...

الإنسان المتواضع قد قطع نفسه عن الكبرياء، ومن يمدح نفسه باطلاً قد نبذ نفسه عن التواضع سفر نشيد الأنشاد

 

 

 

 

  1. ها أنتِ جميلة يا حبيبتي (صاحبتي)، ها أنت جميلة؛ عيناكِ حمامتان.
  2. ها أنت جميل يا حبيبي وحلو (جميل)، وسريرنا أخضر (مظلل).
  3. جوائز (عوارض) بيتنا أرز، وروافدنا سرو.

1:2 أنا زهرة الحقل، سوسنة الأودية.

  1. كالسوسنة بين الشوك، كذلك حبيبتي بين البنات.
  2. كالتفاح بين شجر الوعر، كذلك حبيبي بين البنين. تحت ظله اشتهيت أن أجلس، وثمرته حلوة لحلقي.
  3. ادخلني إلى بيت الخمر، ووضع المحبة أمامي.
  4. اسندونى بالروائح، انعشونى بالتفاح، فإني مجروحة حبًا.
  5. شماله تحت رأسي، ويمينه تعانقني.
  6. أحلفكن يا بنات أورشليم بقوات وقوى الحقل ألا تُيَقِظن وتنبهن الحبيب حتى يشاء.

إذا ما مُزِج أي عنصر غريب مع الذهب فيجعله زائفًا، يقدم الخبراء من الصيَّاغ علاجًا للموقف بتنقية الذهب في النار.

إنهم يكررون هذا مرارًا وتكرارًا وفي كل إعادة يلاحظون كيف يتحسن لون الذهب.

هذه العملية أي تنقية الذهب تجعله يصبح غير زائف في منظره.

إن سبب ذكر هذا الأمر هنا سوف يتضح لك إذا ما فكرنا في النص. في البدء كانت الطبيعة البشرية مثل الذهب اللامع وذلك لتَشابُهه بالصلاح الذي بلا دنس.

لكن لونه قد تغير وصار أسودًا عندما امتزج بالرذيلة كما سمعنا العروس تقول ذلك في بداية السفر: إن إهمالها في حراسة كرمها قد جعلها سوداء (1: 5). الله الذي يصنع كل الأشياء بحكمته يهتم بما حل بالعروس من قباحٍ منظر غير لائق.

إنه ينسب لها جمالاً جديدًا لم يكن قبلاً لها، لكنه يقودها ثانيًا لحالة النعمة الأولى بإزالة السواد الذي حل بها خلال الخطية مغيرًا لونها إلى آخر بلا دنس.

بعد صب الذهب الأول يلاحظ الخبراء من الصيّاغ كم يزداد الذهب جمالاً بعد عملية تنقيته.

وعند سبك الذهب للمرة الثانية، إذ لم يتنقَّ بما فيه الكفاية بالمقارنة بالصبة الأولى فإنه يلاحظ أن الذهب يزداد جمالاً، غالبًا ما تتكرر العملية ذاتها مع ملاحظة التحسن الذي يحدث في كل مرَّة بدقة.

لذلك فإن المرافق للذهب المشوب أي العروس يُضفي على الروح بريقًا إذ ينقيه خلال عمليات تنقية خاصة.

في العظة السابقة (الثالثة) يشهد بأن جمال عروسه يشبه الفرس.

لكنه الآن يقول إنها صارت تشبه العذراء في جمالها: “ها أنت جميلة يا حبيبتي، ها أنت جميلة، عيناك حمامتان” [ع15]. إن النشيد يعلمنا خلال هذه الكلمات كيف أن العروس قد استعادت جمالها باقترابها من الجمال الحقيقي الذي كانت قد انفصلت عنه قبلاً.

لأن العريس يقول: “ها أنت جميلة يا حبيبتي”، أي أنه يود أن يقول لها: إنك قبلاً لم تكوني جميلة. إذ قد ضللت عن الجمال الأول باِتحادك بالرذيلة مما جعلك قبيحة المنظر.

هذا يعني أن الإرادة الحرة إذا ما أخذت اتجاهًا ما فإنها إنما تميل إليه.

فإذا ما استحوذ الغضب على الإرادة الحرة يصير الإنسان سريع الغضب، وإذا ما غُلب بالشهوة تأسره اللذة.

وإذا ما مال الإنسان إلى الجبن، الخوف، أو أي وجع آخر فإن الطبيعة البشرية تأخذ شكل كل منها على الجانب الآخر.

فإذا ما استبدلت الطبيعة البشرية الغضب وفقدان العزاء والجسارة وعدم المخافة وما شابه ذلك واكتسبت بدلاً منها الصبر والطهارة والسلام والحرية ففي هذه الحالة تبرز طبيعة كل من هذه الفضائل في صميم الروح وتصير ساكنة ومتحررة من الشهوات.

لذلك فإن الفضيلة والرذيلة إنما هما مضادتان ولا يمكن أن يجتمعا معًا في الإنسان ذاته في آن واحد.

لأن الذي قد رفض ضبط النفس يتحول إلى الفسق في سلوكه.

إن من يعتبر حياة النجاسة كشيء بغيض فإن لهذا السبب ذاته قد يتحول عن الشر، ويحيا فيما بعد حياة صالحة وعفيفة.

هكذا الحال مع كل الفضائل الأخرى.

إن الإنسان المتواضع قد قطع نفسه عن الكبرياء، ومن يمدح نفسه باطلاً قد نبذ نفسه عن التواضع.

وهل نحتاج أن نشير إلى أن غياب أحد الضالين يدل ضمنًا على أن الآخر قد ثَبتّ وجوده؟ بما أننا خلال إرادتنا الحرة نستطيع أن نصير كما يحلو لنا.

وهكذا يحق للكلمة أن يقول للعروس التي قد صارت جميلة: “ها قد نبذتِ الشركة مع الشر ودنوتِ مني.

وخلال دنوكِ من الجمال الأصلي قد صرتِ أنت ذاتك جميلة.

قد صرتِ جميلة المنظر كشبه الجمال الأول كما في مرآة.” حقًا أن الطبيعة البشرية كمثل مرآه تنطبع عليها صور مختلفة بحسب الشكل الذي تتخذه النفس خلال إرادتها الحرة.

إذا ما عُرض الذهب أمام المرآة فإن المرآة يظهر عليها شكل الذهب وتعكس لمعان مادة الذهب.

وإذا ما عرض أي شيء كريه فسوف تظهر صورته الكريهة على المرآة كمثال ضفدع، سلحفاة، أم أربعة وأربعين، أو أي شيء كريه للنظر.

إذن فإن المرآة تعكس ما يعرض أمامهما.

وهكذا الروح أيضًا، عندما تتنقى من الرذيلة خلال الكلمة حينئذ يستقبل داخليًا مدار الشمس ويسطع بأشعتها المنعكسة.

لذلك فإن الكلمة يقول للعروس: قد صرِت جميلة باقترابك من نوري، بدنوِّك مني، إذ قد اِتحدْتِ بجمالي، “ها أنت جميلة يا حبيبتي” (1: 15).

ثم يصمت العريس، وإذ يرى جمال عروسه قد ازداد، يكرر كلماته: “ها أنت جميلة”. وقد أسماها “يا حبيبتي”، والآن وقد لاحظ جمال عينيها يقول: “عيناكِ حمامتان” عندما قورنت العروس بالفرس حينئذ مُدحِ خدَّاها وعنقها (1: 10).

أما الآن وقد ظهر جمالها الذاتي امتدح جمال عينيها.

يقول العريس إن عينيها حمامتان وهذا يحمل المعنى الآتي: عندما تكون العينان صافيتين حينئذ تعكس صورة من ينظر إليها بوضوح.

يقول خبراء الظواهر الطبيعية إن العين ترى من خلال استقبال انعكاس الصور المنبثقة من الأشياء المرئية.

لذلك فإن جمال العروس يُمتدَح لأن صورة الحمامة منطبعة في عينيها.

عندما يتطلع إنسان ما إلى أي شيءٍ، يستقبل في ذاته صورة هذا الشيء.

إن الإنسان الذي قد تخلى عن الحياة الملموسة، أي اللحم والدم يتطلع إلى الحياة الروحية. كما يقول، فيسلك في الروح، وبالروح يميت أعمال الجسد. هذا الإنسان قد صار كليًا في الروح، فلم يعد الإنسان إلى الطبيعة الجسدانية. لهذا توصف النفس التي تخلصت من أهواء الجسد أن صورة الحمامة تظهر في عينيها، وهذا يعني أن خاتم الحياة الروحية يشع نورًا من داخلها. تصبح العين النقية. النفس التي حصلت على صورة الحمامة قادرة على رؤية الجاذبية الروحية للعريس. تنظر العروس إلى عريسها، عندما تكون صورة الحمامة في عينيها، فترى جماله الروحي. كذلك لا يستطيع أحد أن يقول: يسوع رب إلا بالروح القدس. وتقول العروس: “ها أنتَ جميل يا حبيبي” [ع16]، وبما أنه لا يظهر لي شيء جميل الآن لأني قد اِبتعدت عن كل شيء كنت أظن سابقًا أنه صالح، أما الآن فإن حكمي على الخير والجمال صار حكمًا بعيدًا عن الخطأ. وإنني لا أرى الجمال وأي شيء آخر إلا فيك، فلا التصفيق أو العظمة أو القوّة في هذه الدنيا تعادل ما أراه فيك من جمال. لأن الذين يكتفون بالحواس، قد يروا الدنيويات جميلة ولكنها ليست كذلك في حقيقتها. كيف أي شيء جميل إذا كانت تنقصه المادة؟

تظهر الأشياء في هذه الدنيا كأن لها قيمة في عقول من يفكرون في ذلك فقط. ولكنك جميلة حقًا بل أنت أصل الجمال ومادته، فأنت ثابتة على الدوام، فتزهرين باستمرار وليس في موسم واحد ثم تسقط أزهارك. ففي خلال حياتك الأبدية يظل جمالك ثابتًا. اسمك هو “الحب لجميع البشر”. أنت هو نبع يهوذا، ويصبح الشعب إخوة لمن يأتون إليك من الأمم. لذلك فأنت مستحق أن تُعرف باسم المحبوب من كل الذين يرغبون أن يكونوا لك إخوة لله الذي حل في الجسد.

تصف العروس العريس بأن ظله على الفراش: “سريرنا أخضر” [ع16]. أي أن الطبيعة البشرية تدرك أو سوف تدرك أنك تظللها برعايتك. “لقد أتيت” قالت العروس، “أنت الجميل الذي يظلل فراشنا”. لأنه إن لم “يخيم ظلك علينا على هيئة خادم” (فيقول 2: 7)، عندما تكشف لنا عن أشعة بهائك الإلهي، فمن يستطيع أن يتطلع إلى عظمتك البهية؟ “وقال لا تقدر أن ترى وجهي. لأن الإنسان لا يراني ويعيش” (خر 33: 20). لقد أتيت إلينا الآن كشخص رائع ويمكننا استقباله. أتيت إلينا متجسد كإنسان لتخفي عن عيوننا أشعة ألوهيتك. كيف اِمتزجت الطبيعة التي تدوم إلى الأبد بالطبيعة التي تموت؟ إن ظل جسده عمل كوسيط يمنحنا النور نحن الذين كنا نعيش في الظلمة: تستعمل العروس كلمة فراش (سرير) لكي تُفسر بحاسة تصويرية اِتحاد الطبيعة البشرية مع الله. بنفس الطريقة يضمنا الرسول بولس العظيم كأبكار مع المسيح ويعمل هو كمرافق للعروس. ويقول إن اندماج شخصين في وحدة كجسد واحد هو سر عظيم كاِتحاد المسيح مع الكنيسة. حيث يقول: “يصير الإثنان جسدًا واحدًا” ثم يضيف: “هذا السر عظيم ولكنني أنا أقول هذا من نحو المسيح والكنيسة ” (أف 5: 31-32).

تسمى العروس البكر هذا الاِتحاد مع الله “فراش” لأنه سرّ. ولم يكن من الممكن أن يحدث هذا، لولا أن الله ظهر لنا مختفيًا في جسد إنسان. وهو لم يكن فقط العريس، ولكنه أيضًا البيت ومادة البناء. إنه يضع يقفا لهذا البيت ويزيِّن هذا العمل بمواد ثابتة لا تفسد مثل خشب الأرز والسرو الذي يقاوم عمليات التحلل. ولا يضعف بمرور الزمن ولا يهاجمه الحشرات ولا ينال منه الفساد. وتُستخدم لأعمدة الأرز الطويلة للسقف بينما يستخدم السرو في أعمال التغليف الذي يُزيِّن الجزء الداخلي من البيت. ويقول النشيد: “جوائز بيتنا أرز وروافدنا سرو” [ع17]. إن المعاني الخفية وراء هذه الأخشاب تتضح لمن يتبعون ما جاء في النص. يدعو الله حدوث التجارب المختلفة في الإنجيل بكلمة “مطر” ويقول عن الرجل بنى بيته على صخر: “نزل المطر وجاءت الأنهار وهبت الرياح ووقعن على ذلك البيت فلم يسقط لأنه كان مؤسسًا على الصخر” (مت 7: 5).

يجب أن تكون لدينا دعامة من أعمدة الأرز حتى نقاوم الشر الذي ينزل كالمطر. فهي تمثل الفضائل التي لا تسمح بأن تشملنا الإغراءات، فهي قوية وثابتة ولا تلين للإغراءات الشيطانية. ويمكننا الاستفادة من الدرس هنا إذا ما قارناه بما يقابله في سفر الجامعة. حيث يقول المتكلم في الجامعة: “بالكسل الكثير يهبط السقف ويتدلى اليدين يكف البيت” (جا 10: 18).

فإذا كانت الأخشاب التي تدعم السقف رفيعة وضعيفة، وكان صاحب المنزل مهمِلاً ولا يرعى المبنى، فإن السقف سوف لا يمنع المطر من التسرب إلى داخل المنزل. ويؤدي إلى اِنحناء أخشاب السقف التي لا تتحمل وزن مياه المطر الساقطة عليه، ثم ينكسر أعمدة الخشب الضعيفة التي لا تتحمل الوزن الإضافي وتنفذ المياه المتجمعة على السقف المنحني إلى داخل المنزل. وهكذا فإن المطر، يُخرج الرجل من منزله عندما يزداد تدفقه، كما جاء في سفر الأمثال (أم 27: 15). لذلك تشجعنا الرموز الموجودة في المثل (جا 10: 18) أن نكون حازمين ضد هجمات الانفعالات حتى لا ننحني تحت ثقلها، فتدخل المياه إلى قلوبنا وتفسد كل الكنوز المخزونة هناك.

يرمز أرز لبنان الذي زرعه الله، حيث تبني فيه العصافير أعشاشها ويكون مأوى للطيور الكبيرة، إلى الفضائل. إن الأرز دعامة لمنزل العرس ولحجرة العروس حيث تعيش فيها النفوس التي تشبه العصافير، التي تنجوا من شراك الصيادين وتبني أعشاشها، وتجد فيها الطيور الكبيرة ملجأ لها، كما يقول الكتاب (مز 123: 7). يقول المهتمين بدراسة عادات الطيور أن طائر أبو قردان عنده كراهية للاجتماع الجنسي ولا يمارسه إلا عند الحاجة ويكون مصحوبًا بعلامات حزن وصرخات. ويظهر لى أن النص يشير إلى النقاوة خلال هذا المثال. تنظر العروس في نشيد الأناشيد إلى أعمدة الأرز في حجرة العرس الطاهرة وترى خشب السدو المزيَّن الذي يزيد المنظر جمالاً وأناقة. ويذكر النص أن تغليف السقف كان من خشب السدو. وتعني كلمة التغليف، تثبيت قطع الخشب بإحكام في شكل هندسي لتجميل سقف الحجرة. ماذا نتعلمه من هذا؟ لخشب السدو رائحة جميلة وله مناعة ضد التحليل وهو مفيد في إنتاج الكثير من أعمال الخشب الفنية لأنه خفيف وسهل التشكيل ويصلح لأعمال “الأويمة”. نتعلم من هذا الدرس أنه يجب أن نغرس الفضيلة في نفوسنا من الداخل على أن لا نهمل أن يكون منظرنا الخارجي حسنًا فيلزم أن نعتني بما هو شريف أمام الله والناس (2 كو 5: 11).

حتى يروا الناس أعمالكم الصالحة ويمجدوا الله. وهكذا نشجع الناس ونكسب سمعة طيبة من اللّين في الخارج (1 تي 2: 7). لكي ننير بالأعمال الطيبة أمام الناس ونسلك سلوكًا طيبًا أمام من في الخارج، هذا هو “التغليف” الذي ينتج من رائحة المسيح الذكية والذي يرمز إليه خشب السرو. الذي شُكل بمهارة بواسطة حياة صادقة ومضبوطة. عرف المهندس الماهر بولس كيف يعبر عن الأمور في انسجام بديع “وليكن كل شيء بلياقة وحسب ترتيب” (1 كو 14: 40).

ينمو الجمال بداخلنا إذا طبقنا ما شرحناه الآن بدقة، وسينتج من طول وعرض طبيعتنا شجرة مزهرة نقية ذات عبير ذكي. وتسمى زهور هذه الشجرة النرجس الذي يشير جماله إلى ضياء النقاء والطهر. وتشرح العروس هذا عندما تقول لوصيفاتها: “بعد مجيء العريس إلى فراشنا” – خلال تجسده – الذي شيَّدني كبيت لنفسه وعمل لي سقفًا من أرز الفضائل وزيّن السقف بالرائحة الذكية للسرو. لقد أصبحت زهرة وسط الطبيعة تختلف لونًا ورائحة عن بقية الزهور. لأنني نشأت نرجسة في الوديان. وكما جاء في النص “أنا نرجس شارون سوسنة الأودية” [ع1]

رأينا فيما سبق أن النفس زُرعت في عرض الطبيعة البشرية. (عندما نسمع كلمة “حقل” نفهم أنه عرض الطبيعة البشرية لأن لها القدرة على استيعاب مجموعة كبيرة جدًا من الأفكار والكلمات والتعاليم). لذلك فالنفس التي يزرعها راعي طبيعتنا تزدهر كرائحة طيبة، وتشرق كزهرة نقية في حقل طبيعتنا. وهذا الحقل حتى لو سميناه وادي بالمقارنة بالحياة في السماء، هو في الحقيقة حقل، والنفس التي تنمو فيه لا يمنعها أحد من أن تكون زهرة. ويرتفع النبات الأخضر إلى أعلى في هذا الوادي الواسع إلى مثل اِرتفاع نبات النرجس. وتعلو أغصان النبات النرجس الخضراء إلى مثل ارتفاع نبات الغاب ثم تبرز الزهرة على القمة. فتوجد مسافة ليست قصيرة بين الزهور والأرض. والسبب في ذلك حسب رأيي، أن جمالها يظل نقيًا طالما هي مرتفعة إلى أعلى وليست ملوثة بملامسة الأرض.

لذلك تنظر عين العريس العادلة على العروس التي أصبحت نرجسة أو ترغب في أن تكون نرجسة. (كلا التفسيرين صحيح: إما أن العروس تفتخر بأنها أصبحت فعلاً كما ترغب، أو تسأل الزارع أن تكون زهرة تنمو من خلال حكمته في وديان وجود البشر إلى جمال النرجس). وترى عين العريس الصادقة العروس في حالتيّ وصولها أو عدم وصولها إلى ما ترغبه. ويوافق على أن يجعلها نرجسة لا تختنق بأشواك الحياة التي يسميها “البنات”. إني أعتقد أن هذا ينطبق على قوى الشر المضادة للحياة البشرية، ويُعرف أبوهم بأنه مخترع الشر.

كالسوسنة بين الشوك كذلك حبيبتي بين البنات” [ع2]. إننا نرى تقدمًا عظيمًا في ارتفاع النفس، كانت الخطوة الأولى في الارتفاع هي مقارنة العروس بالخيل التي حطمت قوى المصريين. وكانت الخطوة الثانية عندما أصبحت العروس رفيقًا للعريس ومقارنة عيونها بالحمامة. وتتكون الخطوة الثالثة في تسمية العروس ليس كرفيق ولكن “بأخت” الرب. “كل من يعمل مشيئة أبي الذي في السموات، هو أخي وأختي وأمي” (مت 12: 50). فعندما تصبح النفس زهرة لا تجرحها التجارب الشائكة خلال تطورها إلى نرجسة، وتنسى الناس وبيت أبيها وتنظر إلى أبيها الحقيقي. لذلك تسمى أخت الابن لأنها حصلت على هذه العلاقة بواسطة روح التبني وابتعدت عن ملازمة بنات الآب الكاذب. وهكذا تصبح أكثر سموًا وتنظر إلى السر من خلال عيون الحمامة. وأعني بذلك أنها تعمل ذلك بواسطة روح النبوة. إنها ترى الآتي: “كالتفاح بين شجر الوعر كذلك حبيبي بين البنين” [ع3]. فإذا رأت العروس؟ يطلق الكتاب المقدس كلمة “غابة” على الناحية المادية من الحياة البشرية الممتلئة بكثير من الانفعالات. وهنا تعيش الحيوانات المخربة في داخل شقوقها. أنهم عاجزون في وضح النهار وتكمن قوتهم في الظلمة. وتخرج الحيوانات من مخابئها بعد غروب الشمس ومجيء الليل كما يقول النبي (مز 104: 20). لذلك فالحيوان الوحيد الذي يتغذى في الغابة الكثيفة قد دمر جمال الطبيعة البشرية. وكما يقول النبي: “يفسدها الخنزير من الوعر ويرعاها وحش البرية” (مز 79: 13). من أجل هذا نمت شجرة التفاح وسط الأشجار الكثيفة، ولأنها مصنوعة من الخشب فإن لها مادة تشبه الطبيعة البشرية وجربت بكل وسيلة حين كانت بلا خطية. (عب 4: 15). وتختلف شجرة التفاح عن غيرها من الأشجار لأنها تحمل فاكهة تعطي عذوبة للنفس وهذا يجعلها تختلف عن غيرها من الأشجار كاِختلاف النرجس عن الأشواك.

يبهج النرجس حاستيّ النظر والشم، وعلى جانب الآخر تُفرِّح شجرة التفاح ثلاث حواس وهي: جميلة يُنظر إليها، ولها رائحة ذكية، وفاكهتها ذات طعم حلو. ترى العروس فرقًا بينها وبين سيدها لأنه بكونه نور، فهو مسرَّة لعيوننا، ورائحة ذكية لأنوفنا، وحياة لمن يأكله. يقول الكتاب: “هذا هو الخبز الذي نزل من السماء. ليس كما أكل آباؤكم المنّ وماتوا. من يأكل هذا الخبز فإنه يحيا إلى الأبد” (يو 6: 58)، تصير الطبيعة البشرية كاملة وتتحول إلى زهرة من خلال الفضيلة، إنها لا تزوِّد الراعي بالغذاء لكنها توفر زينة لنفسها. فهو ليس بحاجة إلى صلاحنا، ولكننا نحتاج إلى صلاحه. كما يقول النبي: “قلت للرب أنت سيدي. خيري لا شيء غيْرك” (مز 15: 2).

لذلك تنظر النفس النقية إلى عريسها وهو على هيئة شجرة التفاح بين أشجار الغابة. وهي تبحث لكي تُطعم على نفسها؟ جميع أغصان الأشجار البرية بالغابة، وتُعدهم لكي يزهر والإنتاج ثمارًا مماثلة. لقد فهمنا أن البنات (الأشواك) هم أطفال الأب الكاذب، وأنهم نموا مع الزهرة واِرتقوا إلى جمال النرجس. هكذا عندما نسمع أننا نقارن الأشخاص بأشجار الغابة، فإننا نفهم أنهم لا يرمزون إلى أصدقاء العريس بل إلى أعدائه. جميعكم أبناء ظلمة وأبناء غضب ( 1تس 5:5). ولكن الله يغيِّرهم إلى أبناء النور والنهار من خلال الشركة مع الثمرة، لذلك تقول النفس التي تدربت حواسها: “وثمرته حلوة لحلقي” [ع3]. إن الثمر ما هو إلا تعاليم الله، كما يقول النبي: “كلماته حلوة لحلقي أكثر من الشهد لفمي” (مز 118: 103). “كالتفاح بين شجر الوعر” [ع3]. تزداد حواس النفس حلاوة حسب كلمة العريس عندما تظللنا شجرة التفاح وتحمينا من لهيب الإغراء، وتمنع تأثير أشعة الشمس الحارقة على رءوسنا العارية. ولكن لا يمكن للنفس أن تنتعش في ظل شجرة الحياة إلاّ إذا كان عندها اشتياق ورغبة كبيرة، لذلك توجد الرغبة بداخلك لكي تخلق شعور جارف نحو شجرة التفاح، التي يتعاظم الاِستمتاع بها لمن يقتربون منها. فتنتعش العين برؤية جمال التفاح، وتستنشق الأنف رائحتها الذكية، ويتغذى منها الجسم، ويتمتع الفم بمذاقها الحلو، وتبتعد عنا حرارة الجو ويصبح ظلها مثل مقعد مريح لتجلس عليه النفس، بعد أن ترفض كرسي المرض الخطير (الخطية).

ثم تقول العروس “ادخلي إلى بيت الخمر وعَلَمُه فوقي محبة. اِسند بأقراص الزبيب. انعشوني بالتفاح فإني مريضة حبا” [ع4].

آه كيف تشبَّه النفس بالحصان الذي يجري على الطريق المقدس. كيف تقفز وتجري في قفزات متجهة إلى ما يقع أمامها ولا ترجع إلى الخلف. وبالرغم من ذلك فهي لا زالت عطشانة. لقد أصبح عطشها شديدًا لدرجة أنها لم ترتوِ بكأس الحكمة. فلم يكف الكأس كله ليطفئ ظمأها. إنها تبحث لكي تذهب إلى بيت الخمر نفسه لتضع فمها على البرامي التي تخرج منها فقاقيع الخمر والكرمة التي غذَّت العناقيد، وأخيرًا لترى راعي الكرمة الحقيقية الذي اِهتم بالعناقيد وجعلها حلوة. ولا يلزم هنا أن نشرح بالتفصيل جميع هذه العناصر فالمعنى الرمزي لكل منها واضح. ترغب العروس أن تعرف السر الخاص بملابس العريس التي صار لونها أحمر نتيجة للمشي في معصرة العنب. ويقول النبي عن هذا السر: “ما بال لباسك مُحمَرّ وثيابك كدائس المعصرة” (إش 63: 2)؟

من أجل هذا وأسرار أخرى شبيهة به ترغب العروس أن تكون داخل البيت الذي يحوي سر الخمر. وبعدما دخلته، ابتدأت في القفز إلى أعلى لكي تصل إلى ما هو أعظم لأنها. كانت تبحث لكي تقع في الحب. وتبعا للقديس يوحنا، الله محبة (1 يو 4: 8). إن خضوع النفس لله هو الخلاص، كما يشير داود (مز 61: 2). “أدخلني إلى بيت الخمر وعَلَمُه فوقي محبة” [ع4]. تقول العروس ضع حبه فوقي إني خاضعة لحبه فكلا الجملتين لهما نفس المعنى.

نتعلم هنا من العروس نظرية معرفة وهي حبنا الذي نقدمه لله ومعاملتنا للناس. يجب أن نعمل كل شيء بنظام خصوصًا ما يتعلق بالحب. فلو اِتبع قايين الترتيب الصحيح، أي لو أبقى ما احتاجه لنفسه ثم وهب الباقي لله (تك 4: 7). كان يجب على قايين أن يقدم المولود الأول من قطيعه، ولكنه أبقى لنفسه الأحسن وقدم الباقي لله.

إنه من المهم أن نعرف ما هو ترتيب الحب، والوصايا هي التي تقودنا، لذلك كيف يحب الشخص الله ثم الجار والزوجة والعدو لئلا يضيع الترتيب في ممارسة الحب ويتغير اتجاهه إلى عكس ما أريد له. يلزم أن تحب الله من كل القلب والروح والقوة والشعور والجار كنفسك (تث 6: 5). وإذا كان لنا نفوسًا نقية فيجب أن نُحب زوجاتنا كما أحب المسيح الكنيسة. وعلى جانب الآخر، إذا كنا خاضعين للانفعال، فيجب أن نحب زوجاتنا كما نحب أجسادنا كما يحثنا الرسول بولس المرجع في هذه الأمور (أف 5: 25). يجب أن لا نجازي أعداءنا شرًا بشر ولكن نجازي الظلم بالعمل الطيب.

والآن نلاحظ أن الكثير من الناس تختلط عليهم الأمور ويمارسون الحب بلا ترتيب، فحبهم غير متزن وينقصه الاتجاه الصحيح. فيحبون المال والشهرة والنساء – بعض الأحيان بانفعال – بكل أرواحهم وقوتهم. ويظهرون أنهم قد يضحون بحياتهم مسرورين من أجلها. ولكنهم يحبون الله فقط على سبيل التظاهر. وقليلاً ما يظهرون حبًا لجارهم الذي كان يجب أن يظهروه للأعداء، أو لمن يكرهونهم، واِتجاههم هو أن يردوا شرًا أعظم مما وجه إليهم. لذلك تقول العروس: “أعطي أمرا للحب بداخلي، حتى أقدم لله ما يحق له، وحتى لا أفقد المقياس الصحيح لكل شيء آخر”. ويمكن أن نفهم النص أيضًا كالآتي: بالرغم من أني قد قُدم لي الحب أولاً، فإني جابهت عدوى نتيجة لعصياني، ولكني الآن تصالحت مع العريس وارتبطت معه بالحب. اثبتوا في داخلية هذه النعمة المرتبة، والتى لا تتغير يا رفاق العريس، خلال رعايتكم واِهتمامكم احفظوا بحزم ميولي نحو الأفضل.

وبعدما قالت العروس هذه الكلمات اِنتقلت إلى أمور أكثر سموًا، وهي أنها تبحث في أن تدعمها الروائح الذكية حتى تحفظ بما عندها من صفات جيدة. “اسندوني بالروائح الذكية” [ع5]. يا لهذا السند الفائق! كيف تكون الروائح الطيبة أعمدة لدعم المنزل؟ كيف يُرفع السقف المكوّن من مواد ذات أوزان ثقيلة على الروائح الذكية؟

غرسَ الله الفضائل فينا بأنواعها المختلفة، ولكن ليس واضحا أن كلا منها سُمي حسب عملها. لأن عمل الفضيلة ليس فقط معرفة الخير والمساهمة في فعله، ولكن أيضًا التمسك به وعدم الحياد عنه. لذلك فالشخص الذي يرغب أن تدعمه الروائح الذكية يهدف إلى مثابرة في الفضيلة. الروائح الذكية هي الفضيلة لأنها منفصلة عن كل روائح الخطية الكريهة.

إن الجزء التالي في النص أيضًا لهو فائق، وهو بالتحديد الدعم الذي ترغبه العروس لبيتها. إنها لا تطلب شجيرات تحمل أشواكًا أو قشًا أو دريسًا، أو كما يقول الرسول ليس خشبًا أو دريسًا أو قشًا (1 كو 3: 12)، وهي المواد التي تبنى بها المنازل. إنها طلبت بدلاً من ذلك تفاحًا لكي يكون دعامة قوية لسقف هذا البيت. وهي تقول: “أنعشوني بالتفاح” [ع5]، وذلك لكي تكون هذه الفاكهة الكل في الكل لها (أنظر 1 كو 3: 12). الجمال، الرائحة الذكية، والمذاق السكري، الشبع، والتمتع بظلها، كرسي للراحة، عامود صلب وسقف للوقايه.

إن الجمال بُفلارح (كلمة غير مفهومة بالنص العربي) الناظرين والرائحة الذكية متعة لحاسة الشم والتغذية لازمة للجسم وتشبع حاسة التذوق، والظل يُنعش بعد حرارة الشمس، والكرسي يُريح من التعب، وسقف المنزل حماية للسكان، والعامود يعطي دعامة وثباتًا، وشجرة التفاح الجميلة تزيِّن السقف. إنه لمنظر بديع حقًا عندما تُعرض ثمار التفاح بعد نضجها فألوانها الحمراء والبيضاء تعطي العين منظرًا جميلاً متعدد الألوان تتدرج فيه من الأحمر الداكن إلى الفاِتح ثم الوردي والأبيض. ويصبح هذا المنظر رائعًا لو رفعنا هذا العرض إلى أعلى. إنه ليس مستحيلاً أن ننجز ذلك في عمل الخير الروحي، لأن مثل هذا النوع من الثمار ليس ثقيل الوزن فلا ينجذب ناحية الأرض، لأن مثل هذا العمل يميل طبيعيًا إلى أعلى.

فالفضيلة تنمو إلى أعلى وتنظر لما هو فوق. لذلك، ترغب العروس أن يُزيّن سقف منزلها بجمال ثمرات التفاح. ماذا يتضح لنا من النص هنا؟ طبعًا ليس فقط المنظر الجميل للتفاح على السقف. ما هو الطريق إلى الفضيلة الذي يوجد في هذه الكلمات إن لم نقتبسه من التفسير المناسب لها؟

ما هو اقتراحي إذن؟ إن الواحد الذي ظهر في غابة طبيعتنا البشرية بسبب حبه للبشر، أصبح تفاحة باشتراكه معنا في الجسد (اللحم والدم). وكل من هذه (اللحم والدم) يقابله أحد ألوان التفاح. فاللون الأبيض يمثل لون اللحم أما اللون الأحمر فيمثل الدم. لذلك، عندما تفرح النفس في الأمور السمائية فإنها ترغب أن ترى تفاحًا على السقف، وهكذا ترى ما هو فوق وتركز على التفاح، فيقودها هذا إلى الطريق السمائي للحياة حسب تعاليم الإنجيل. الذي جاء من الأعالي والذي هو فوق الجميع. أرانا الطريق من خلال ظهوره في الجسد، فقد كان لنا مثالاً عاليًا لكل فضيلة وصلاح. وكما قال السيد المسيح: “تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب” (مت 11: 29). وقد تكلم الرسول في نفس الموضوع عندما تحدث عن الاِتضاع، ودعوني أقرأ النص لأوضح الحقيقة العامة: يقول بولس ينظرون إلى أعلى “فليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح أيضًا. الذي إذ كان في صورة الله لم يحسب فله أن يكون معاملاً لله. لكنه أخلى نفسه آخذًا صورة عبد” (في 2: 5). لقد شاركنا حياتنا بالجسد والدم وبإرادته أخذ هذا. تقول العروس، “اِنعشوني بالتفاح”، حتى أبقى باستمرار ناظرة إلى أعلى، فأرى على الدوام صور الفضيلة واضحة في عريسي. ففيه أرى الوداعة، الخلوّ من الغضب، التصالح مع الأعداء، حب الذين يسببون له الضيقات مقابلة الشر بالخير كما أرى القوة والنقاء والصبر وليس به أي أثر للمجد الباطل أو الخداع.

وبعد ما قالت ذلك، مدحت العروس رامي الرمح على تصويبه الدقيق، لأنه رماها بسهمه. فقالت العروس: “إني مجروحة حبًا” [ع5]. تعني هذه الكلمات أن سهام العريس قد نفدت إلى داخل قلبها. إن مُصوّب هذه السهام هو الحب (1 يو 4: 8)، الذي يرسل “سهمه المختار” (إش 49: 2)، الابن الوحيد، إلى هؤلاء الذين يخلصون، ثم يغمس سن السهم الثلاثي في روح الحياة. وسن السهم هو الإيمان، وبواسطته يقدم الله مُصوِّب السهم، وكذلك السهم معًا إلى القلب، كما يقول السيد المسيح: “إن أحبني أحد يحفظ كلامي، ويحبه أبي وإليه نأتي، وعنده نصنع منزلاً” (يو 14: 23).

لذلك فالنفس التي ارتفعت إلى درجات إلهية عليا ترى بداخلها سهم الحب العذب الذي جرحها، وتفتخر بهذا الجرح قائلة: “إني مجروحة بالحب”. أيها الجرح الجميل، والسهم العذب، الذي أدخل الحياة إلى قلبي! فلقد فتح نفاذ السهم بابًا ومدخلاً للحب، وهي التحول الخيالي من رمي السهام إلى فرح العرس.

كلنا يعرف كيف يقبض رامي السهام على القوس وتعمل يداه المضبوطة، فتمسك اليد اليسرى بالقوس، بينما تجذب اليد اليمنى الوتر المرن، وهكذا يتحرك السهم إلى الخلف بطرفه المشقوق. ثم توجِّه اليد اليسرى السهم إلى الهدف. ذكرنا سابقًا أن العروس كانت الهدف، والآن ترى نفسها كأنها السهم في يديّ صاحب القوس. فيمسك بيده اليمنى بطريقةٍ ما، وبطريقة أخرى بيده اليسرى…

الله هو العريس ومصوِّب السهم، وهو يعامل النفس النقية كالعروس، يصوِّبه سهمه نحو هدف طيب. لذلك فهو يسمح لعروسه أن تشارك أبديته التي بلا فساد، وينعم عليها بسنين وحياة طويلة بيده اليمنى. ويعطيها بيده اليسرى هبة حياته الأبدية، وعظمة الله التي لا يشاركه فيها من يبحثون عن العظمة في العالم. من أجل ذلك تقول العروس: “شماله تحت رأسي” [ع6]. لأن هذه هي الطريقة التي يُصوَّب بها السهم إلى هدفه. “ويمينه تعانقني“. وكأن العروس تقول إن يمين الله تستقبلني وتسحبني إلى الخلف، لكي تريح رحلتي إلى أعلى حيث يوجهني دون أن أنفصل عن يد حامل القوس. وفي نفس الوقت سوف أُحمل بعيدًا بعمله في التصويب وإني أشعر براحة بين يدي حامل القوس: تقول الأمثال عن صفات هذه الأيادي: “في يمينها طول أيام، وفي يسارها الغنى والمجد” (أم 3: 16).

تخاطب العروس بنات أورشليم السمائية. تعبر بواسطة تشجيعهن على هيئة قسم بأن الحب قد يتضاعف ويزيد باستمرار حتى يتمم إرادة ذاك الذي يريد أن الكل يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون (1 تي 2: 4). ويقول النص: “أحلفكن يا بنات أورشليم بالظباء وبأيائل الحقول ألاّ تُيْقِظن ولا تُنبِّهن الحبيب حتى يشاء” [ع7]. فالقسم هو ما ينطق مع ضمان صدقه. ويعمل بطريقتين: فإمَّا إنه يؤكد الحقيقة لمن يسمهونه، أو يُلزم الشخص الذي أقسَم بأن لا يكذب. وكما تقول المزامير: “أقسَم الرب لداود بالحق لا يرجع عنه. من ثمرة بطنك أجعل على كرسيك” (مز 132: 11). في هذه الحالة ويتأكد صدق الوعد بالقَسم.

عندما كان إبراهيم متهمًا بأن ابنه يجب أن يتزوج من عائلة نبيلة (تك 24: 2-9)، أمر خادمه أن لا يختار امرأة كنعانية محكوم عليها بالعبودية كزوجة لاسحق حتى لا يتلوث دم أحفاده النبيل باختلاطه بدم سلالة العبيد. أراد إبراهيم أن يتحد ابنه بالزواج من امرأة تعيش في موطنه الأصلي، لذلك ألزم عبده بأن يُقسِم بأن يعمل حسب ما أوصاه لابنه بغير إهمال.

لذلك كان العبد مقيدًا بوعده لإبراهيم لكي يرتب الزواج المناسب لاسحق.

وكما قلت قبلاً أن القَسَم يعمل بطريقتين في النص الحالي تتقدم الروح نحو الأعالي كما رأينا. وفي نفس الوقت تنصح النفوس التي لم تصل بعد إلى نفس المستوى إلى طريق الكمال، وتستخدم القسَم ليس لكي تؤكد لهم التقدم الذي وصلت إليه، ولكن تقودهم من خلال القسم إلى حياة الفضيلة. وتأمرهم أن يحفظوا حبهم متيقظًا وساهرًا إلى أن يتحقق إرادته الصالحة، أي إلى أن يخلص الجميع ويدركون الحق (أنظر 1 تي 2: 4).

إن قَسَم إبراهيم كان على فخذه (تك 24: 2، 9)، وحدث بواسطة “مقدرة وقوة الحقل” لذلك يقول النص: “أُحلفكن يا بنات أورشليم بالظباء وبأيائل الحقول ألاّ تيْقظن ولا تُنبهن الحبيب حتى يشاء” [ع7]. ثم معنى كلمة “قوى” و “مقدرة”، وهل يختلف معنى كل منها عن الآخر أم لها نفس المعنى. ثم يتلو ذلك أن نبحث عن معنى إثارة وإيقاظ الحب. لقد سبق تفسير العبارة “حتى يشاء”.

يتضح أن السيد يعني بكلمة “حقل” العالم (مت 13: 38).

سينتهي شكل هذا العالم لأنه بطبيعته غير ثابت. وهذا واضح في سفر الجامعة الذي يعلن أن مرئي أو متحرك باطل (جا 1: 2). ما هي إذن قوة هذا “الحقل” العالم؟ ما هي القوة التي لا تسمح بالفكر وتمتعه بواسطة القَسَم على بنات أورشليم لينقُضْنه؟ إذا نظرنا إلى الحقيقة الظاهرة لهذه القوة، فإن الجامعة ترفض مثل هذا الفرض. (جا 1: 2)، يُسمي “باطل” كل شيء نراه، ويعيش في الواقع المرئي. الباطل ليس له مادة، وما ليس به مادة ليست له قوة. وقد نحصل على إشارة عن معنى النص من استعمال صيغة الجمع لكلمة قوة. نجد توضيحًا للكلمات من هذا النوع في الكتابات المقدسة، فعندما تستعمل كلمة قوة في صيغة المفرد فإنها تعني قوة الله بينما حينما تُستعمل في صيغة الجمع فإنها تعني قوة الملائكة. فمثلاً “المسيح” قوة وحكمة الله (1 كو 1: 24). يوضح هنا استخدام كلمة قوة بصيغة المفرد على أُلوهية السيد المسيح. وعلى الجانب الآخر نجد في (مز 103: 21) “باركوا الله في جميع قواته”، وهنا توضح صيغة الجمع الطبيعة الروحية للملائكة. إن التعبير “المقدرة” التي تُستخدم مع كلمة قوة تركز أكثر على المعنى. ويعمل الوحي الألهى في بعض الأحيان على جعل المعنى أكثر تأكيدًا باستخدام كلمات لها نفس المعنى. خذ كمثال التعبير الآتي: “الرب صخرتي وحصني ومنقذي. إلهي صخرتي به اَحتمي. تُرس وقرن خلاصي وملجأي. أدعو الرب الحميد فأتخلص من أعدائي” (مز 18: 2-3). فكل كلمة تعبر عن نفس المعنى، ولكن اسستعمال الكلمتين معًا يُعطي تأكيدًا للعبادة. لذلك فاستخدام صيغة الجمع لكلمة قُوى وكلمة مقدرة بنفس المعنى تشير إلى طبيعة الملائكة. لذلك فالقَسَم يُلزم النفوس التي لا تزال في مرحلة التلمذة لكي يؤكد لهم ما قد درسوه. إنهم سوف لا يُقسمون بالدنيا الزائلة، ولكن بالطبيعة الملائكية الدائمة باستمرار. إنهم يُشجعون لكي يكونوا متنبهين للملائكة الذين يؤكدون الحياة الثابتة والمستمرة للفضيلة.

لقد وُعدنا بحياة مشابهة لحياة الملائكة بعد القيامة من الأموات، والذي وعدنا بذلك هو صادق. لذلك يجب أن تكون الحياة في هذا العالم مرحلة للترتيب للحياة التي نترقبها. وبالرغم من أننا نعيش في الجسد خلال مرورنا في الحقل هذا العالم، يجب أن لا نعيش حسب الجسد ولا نتبع أساليب الحياة في هذا العالم، بل نفكر بعمق في الحياة الآتية أثناء وجودنا في هذه الحياة. لذلك تُثبِّت العروس النفوس التي تدربها من خلال القسم، أثناء حياتهم في “حقل” هذا العالم. وسوف يُوجِّهون نظرهم إلى “القُوى” ويقلِّدون النقاء الملائكي بواسطة اِنفصالهم عن الجسديات. وهكذا ينمو الحب ويتجدد، أي أنه يرتفع ويزدهر باستمرار إلى نمو عظيم. لتكن مشيئة الله العظيمة “كما في السماء كذلك على الأرض” (مت 6: 10)، عندما نأخذ طبيعة الملائكة. هذا هو ما نفهمه من “أحلفكن يا بنات أورشليم بالظباء وبأيايل الحقول ألاّ تيقظن ولا تنبهن الحبيب حتى يشاء”. وإذا وجدنا نصًا آخر يقرِّبنا من الحق الذي نبحث عنه، ليتنا نستقبله كنعمة وبركة ونشكر الله الذي يكشف لنا بواسطة الروح القدس الأسرار المخبَّأة في المسيح يسوع ربنا له المجد والعزة إلى الأبد آمين.

 

يتبع…..

القديس غريغوريوسالنيصي
www.orthodoxonline.org

 

 

 

 

 

 

الإنسان المتواضع قد قطع نفسه عن الكبرياء، ومن يمدح نفسه باطلاً قد نبذ نفسه عن التواضع

سفر نشيد الأنشاد