...

تذكّر الموت

 

 

تذكّر الموت

•    مواجهةٌ صريحة مع الموت1[1]

أَطلب إلى كلّ من يقرأ هذه السطور أن يتأمّل معي، بأكثر تدقيقٍ، في موضوع الموت. وأنا أطلب هذا لأنّكم، بهذا التأمّل، تقومون بعملٍ أصبح نادرًا، مع العلم من أنّه عملٌ حكيم وتقليديّ، في هذه الأيام المعاصرة والتي أضحت أكثر دنيويّةً. إنّ تعاظم تيّار “الدهريّة” (secularism) في هذه الأُمّة، وفي الغرب عمومًا، كان له تداعيات هائلة على وسائل الموت والدفن المسيحيّة، المعروفة في التاريخ، وعلى وسائل الخِطاب العامّة والخاصّة المتعلّقة بهذه الأُمور.

لقد اعتاد الأميريكيون، في ما مضى، على تقبّل حقيقة الموت وعملية الدفن، بأكثر أريحيّة ممّا يحصل في هذه الأيام. كان الموت، بالنسبة إلى مجمل التاريخ الأميريكيّ، أمرًا يواجه كلّ عائلةٍ داخل البيت. وعملية الدفن كانت أمرًا تضطلع العائلة به وتُتمّمه. أمّا اليوم فقد أصبح الموت مُغيَّبًا عن وجه المجتمع، في المشافي. وعملية الدفن قد أُنزلت رتبتها لتصير في عداد مهنة “الجنازة ومستودع حفظ الجثث”. يعتقد معظم الآباء والأُمّهات، عن سخافةٍ، أنّه ينبغي على أولادهم ألاّ يتفرّسوا في إنسانٍ ميت. وبنفس الوقت يُعرَض، وعلى الدوام، أمام الأولاد ما يُسمى بـ“الموت الرقميّ” والموت الناجم عن نزوة القتل، من خلال وسائل الإعلام المتنوّعة، مفضِّلين بذلك الابتعاد عن الحقيقة. لقد أضحينا أُمّةً ترتاح لمُشاهدة الموت، ولا ترتاح، بشكلٍ مؤسفٍ، للموت الحقيقيّ عندما يأتي بشكلٍ محتوم إلى حياتنا.

بإزاء هذا الابتعاد المتطرّف، في موقف أميريكيي يومنا هذا، تجاه حقيقة الموت، قد نمى عندهم يأسٌ عميق مسبِّبًا خوفًا من الموت، بالإضافة إلى باقةٍ كاملة من البِدَع المتعلّقة بالموت، كبدعة حرق جثّة المائت، وبدعة نثر رماد الجثّة بعد الحرق _وما يُسمى بـ “Celebration Services”_ ، بالإضافة إلى ازدهار مهنة “الجنازة ومستودع حفظ الجثث”. لقد تعاظم الخوف من الموت لأنّ التيّار “الدهريّ” لا يمتلك جوابًا عن الموت. وفي الواقع، تُفضِّل نخبة أتباع هذا التيّار التزام الصمت عند مقاربة موضوع الموت. وما هذا الصمت إلاّ حقيقة بشعة، طالما أنّه يزكّي الفكر المتوهّم القائل بأنّنا لن نموت أبدًا، وكأنّ الموت ليس حقيقةً محورية ولا مفرّ منه في وجودنا البشريّ. إنّ هذا الصمت الـمُمنهَج حيال الموت يؤذينا نحن أيضًا، لأنّنا لا نفتكر ولا نتأمّل ولا نستعدّ للموت. فُيداهم الموت كثيرين من هؤلاء المتوهّمين قابضًا عليهم. إنّه لصمتٌ جدير باللوم، لأنّه يُزكّي الجهل بأمرٍ سيواجه الجميع.

عندما يتكلّم الدهريّون، فهُم غالبًا ما يبسطون تعليمهم، أنّنا، نحن البشر، لسنا إلاّ حيوانات، وأنّ الموت ما هو إلاّ الوقوع في اللاوجود. يُهمل هذا الإصرار السخيف الحقيقةَ القائلة أنّ الكائنات البشريّة، التي تمتلك فرادةً عن كلّ الحيوانات، قد تفلسفت على الموت واستذكرته، على عكس أيّ حيوانٍ آخر. لا يوجد دينٌ في تاريخ البشريّة لم يُفرد للموت أهميةً كبرى. لن تشعر بالارتياح والتعزية إذا قال لكَ إنسانٌ مُلحد أو دهريّ أنّ الإنسان يُباد ويُمحَق عند الموت، وأنّه لن يوجد ثانيةً. عندها يصبح الموت النهاية الأخيرة لكلّ طموح الحياة، وشرًّا خطيرًا يُهدّد على الدوام لإفراغ حياة الإنسان من كلّ معنى ووجود، ومُغتصبًا يأتي ليُعرّي كلّ علاقات الإنسان من كلّ معنى واستمرارية.

لا عَجَبَ أنّ الذين يُنكرون الدِين غير قادرين على مجابهة الموت بأيّ طريقةٍ تحمل معنى. تاريخيًّا، كثيرًا ما تميل ثقافة “رفض الموت” هذه، في أميركا، لتنحرف بقدراتها نحو مساعٍ باطلة، في إطالة الحياة البيولوجيّة للإنسان، بدلاً من مجابهة الموت والتفلسف عليه. ومع ذلك، لا يقدر أحدٌ أن يتوارى من أمام الموت. إنّه، بتعبير القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفمّ: “القاضي الّذي لا يُحابي”. لا يقدر الإنسان أن يفتدي الموت مهما كان ذكيًّا أو غنيًّا. إنّ الحياة وقتيةٌ، وعابرة، وسريعة.

    •    أصل الموت

الموت ليس طبيعيًّا؛ الله لم يخلقه، بل هو ثمرة الخطيئة. يقول القدّيس بولس: “دخلَت الخطيئةُ إلى العالم بإنسانٍ واحد، وبالخطيئة دخل الموت. وهكذا، اجتاز الموت إلى جميع البشر لأنّهم كلّهم خَطِئوا” (رومية 5: 12). خلق الله آدم وحوّاء أحرارًا من الموت، واضعًا إياهم على الحدّ الفاصل بين الموت والخلود. كانت نيّة الله ووصيّته لآدم وحوّاء أن يستخدما حرّيتهما في اختيار الخير، فيحصلان على الخلود كمكافأةٍ لهذا الاختيار. حذّر الله آدم من أنّه إذا اختار الشرّ، أي أن يأكل من شجرة معرفة الخير والشرّ، فيوم يأكل منها موتًا يموت (تك 2: 17). دخل الموت، إلى الوجود البشريّ، بشكلٍ عنيف من باب إغراء وأكاذيب الشيطان الّذي أصرّ على المرأة قائلاً: “بالتأكيد لن تموتا!” (تك 3: 4). لأنّ الشيطان، كما يقول مخلّصُنا، هو كذّابٌ وقاتلٌ منذ البدء (يو 8: 44).

 عندما أخطأ آدم وحوّاء ارتكبا خيانًة كونية، وقادا أوّل تمرّدٍ عَلَنيّ على الله على الأرض. ونتيجةً لذلك، ماتت نفساهما، وتضرّرا بسبب تغرّبهما المباشر عن الربّ الاله، الّذي كان مصدر حياتهما. ما إن بدآ حوارهما مع الشيطان، حتّى اختبر آدم وحواء تغييرًا داخليًا جذريًا. لقد تخلّيا عن حبّهما لله، فتقسّى قلباهما وفترا. ثارت الأهواء بشكلٍ مضطرب. ابتدآ يفسدان من الداخل وصولاً إلى الخارج، وابتدأت نفساهما بالتفكّك والانحطاط، ومن ثمّ جسداهما، ممّا سيقود، بالتأكيد، إلى الموت البيولوجيّ. عندما نتكلّم على الموت، نقصد، عادةً، الكلامَ على انفصال النفس عن الجسد. على كلّ حالٍ، إنّه موتٌ جسديّ أو بيولوجيّ وهو يتبع موت النفس، الّذي هو انفصال نفس الإنسان عن علّة وجودها، أيّ عن الله. وهذا ما يُسمّى بالموت الروحيّ، وهو يسبق الموتَ الجسديّ، تمامًا كما تسبق القيامةُ الروحية القيامةَ الجسدية. يقول القدّيس إيسيذورس الفرميّ: “لم يكن موت آدم بانفصال النفس عن الجسد، بل بفرار الروح القدس هاربًا من النفس الخالدة”. هذا هو الموت الروحيّ. تكلّم ربّنا يسوع على هذا النوع من الموت عندما نصَحَ أولئك الراغبين باتِّباعه أن “يتركوا الموتى يدفنون موتاهم” (متى 8: 22). إنّه كما في مثل الابن الضّال، الّذي قال له أبوه: “إنّ ابني هذا كان ميتًا فعاش” (لو 15: 24). وهذه “الحياة المائتة” هي كلّ ما أمكن الوالدِينَ أن يورثوه لأولادهم منذ وقت السقوط، وهي، بعيدًا عن نعمة الله الواهبة الحياة، ستقود إلى الحقيقة الحتميّة، الّتي هي الموت الأبديّ.

كان هابيل، ابن آدم وحوّاء، أوّل إنسانٍ مات في الجسد. قُتِل على يد شقيقه قايين، وكان أوّل من ينزل إلى الجحيم ويؤسر فيها. منذ ذلك الوقت، الموت والجحيم يتسلّطان عبر التاريخ البشريّ، في كلّ مكانٍ وزمان، ضامّين إليهما أسراهما. يُصوّر القدّيس يوحنّا، في سفر الرؤيا، الموتَ كفارسٍ يمتطي حصانًا أسودًا، وهو لون الموت، والهاوية ومثوى الأموات يتبعانه (رؤ 6: 7-8). كان آدم أوّل أبٍ يشهد لموت ابنه، والله سَمَح بذلك حتّى يُدرك آدم كم هي فادحةٌ الخطيئة والموت ولا يُطاقان. 

عرف الإنسان الموت، على مرّ التاريخ، كغربةٍ تعيسة، كلِقاء الإنسان بأجداده في مكانٍ جوفيّ تحت الأرض (أُنظر أم 2: 18، 5: 15، يون 2: 6، أيو 7: 21)، كعالمٍ مُبهم منسيّ، كبيتٍ أو مدينةٍ محاطة بأسوارٍ وأبواب (أُنظر أيو 30: 23، 38: 17، أم 7: 27، حك 16: 13، متّى 16: 18)، كفضاءٍ أو مكانٍ فارغ مُغبَرّ، كصمتٍ عميق وظلمةٍ قاتمة (أُنظر سير 22: 11، أيو 11: 21، مز 22: 4). وقد صُوِّر مقرّ سكنى الأموات كالفم المفتوح والحنجرة الشَرِهة، إنّه مقرّ الأموات في بطن الأرض.

العالم الحاضر هو عالمٌ فانٍ، هو مكانٌ لموتٍ يستفحل. يَصِفُ القدّيس غريغوريوس بالاماس في الفيلوكاليا هذه الحياة أنّها: “موتٌ متواصل، ميتاتٌ لا تُحصى تتبع الواحدة الأُخرى إلى أن نَصِل إلى الموت الواحد الأخير والذي سيدوم لفترةٍ طويلة جدًّا، ولسنواتٍ عديدة”. عندما يعبر الإنسان الجِسرَ إلى الحياة الآخِرة، الجسرُ يُحرق، والباقون تضجّ رؤوسهم بالأسئلة الكثيرة.

    •    الموت كعقابٍ وكبركةٍ

كان بمقدور الله أن يُلقي آدم وحوّاء في الجحيم مباشرةً لدى ارتكابهم خطيئتهم الأولى، لكنّه لم يفعل، لأنّها لم تكن مشيئته. لقد أَحبّ الله أولاده الساقطين، وسَعى وراء منفعتهم. لَعَن الله الحيّة، لكنّه منح آدم وحوّاء تأديبًا تقويميًّا فقط. فأخذ الله عقوبة الموت وحوّلها إلى بَرَكةٍ لهم. فظهر هذا العمل وكأنّ الله الكليّ القدرة قبض على الموت والجحيم والشيطان من أعناقهم وجعلهم ينحنون إلى أسفل ويخدمون أهدافه. سمح لهم، في البداية، أن يعيشوا. بعد ذلك، أقامهم خارج الفردوس لكي يتذكّروا من أيّ مكانٍ قد سقطوا، ولكي يعملوا للعودة إلى حالةٍ أفضل، وليتذكّروا دائمًا أنّ تلك الحياة الساقطة لم تكن طبيعيّةً أو حياةً بشريّة حقيقيّة. لقد حوّل اللهُ الموتَ إلى استهلاكٍ للفنائيّة وفناءٍ للفساد (أُنظر عظة الذهبيّ الفمّ في تفسير المزمور 85). لقد جعله نهايةً للخطيئة، حدًّا حتّى لا نُخطئ إلى الأبد. جعله تدبيرًا حتّى لا يبقى الإنسان في حالة الخطيئة إلى الأبد. كَتب القدّيس غريغوريوس النيصصي في تأبين الملكة بُلخَريّا: “حتّى لا يدوم الشرّ الموروث فينا سرمديًّا، يتفكك الجسد مؤقّتًا من خلال حَتْمِيّةِ الموت، وهكذا، إذ يُقصى الشرّ بعيدًا، يُعاد تكوين الطبيعة البشريّة لتكون، مرّةً أُخرى، منفصلةً عن الشرّ، وتُستعاد إلى حالة حياتها الأصليّة”. يقول القدّيس غريغوريوس، في مكانٍ آخر: إنّ الموت هو “التطهير من الشرّ”. أصبح الموت رقادًا وملاذًا هادئًا (أُنظر العظة 31 للذهبيّ الفمّ في تفسير إنجيل متّى). هنا تكمن الحقيقة: الخطيئة تلد الموتَ، والموتُ يُميت الخطيئة! وكنتيجةٍ: الموت، بعد الفحص والتمحيص، يصبح منفعةً. وأيضًا، يعمل الموت معنا عمل البَرَكة، لأنّه يضعنا على طريق التواضع الخلاصيّ ومعرفة الذات.

     • الانتصار على الموت بيسوع المسيح

ثمّة منتصرٌ واحدٌ فقط على الموت، ألا وهو يسوع المسيح. إنّ التدبير الإنجيليّ كلّه، منذ بداية تجسّد ابن الله، مرورًا بطاعته التي قدّمها، وآلامه، وصَلبِه، وانحداره إلى الجحيم، وقيامته في اليوم الثالث، وصعوده المجيد إلى السماء، وإرساله الروح القدس، وجلوسه عن يمين الله الآب، له هدف إفناء الخطيئة، والشرّ، والموت، والجحيم. لقد صار مُخلّصُنا بشرًا ليَشْفِيَ الطبيعة البشريّة بتوحيدها بأُلوهيّته. أيضًا، اتّخذَ جسدًا كي يستطيع أن يموت بالجسد طوعًا، ويتّخذ لعنتنا وبؤسنا، ويرفع عنّا ضعفاتنا، ويشفي أمراضنا بجراحه. أتمّ، من خلال طاعته وعمله الروحيّ، دعوة بني البشر تعويضًا عن عصيان آدم، كما انتصر على الشيطان والتجربة. وبآلامه وصلبه برّر تمرُّد الجنس البشريّ. وبنزوله إلى الجحيم أَفرَغَه من أسراه، وحطّم أقفال السجن الحديديّة، وأضاء بنوره أسفل دَرَكات الأرض. وجديرٌ بنا أن نُذكِّر في هذه المناسبة، أنّ نُزول مخلّصنا إلى الجحيم، وإفراغ أسراه منه، هو لبّ بشارة الإنجيل. إنّها عقيدةٌ أُرثوذكسيّة أساسيّة، إذ يرِدُ ذِكرُها أكثر من مئتي مرّةٍ في خدمة العنصرة، وأكثر من خمسين مرّةٍ في خدمة يوم الجمعة العظيم وحدها. لقد حطّم المسيح بقيامته الظافرة سلطة الموت، واستعاد الطبيعة البشريّة إلى مجدها وكمالها الأصليّان، رافعًا إياها إلى واقعها السماويّ. وبصعوده المجيد، شقّ طريقًا جديدًا نحو السماء، طاردًا أمير قوات الهواء وأتباعه، آتيًا بالبشريّة إلى الفردوس كباكورةٍ للمُفتدين كلّهم. هناك، في السماء، يدعو الربّ يسوع البشريّة جمعاء لتأتي وتُقيم وتملُك معه. لقد انتهى أسرُنا ونَفْيُنا. وبإرساله الروح القدس الـمُنبثق من الآب، شدّد الكنيسة؛ وبجسده القدّوس، الذي لم يرَ فسادًا، الغالب الموت، مكَّنَها مِن أن تحمل خلاصه إلى أقاصي الأرض. وبجلوسه عن يمين الله الآب، يضع سلطةَ الموت والشيطانَ تحت موطئ قدميه، وعندما سيأتي ثانيةً، سيُلقي بأعدائنا في أعماق الجحيم إلى الأبد.

لهذا، يُنهي سفر رؤيا القدّيس يوحنّا قصّتة الـمُلهَمة لأعمال الله الخلاصيّة بمشهدٍ عظيم لبحيرة النار: “وإبليس الذي كان يُضلُّهم طُرحَ في بحيرة النار والكبريت حيث الوحش والنبيّ الكذّاب، وسيُعذَبون نهارًا وليلاً إلى أبد الآبدين” (أُنظر رؤ20: 10-14). كان الموت مُخيفًا، قبل مجيء المسيح، حتّى بالنسبة إلى الأنبياء موسى وإيليّا وحزقيال.

     •  عيد الفصح المقدّس، والخطبة الفصحية للقدّيس يوحنّا الذهبيّ الفمّ

يأخذ موقف المسيحييّن شكله إزاء الموت، بطريقةٍ تليق به، من خلال الاحتفال بعيد الفصح العظيم المقدّس عيد الأعياد. في ليلةٍ واحدة في السنة، وفي منتصف الليل، تُعبّر الكنيسة المسيحيّة عن نفسها بكلّ وضوحٍ، وتؤكّد بثباتٍ موقفَها الجوهريّ إزاء الحياة والموت من خلال خدمة عيد الفصح المقدّس، عيد قيامة ربّنا يسوع المسيح من بين الأموات. هذا العيد هو جوهر العبادة المسيحية كلّها، ولا يُحتفل به مرّةً واحدة في السنة، بل يُحتفل به كلّ يوم أحدٍ، حيث يجتمع المؤمنون في القدّاس الإلهيّ ويحتفلون أُسبوعيًّا بقيامة مخلّصنا.

إنّ التفسير الآبائيّ الأكثر فصاحةً وشهرةً، حول إفساد عمل الموت، هو العظة الفصحيّة لأبينا الجليل في القدّيسين يوحنّا الذهبيّ الفمّ، والتي تُقرأ عشيّة عيد الفصح في كلّ الكنائس الأُرثوذكسيّة. فلننظر الآن إلى ما تقوله هذه العظة، ولنفهم ما حدث للموت: “من كان حَسَنَ العبادة ومحبًّا لله فليتمتّع بحُسن هذا المحفِل البهج. من كان عبدًا شكورًا فليدخُل فرحَ ربّه مسرورًا. من تعب صائمًا فليأخذ الآن الدينار. من عَمِلَ من الساعة الأولى، فليقبَل حقّه العادل. من قَدِمَ بعد الساعة الثالثة فليُعيّد شاكرًا. من وافى بعد السادسة فلا يَشُكَّ مرتابًا، فإنّه لا يخسر شيئًا. من تخلّفَ إلى الساعة التاسعة ليتقدّمْ غير مرتاب. من وصلَ الساعة الحاديةَ عشرةَ فلا يخشَينَّ الإبطاء، لأنّ السيد كريمٌ جوَّاد فهو يَقبلُ الأخيرَ كما يقبلُ الأوّل، يُريحُ العاملَ من الساعةِ الحادية عشرة كما يُريحُ مَن عَمِلَ من الساعة الأولى، يرحمُ من جاء أخيرًا ويُرضي من جاء أوّلاً، يعطي هذا ويهَبُ ذاك، يَقبلُ الأعمال ويُسَرُّ بالنيّة. يُكرِّم الفعل ويمدح العزمَ. فادخلوا كلّكم إذًا إلى فرح ربّكم. أيّها الأوّلون، ويا أيّها الآخِرون، خذوا أُجرتكم. أيّها الأغنياء، ويا أيّها الفقراء، افرحوا معًا! سلكتم بإمساكٍ أو توانيتم، أكرموا هذا النهار! صُمتم أو لم تصوموا، افرحوا اليوم! المائدة مملوءةٌ فتنعّموا كلّكم! العِجلُ سمينٌ، فلا ينصرفْ أحدٌ جائعًا! تناولوا كلّكم مشروب الإيمان. تنعّموا كلّكم بغنى الصلاح. لا يتحسّر أحدٌ شاكيًا الفقرَ لأنّ الملكوت العامّ قد ظهر، ولا يندُب مُعدِّدًا آثامًا لأنّ الفصح قد بزغ من القبر مشرقًا. لا يخشَ أحدٌ الموتَ لأنّ موت المخلّص قد حرّرَنا. فإنّه قد أخمَد الموتَ حين قبض الموتُ عليه. وسبى الجحيم لـمّا انحدر إليها، فتمرمرتْ حينما ذاقت جسده. هذا ما سَبق إشعياء النبيّ ونادى به قائلاً: إنّ الجحيم تمرمرت[2] لـمّا التقتك أسفل. تمرمرتْ، لأنّها قد أُبطلت. تمرمرتْ، لأنّها قد أُميتَتْ. تمرمرتْ، لأنّها قد أُبيدتْ. تمرمرتْ، لأنّها قد قُيّدتْ. تناولتْ جسدًا فصادفتْ إلهًا. تناولتْ أرضًا فصادفتْ سماءً. تناولتْ ما كانت قد نَظَرَتْ، فسقطَتْ من حيث لم تنظُر. فأين شوكتكَ يا موت؟ وأين ظَفَرُكِ يا جحيم؟ قام المسيح، وأنتِ غُلبتِ. قام المسيحُ، والشياطينُ تساقطت. قام المسيحُ، والملائكة جَذِلت. قام المسيح، والحياة انتَظَمت. قام المسيح، ولم يبقَ في القبر ميتٌ. لأنّ المسيح بقيامته من بين الأموات، قد صار باكورة الراقدين. فله المجد والقدرة إلى دهر الداهرين. آمين”.

المسيح وحده مَن صارعَ الموت وانتصر عليه. المسيح وحده يستطيع أن يقول: “أنا القيامة والحياة” (يو11: 25)، وأيضًا: “أنا الطريق والحقّ والحياة، ليس أحدٌ يأتي إلى الآب إلاّ بي” (يو 14: 6)، وأيضًا: “أنا أمضي إلى السماء لأُعِدَّ لكم مكانًا” (يو 14: 2). وحده نور المسيح الذي لا يغرُب يستطيع أن يُنير الموت والقبر والحياة الآتية. بالمسيح قُضِيَ على الموت الجسديّ والروحيّ.

    •    الموقف المسيحيّ من الموت

أذكُر حديثًا جرى مع الأُمّ فيكتوريا عندما كنت موعوظًا. سألتُها عن ماذا يحدث للقدّيسين عندما يموتون! فأجابتني، مُظهرةً ردّة فعلٍ لا تقبل المـُهادَنة: “القدّيسون لا يموتون!”. يا لها من حقيقة! فبالنسبة إلى الناس المؤمنين، الموت قد هُزم وتحوّل إلى رقاد.

لقد غيّرتْ أعمالُ الله الخلاصيّة، بالنسبة إلينا، كلّ شيءٍ يمتّ بِصلةٍ إلى الموت. إنّ سمّ الموت ما يزال يجري في طبيعتنا البشريّة، ولهذا نموت موتًا جسديًّا. لكن، لا للخوف واليأس من الموت بعد الآن.

 إنّ انتصار المسيح على الموت هو انتصارنا أيضًا، ويظهر هذا من خلال قيامة العديد من أجساد الأموات أثناء صلب المسيح وقيامته. قيامة الأموات هذه، كما يقول القدّيس إبيفانيوس القبرصيّ، التي حصلت في مقبرة أورشليم (متّى 27: 52-53)، قد أظهرت أنّ المسيح قد قام كباكورة الراقدين، وأنّ قيامته هي الضمانة لقيامة كلّ تلاميذه.

إنّ لنا نحن المسيحييّن، في هذه الحياة، حزنًا وابتهاجًا، ولنا أيضًا انتحابٌ مع أسى وفرح. نحن نحزن على أنفسنا، نحزن لدى تذكّر خطايانا، ونحزن لأجل المائتين بعيدًا عن الربّ. ننتحب، من دون مُغالاةٍ، مثل المسيح الذي دمَّع على لعازر الميت. وبالأحرى، لنا أيضًا فرحٌ، لأنّنا نمضي إلى الحياة الآتية. نرغب في أن ننطلق لنكون مع المسيح (في 1: 23). عندما ينحلّ هذا الجسد الترابيّ، نعلم أنّ لنا في السماوات بيتًا غير مصنوعٍ بيدٍ (2 كو 5: 1).

الموت هو بابٌ للخلاص، خطوةٌ وتقدُّمٌ في الخلاص. يَصِف الذهبيُّ الفمّ الموتَ كخزَّافٍ يعمل الطين على عَجَلته. عندما يحصل خطأٌ ما ويصبح الطين مشوَّه الشكل (كما حصل للطبيعة البشريّة عند السقوط) يُعيد جمع كتلة الطين وعجنها من جديد ووضعها على العَجَلة بهدف تصنيعها مرّةً ثانية. عملية جمع الطين هذه وإعادة عجنه تشبه الموت. الموت انحلالٌ للجسد من أجل إعادة تصنيعه في القيامة الأخيرة. الموت ليس دمارًا. إنّنا مثل بذورٍ تُزرع في الأرض، تُزرع لكي تُزهر من جديد.

يُطلَق على الموت، في الكتاب المقدّس، تعبيرٌ يشير إلى الرحيل أو الانحلال، (في اليونانيّة (analysis (في 1: 23، 2تيم4: 6). أيضًا، يُعرَف بالنوم، كما قال ربّنا عن لعازر الميت أنّه نائمٌ (يو 11: 11). ونحن نَصِف رحيل إخوتنا المؤمنين بأنّهم “ماتوا في الرّب”. إنّهم في رقادٍ وراحةٍ، لأنّهم قد بلغوا رقادهم (koimisis) أو انتقالهم (metastasis). لقد عبّر القدّيس إغناطيوس الأنطاكيّ، بأفصح ما يمكن، عن الفكر المسيحيّ حيال الموت بهذه الكلمات: “فليُحرقوني بالنار، وليُعلّقوني على الصليب، ولتلتهمني الوحوش وليُعمِلوا فيّ تمزيقًا وليُقطّعوني قطعًا وليُشتّتوا عظامي ويبتروا أعضائي وليطحنوا جسدي، ولتزحف قطعان الشياطين الشرّيرة لتنهال عليَّ؛ لا شيء من هذا يُخيفني. لأنّني أشتهي وأُريد شيئًا واحدًا فقط هو أن أكون حقًّا للمسيح”. وأيضًا، عبّر القدّيس يوحنّا (مكسيموفيتش)[3] عن هذا الفكر قُبَيل رقاده: “قولوا للناس: على الرغم من أنّني مائتٌ، إلاّ أنّني ما زلت على قيد الحياة”. الشيطان وحده مات حقًّا. 

     •   ممارسة ذِكر الموت

تقول حكمةُ سيراخ: “تذكَّر الموتَ، في كلّ ما تفعله، فلن تخطئ أبدًا” (7: 36). 

يُعلّمنا الربّ يسوع قائلاً: “اسهروا إذًا وصَلُّوا لأنّكم لا تعلمون في أية ساعةٍ يأتي ربّكم” (متّى 24: 42 و26: 41). إنّها لنعمةٌ لنا ألاّ نَعلَم ساعة موتنا، لأنّ عدم معرفتنا بها يساعدنا على ردع الخطيئة، ويُشجّعنا على اليقظة. ألا تذكرون ماذا نرتّل في اليوم الأوّل من الأُسبوع العظيم؟ هوذا الختَنُ يأتي في نصف الليل! كانت خطيئة آدم أنّه لم يُحافظ في نفسه على تذكُّرٍ حيٍّ للموت، الّذي يُهدّده، عندما خالف الوصيّة. لهذا السبب نحن نتدرّب، كلّ يومٍ، على تذكُّر الموت. يقول القدّيس أثناسيوس: “تذكّر خروجك كلّ ساعةٍ؛ ضَع الموت دومًا نُصب عينيك كلّ يومٍ، تذكّر أمام من يجب أن تقف”.

يقول القدّيس يوحنّا السلّميّ: “ليرقد معكَ ذِكرُ الموت والنار كلّ مساءٍ ولينهض معك كلّ صباح”. في كتاب السُلّم إلى الله، يأتي ذِكر الموت في الدرجة السادسة –بعد فصلَين أساسيّين، يدوران حول مبدئَين روحيّين، هما في الطاعة وفي التوبة– فيُضيف السُلّميُّ فصلاً يدعى “في ذِكر الموت”. يخبرنا القدّيس يوحنّا قصّة الراهب هيزيخيوس الخوزيبيّ[4] أنّه كان راهبًا كسولاً ومُتهاونًا إلى أن اقترب من خبرة الموت. لقد تحوّل حالما رأى الموت. فعاش اثنتي عشرة سنةً بغيرةٍ مغبوطة، ولمـّا دنا أَجَلُه سألوه عن سبب تحوُّله، فأجاب: “اغفروا لي! إنّ كلّ من اقتنى ذِكرَ الموت لا يُمكن أن يُخطئ في ما بعد”.

النوم هو صورةٌ للموت. تذكّر ذلك عندما تذهب لتنام! يقول القدّيس إسحق السريانيّ: “عندما تدنو من فراشك قل له: يا فراش، لعلّك تكون لي هذه الليلة لحدًا”. ينبغي علينا أن نعبُر اليوم الحاضر كأنّه آخر يوم في حياتنا. هذا يوّلد تعفُّفًا، ورؤيةً صحيحة عن الحياة، ويساعدنا لنقتني تقييمًا حقيقيًّا. هذا ما تُعلّمنا إياه خدمة الجنازة: “ما هو الغنى، ما هو الجمال، وما هي القوّة…؟”. إنّ تذكُّر الموت هو دواءٌ ناجع لكبح جماح الأهواء والخطيئة. إنّه أساسٌ للتواضع، ومفتاح جهاد الشهادة، التي هي التعبير الأمثل عن المحبّة.

ماذا كان سيحصل لو لم يكن هناك موت؟ كم ستزداد الخطيئة وتثور علينا! وإلى أيّ أَجَلٍ ستؤجَّل التوبة! إنَّ تذكُّرنا الموت لعملٌ إيجابيٌّ، ومُثمرٌ، وديناميكيٌّ، ولا يولّد اليأس بل يولّد فرحًا جالبًا التوبة. ولنا أن نُشجّع بعضُنا البعض من خلال التذكير بالموت.

كان القدّيس ثاوذورُس الستوديتيّ، في ديره، يُعيّن راهبًا ليجول، في كلّ الصوم الكبير، على الرهبان الآخرين عند الساعة الثالثة، مذكِّرًا إياهم وقائلاً: “أيّها الإخوة والآباء، علينا أنّ نتيقّظ لأنّنا مائتون، مائتون، مائتون؛ ولنتذكّر، أيضًا، الملكوت السماويّ”.

ترجمة: رولا الحاج


[1] المحاضرة الأولى من سلسلة محاضرات أُعطيت في مدرسة القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفمّ للتعليم المسيحيّ في كنيسة القدّيس أندراوس الأُرثوذكسيّة في Riverside، كاليفورنيا.

[2]   إش 14: 9.

[3]  رئيس أساقفة شنْغْهاي وسان فرانسيسكو + 1966.

[4]  تعيّد له الكنيسة في 3 تشرين الأوّل.

تذكّر الموت