أمر فوق طاقتنا، والأهم هو أنّ الله نفسه يساعد ويقوّي ذاك الذي يريد أن يبقى نقياً طاهراً، فيعطيه نعمته ليجعله دائماً قوياً، أمّا في عيون الآخرين من ليس لديهم نعمة الله يرونه ضعيفاً.

إنّ نعمة الله تقوّي إرادة الإنسان المؤمن وتجعله قادراً على السيطرة على جسده “أستطيع كلّ شيء في المسيح الذي يقوّيني” (في13:4). من يشعر بقدرة الله معه سيظفر بالعفّة ويعيش حياة نقاء روحيّة وبارّة.

من لا يعيش في علاقة حميمية مع الله ولا يطلب إلاّ الشهوّة واللذة في الحياة، يجرف نفسه من خلال رغباته غير المنضبطة ليكون عبدأ للذات الدنيا، ولهذا تغيب عنه فضيلتا العفة والسيطرة على الذات بالكليّة. ويحكم على الآخرين معتقداً أنّهم أيضاً يعيشون في عدم انضباط مثله. مثل هذا يثير الشفقة لأنّ جسدانيته لا تدعه يرى الأمور بوضوحها، ولا يستطيع مشاهدة السعادة الحقيقية عند الذين يعيشون حياة الروح القدس، ولا يدرك أهمية وعظمة ضبط النفس إلى جانب العفة التي تؤدّي إلى حياة سامية.

 نقلتها إلى العربية ماريا قبارة
http://www.orthodoxlegacy.org/

 

 

 

 

 

 

 

العفة، من ثمار الروح