...

أمومة ضائعة وعالم شَرود!.

أمومة ضائعة وعالم شَرود!.

أمومة ضائعة وعالم شَرود!.

 

كائن واحد أُعطي، بالطّبيعة البشريّة، أن يكون، بالله، حاضنًا للحياة وباثًّا للمحبّة، بامتياز، لا حصرًا، على الأرض، ولا بديل عنه، في موقعه الطّبيعيّ: الأمّ!. المجتمع الّذي يربّي الفتاة على الصّيرورة أمًّا صالحة، تلد وتبذل، ينمو ويزدهر، والمجتمع الّذي ينشئ الفتاة على استهلاك نفسها واستهلاك الرّجل لها يَضمر ويتفكّك!.
الحياة والمحبّة، إذًا، يأتيان، بالأحرى، طبيعيًّا، بالأمّ. هذا، مسيحيًّا، معناه أنّه كما بمريم، والدة الإله، أتى يسوع، الحياةُ والمحبّةُ، كذلك بالأمّهات، كمريمات، يحلّ يسوع، بالرّوح، في العباد!. وراء أكثر القدّيسين أمّهات قدّيسات!. بذا يقيم القوم في الحقّ، وتكون لهم الحياة وتكون لهم أوفر، يتروّضون ويصيرون محبّة، بها يشهدون، باللّحم والرّوح، بانعطافهم، الواحد على الآخر، أن بالكلمة الإله كان كلّ شيء، وأنّ فيه كانت الحياة، بالمحبّة، والحياة كانت نور النّاس الحقّ، والنّور يضيء في الظّلمة، والظّلمة لم تدركه!.
اضرِبِ الرّاعي فتتبدّد الرّعيّة. اضرِبِ صورة الأمّ فتتبدّد العائلة ويتبدّد المجتمع!. مجتمع يتهمّش فيه البذل والتّضحية يستحيل ضدًّا للإنسان، أي، عمليًّا، جحيمًا، لأنّ الإنسان مخلوقُ قلب؛ فإن لم يعش في مناخ المحبّة، أي في مناخ البذل والتّضحية، فإنّه يستحيل مِسخًا ويغرق في القلق ويذوي!. ليس بالخبز الأرضيّ وحده يحيا الإنسان، بل بالخبز النّازل من السّماء، أوّلًا!. أنا هو خبز الحياة!. هذا ما تعطيناه المحبّة: ذاتها!. وهذا، بعينه، ما يعطينا إيّاه مسيح الرّبّ: نفسَه!. خذوا، كلوا، هذا هو جسدي… الخبز الّذي أنا أُعطي هو جسدي الّذي أبذله من أجل حياة العالم… الخبز الحيّ (يوحنّا 6)!. الأمّ، أوّلًا، بطبيعتها، مهمّتها أن تعلّم العالم، كيف يعطي كلٌّ جسدَه خبزًا، مدًّا للخبز الإلهيّ السّماويّ بيننا، أو يموت العالم في جهله!. ليس جهلُ أحدٍ أن يكون خِلوًا من علوم الدّنيا، بل أن يكون خِلوًا من روح البذل والتّضحية!. ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم – الدّنيا كلّه وخسر الرّوح – المحبّة؟!. أما هكذا يخسر نفسه؟!.
إذا أردت أن تقيِّم مجتمعًا ما، إلهيًّا وإنسانيًّا، فلا تُؤخَذن، فيه، بالنّظام، والأمن، والاقتصاد، ومستوى المعيشة، والثّقافة، والتّكنولوجيا، ولا حتّى بالحرّيّات العامّة. فتِّش فيه عن المناخ الأمّهيّ، ما إذا كان سليمًا، أصيلًا، محبِّيًّا، نظيفًا، مشبعًا بالغيرة على صون قيمة الأمومة فوق كلّ قيمة، أم لا!. هذا ما يجعل البنيان، في المجتمع، على الصّخر، وإلّا كان هشًّا، ذا مظهر حسن، ربّما، لكنّه أجوف، سريع العطب، لا سيّما في الملمّات، لأنّ كلًّا، إذ ذاك، يطلب ما لنفسه فوق كلّ شيء، ولا يعود ثمّة ما يجمع ويحفظ ويوحِّد، لا قانون ولا نظام، ولا حسّ مدنيّ ولا حتّى دين!. ينفرط العقد!. مَن لا ينشأ على إطعام الآخرين جسده، بمعنى، ينتهي به الأمر بأن يفترس الآخرين، لا محالة، مهما جعلتَ له من روادع!.
أمّا بعد، فمجتمعنا، اليوم، آخذ في الاعتلال والتّفكّك، لا، في الحقيقة، لأنّه ليس رئيس جمهوريّة، والوزارة وزارة تصريف أعمال، ومجلس النّواب يجدِّد، تلقائيًّا، لذاته، ولا لأنّ الإدارات العامّة في حال العرج أو العطب، ولا لأنّ الاقتصاد في حال النّزف والجمود، ولا بسبب سلسلة الأزمات العامّة الّتي يعانيها البلد. طبعًا، كلّ هذه الأوجاع يشكّل تهديدًا حقيقيًّا لسلامة البلد واستمراره حسنًا، لكنّها، برمّتها – أقصد هذه الأوجاع – تأتي كظواهر مرضيّة، لا كأسباب لما نعاني!. السّبب الّذي هو وراء كلّ الأسباب أنّ مؤشّر الحسّ المشترك، النّابع، أساسًا، من الرّوح المعمَّمة للبذل والتّضحية، يتدنّى إلى أقصى درجاته، بحيث بتنا نتخبّط بين واقع اللّامبالاة وواقع التّفلّت!. هذا صحيح في المجتمع، ويصحّ، أيضًا، على أهل الكنيسة، سواء بسواء!. يقولون: كلّ شيء يتسيَّس؟. هذه نتيجة بديهيّة للحال الّتي نعاني. عندما لا يعود أحدٌ يحسّ بما يعانيه أحد، وعندما تموت النّخوة في النّفوس ليعين بعضنا بعضًا، وعندما يتركّز همّ الأكثرين في تحقيق ما أمكنهم من المكاسب الخاصّة؛ وعندما نكتفي من الاحتجاج على الظّلم بالشّتائم والمبارزات الإعلاميّة والإضرار بالحياة العامّة، فبديهيّ، في بلد، كبلدنا، تجتمع فيه التّناقضات السّياسيّة، من الدّاخل والخارج، أن يُصار إلى استغلال كلّ مفسدة لمآرب سياسيّة!. ماذا نتوقّع في بلد تنخره اللّامبالاة والنّفعيّة، ويذبل فيه الحسّ الخاصّ والعامّ للنّاس؟ السّياسيّون ليسوا قدّيسين!. ثمّ تنازعُ السّلطة يعلِّم الإمعان في الفساد!. وفي زمن الفلتان واللّامحاسبة، لا يعود مَن في السّلطة يتورّع عن توظيف حتّى الموبقات والمقدّسات، سواء بسواء، لمصلحته!.
ثمّة مَن يظنّ أنّه متى حُلّت الأزمة السّياسيّة – الأمنيّة، في المنطقة، استقامت الأمور. تُحَلّ أو لا تُحلّ، أزمة الإنسان والإيمان تشتدّ!. لا الأمن ولا البحبوحة ولا النّظام يُصلِح ما خرب. العطب في النّفوس بلغ درجة متقدّمة!. الدّهريّة والفردانيّة والاستهلاكيّة تفتك بروح الشّراكة، ومن ثمّ بكلّ قيمة روحيّة وإنسانيّة، وتكرِّس حال اللّامبالاة، بين النّاس، على نحو مأسويّ!. ما نعانيه ليس حصيلة الاضطراب السّياسيّ والأمنيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ الّذي نعاين. هذا أتى بصورة تدريجيّة، وأخذ يتكثّف، عندنا، بدءًا، في تقديري، من أواخر الخمسينات من القرن العشرين. دخول الشّاشة الصّغيرة إلى البيوت كان إيذانًا بدخول فكر جديد إلى وجداننا، ومن ثمّ تغيير جدّيّ في نمط حياتنا. وقد بلغ التّغيير حدًّا متقدّمًا بدخول الحاسوب (computer) إلينا، واستقرار الهاتف النّقّال (mobile) بين أيدينا، أفرادًا!. طبعًا، انتشار الآلة، في كلّ مشارب الحياة، ووفرة السّيّارات، حتّى على عدد أفراد العائلة، أكثر الأحيان، كلّ هذا، إلى تعاطي عالم الشّاشات، المتجدّدة، كما على نحو لا يتوقّف عند حدّ، أدخل إلى الوجدان مفاهيم جديدة، وبثّ فيه قيمًا جديدة، وطبعه بطابع جديد شرع الإنسان يعتبره عصريًّا محبَّبًا، وشرع القوم يتهافتون عليه لمواكبة الحداثة الدّاخلة علينا، من كلّ باب وطاقة!. مدرسة جديدة. فلسفة حياة جديدة. أخلاقيّة عدميّة جديدة… عندك، عمليًّا، في أقلّ من ستّين عامًا، انقلاب يكاد يكون جذريًّا، لا فقط في أسلوب الحياة ونمط الحياة، بل، بالأَولى، في فهم الحياة، في مقاربتها، وامتدادًا، في فهم الإيمان المسيحيّ، ومقاربة الإلهيّات.
على صعيد نظرة الإنسان إلى إلهه وإلى نفسه وإلى غيره وإلى مجتمعه، التّغيير هائل!. حياة الشّراكة، بين النّاس، مذ ذاك، بما فيها من تعاطف وانعطاف وتحبّب وعِشرة وغيرة ووداد، أخذت تتقلّص، حتّى أشرفت على الاضمحلال، لتحلّ محلّها حياة التّجمّعات، الكبيرة والصّغيرة، الّتي يهمّ النّاس، فيها، أفرادًا، سواء في نطاق العائلة أم الحيّ أم النّاحية أم القرية أم المدينة، أن يعزّز كلٌّ استقلالَه، عن سواه، وما يعتبره حرّيّته الخاصّة!. الرّابط الدّاخليّ، في كلّ نطاق، ما عاد المحبّة، والبذل، والتّضحية، والحرص على الآخر، ومتابعته، والصّبر عليه، والشّراكة في الآلام والأفراح معه. الواحد بات مساكنًا لا شريكًا للآخر، أو للآخرين، وحسب، في المنزل، والبناية، والحيّ، لا يلتقيه، أو لا يلتقيهم، إلّا إذا جمعه إليهم همّ عابر واحد أو مصلحة مشتركة!. كلّ حرٌّ بنفسه ولنفسه، بات الشّعار!.
في هذا الإطار، شقّت حقوق المرأة طريقها إلى وجدان النّاس، بعامّة، لا سيّما إلى وجدان الفتاة. حقوق المرأة، اليوم، باتت تعني أنّ لها كيانها الخاصّ بإزاء الرّجل. مفاهيم الفتاة المتعلّمة، والعاملة، الّتي تتمتّع بحرّيّة اختيار نمط الحياة الّتي ترغب، ولها حياتها الخاصّة، وغير ذلك من مفاهيم، عزّز لديها، باسم الحرّيّات، رغبة الانصراف إلى شؤونها الشّخصيّة. همّها بات أن تحقّق ذاتها. همّها نفسُها!. ما تريد، ما تشتهي، ما ترغب فيه، ما تريد أن تحقّقه في حياتها!. عذرًا!. لست هنا في معرض الحديث عن الفتاة بالمقارنة مع الشّاب، بل أتكلّم عليها في إطار موضوع الأمومة الّذي انطلقت منه!. نظرة الفتاة إلى نفسها تغيّرت. لم تعد صورة الزّوجة والأمّ ما يأخذ بمجامع قلبها. حتّى هذه باتت، إن بقيتْ، إيهاميّة في عالم إيهاميّ!. صورة الزّوجة الّتي تفرح بزوجها، وصورة الأمّ الّتي تحتضن عائلتها، بالتّضحية والحنان، أخذتا تتبدّدان من أفق الفتاة المعاصرة!. شغفُ الفتاة بنفسها يطغى، حتّى الاختناق، طاقةَ الأمومة فيها!. تسلبُ وجدانَها صورةُ المرأة الفتّانة!. فلأنّ اهتمام فتاة اليوم هو بأهواء نفسها، فإنّها لم تعد ترغب في أن تصير أمًّا، تتعب في تنشئة أولادها!. لا تريد أن تضحّي!. همّها أن تبقى فتيّة، وأن تضمن لنفسها عيشة مريحة!. لا صبر لها على تربية الصّغار!. ضعفُها النّفسيّ، وحتّى الجسديّ، جعلها أوهى من أن تتحمّل مشاق العائلة والأمومة!. صار لها شغلها “المرموق”!. ولها صحبتها!. هذا أهمّ لديها!. تريد أن تمتِّع نفسها!. الأمومة تأسرها وتضنيها!. حتّى نظرة الفتاة إلى جسدها تغيّرت!. لسان حالها: جسدي لي وأنا حرّة به!. وهذا معناه أنّها تشرّع لنفسها الحياة الرّخوة!. قدسيّة الجسد، وأتكلّم على المسيحيّين، لا سيّما الفتيات، لم تعد مألوفةً أو مرغوبًا فيها!. ليس من زمان بعيد، كان مجتمعُنا يأبى أن يتسامح وتفلّت الفتاة!. السّبب العميق كان، لا حفظ شرف العائلة، بل، بالأكثر، صورة الأمومة!. كلّ هذا، وغيره الكثير، يجعل، اليوم، إيقونةَ الأمومة، وهَمَّ الأمومة، وهاجسَ الأمومة، يتآكل ويغيب!.
هذا، مجتمعنا، لا بل عالمنا بأسره، يزكّيه على قدم وساق!. إفسادُ النّاس، بعامّة، والفتاة بخاصّة، بمنطق “أحبّ ذاتك”، يجوِّف، لا بل يشوّه الحياة على الأرض!. فتاة تكتفي لذاتها بصورة الغانية، وأمّ تنجب ولا تضحّي، لتُسنِد أقدسَ عمل: التّربية للخادمة المساعِدة(!.)، ولا تشاء أن ينقصها شي من المباهج والمفاتن الخاصّة بها، أيّ مجتمع ينشأ عنها؟!. مجتمع ضائع، متوحّش، متفلّت، عنيف، بلا حسّ، بلا قلب… ولعلّ الوصف الأكمل لحال مجتمع “كلٌّ لنفسه” أجاده الرّسول بولس في رسالته إلى ولده تيموثاوس (الرّسالة الثّانية). قال: يكون النّاس محبّين لأنفسهم، محبّين للمال، متعظّمين، مستكبرين، مجدّفين، غير طائعين لوالديهم، غير شاكرين، دنسين، بلا حنو، بلا رضى، ثالبين (استعياب الواحد الآخر)، عديمي النّزاهة، شرسين، غير محبّين للصّلاح، خائنين، مقتحِمين، متصلِّفين، محبِّين للّذّات دون محبّة الله. لهم صورة التّقوى ولكنّهم منكرون قوّتها” (الإصحاح 3)!. المياة المتّسخة من النّبع الملوّث!. من فساد الأمومة الحقّ تنبع كلّ مفسدة!. لكن هذا القول كلّه للرّسول المصطفى يأتي بعدما استهلّ كلامه بلفت نظر تيموثاوس إلى أنّ هذا سيأتي في الأيّام الأخيرة، وستكون الأزمنة صعبة!.
لا شكّ أنّنا دخلنا الزّمن، على أوسع نطاق، الّذي بات فيه “دوار الشّهوة يطيش العقل السّليم”!. فإلى أين المآل، وماذا بعد؟!. هل من إمكان عودة إلى الوراء، أم بلغ وهن النّفوس حدًّا يجعل الموت أيسر من التّوبة إلى الحياة الحقّ؟!. لعمري، كونُ الإنسان قلبًا لا يسمح باليأس، غير أنّ آلامًا جمّة تنتظرنا ليستفيق مَن يستفيق!.

الأرشمندريت توما (بيطار)، رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي ، دوما – لبنان
عن “نقاط على الحروف”، 14 شباط 2016

 

 

 

 

 

أمومة ضائعة وعالم شَرود!.