...

لتأصل في الله: سر الذبيحة

 

 

عناصر الوظيفة الكهنوتية

 

قد يكون التحديد الأكثر عمقاً للمسيحية التحديد التالي: المسيحية قبل كل شيء هي كهنوت وليتورجيا وعباد. إنها عمل المسيح الجوهري والأزلي الذي يتولى به و”يتخذ” كل انتظار البشرية ورجائها، أي الدخول في وحدة الله. “دم المسيح (…) يطهر ضمائركم (…) لتعبدوا الله الحي” (عب9: 14). إن المسيح يعرفنا ونحن نعرفه بصورة فضلى في الليتورجيا وكليتورجيا، على ذلك الصعيد الأسمى حيث قدم “نفسه” ضحية “بلا عيب”، “بروح أزلي” ليدخلنا معه في اتحاد الحب مع أبيه. في إطار هذا العمل تقوم عناصر الوظيفة المسيحية الكهنوتية. ولكن فلننظر أولاً كيف أن المسيح هو الكاهن الأوحد ولماذا.

1-             سر الذبيحة: عناصر الوظيفة الكهنوتية

آ- الكهنوت قبل الشريعة

إننا نجد الكهنوت في كافة الأديان المعروفة منذ بدء التاريخ بمنزلة وظيفة عامة في المجتمع وكأنه يعبر عن غريزة غامضة في الإنسان تقول بأن البشرية هي في حالة غربة عن الله لا تستطيع التقرب اليه مباشرة دون وسيط. فتحتاج بالتالي إلى اختيار بعض منها، بوصفهم أناساً مختصين، للتوسط لدى الإله الرهيب. وكانت “الألوهة” آنذاك غير واضحة المعالم تحدد فقط في علم تاريخ الأديان “بالقدسية” أي بكونها حقيقة “قدسية” رهيبة وجذابة في آن واحد، يحتاج الإنسان إليها احتياجاً مطلقاً ليعيش ولكنها ظالمة وكثيرة المطالب. فكان دور الوظيفة الكهنوتية استعطافها واسترضاءها. وكان الكاهن بمثابة من يستطيع ان يستعطف الإله من جهة البشر ويجعل البشر يفيدون منه، وكأنه “يعطي” الله للناس. إن كلمة كهنوت بالفرنسية Sacerdoce مشتقة من أصل لاتيني Sacrum donans معناه “الذي يعطي المقدّس”، وذلك أساساً في ذبيحة يقدمها لله لاسترضائه، أي في نوع من مبادلة بين الله والناس. وظيفة الكاهن هي بالتالي وظيفة تقديم ذبيحة لأجل التوسط لدى الله، اذ يشعر الناس أنهم بحاجة إلى إعطاء شيء لله مقابل عطاياه. ولفظة ذبيحة “Sacrum facere: Sacrificium” تحمل معنى الفصل والتكريس والتقديس. المرء ينفصل عن شيء ما ويقدمه ذبيحة، يتخلى عنه ليكرسه ويجعله مقدساً. بل ينفصل عن شيء ثمين وذي اعتبار. ولما كان لم يكن هناك أثمن من الحياة فكانت مأساة البشرية الضالة آنذاك اعتقادها بأنها ترضي الله بذبحها للإنسان، سواء كان الشخص المذبوح من الأعداء أو من العبيد أو حتى من الأخصاء والأقارب. وهذا لعمري إنكار لله وللإنسان معاً وهو الحد الأقصى للضلالة. ولذلك بانت المسيحية عند ظهورها كأنها تلحد. في حين أن الذبيحة الوثنية الآنفة الذكر كانت قد حولت الإنسان إلى مجرد شيء وذبحت لإله هو أيضاً بمثابة شيء لا حياة له.. إلا أن الكهنوت الكوني هذا يحمل مثل غريزة لا تخلو من معنى وهو أننا لكي نقترب إلى الله لا بد أن نموت، لكي نقتبل حياة الله لا بد أن نبذل حياتنا.

وعلى أساس مفهوم الذبيحة الوثنية كانت قد تألفت “طبقة” كهنوتية في البلاد المجاورة للشعب المختار (مصر، سوريا، بابل وأشور، بالإضافة إلى الهند والصين واليونان وروما). وكان الكهنة أفراد هذه الطبقة خداماً للطقوس وحراساً للتقاليد الدينية وعرافين بمثابة لسان حال الآلهة. ثم جمعت هذه الأديان بين الوظيفة الكهنوتية والوظيفة الملكية في شخص واحد هو كاهن وملك في آن واحد، وهو تطور مهم جداً في التاريخ إذ أخضع الوظيفة الدينية للسياسة ووسم الأوضاع الاجتماعية بطابع القدسية. وهذا ما يساعدنا على فهم موقف الشهداء المسيحيين عند رفضهم الإذعان لأوامر قيصر الدينية. إذ لم يكن قيصر ملكاً فقط يمثل الدولة بل كان يمثل الإله أيضاً. كان الكاهن العظيم لله وبالتالي كان على المسيحيين أن يعبدوا قيصر دينياً. فكان رفضهم لأوامره تحطيماً للالتباس بين الروحي والزمني، بين الاجتماعي والديني، بين السياسي والكهنوتي. وقد حققوا ذلك بإهراق دمائهم، فحرروا الإنسان. لم يكن الإنسان قد تجرأ وأقدم على مثل هذا التغيير قبلهم.. فجاءت المسيحية وقالت: قدوس واحد هو الله. وإن الله ليس أسيراً لأي وضع أو شكل اجتماعي أو سياسي. فالإنسان بعد تمجيده للإله الحقيقي يبقى حراً في كل مجالات التفسير والإبداع. إن فينا كلنا عقلية قديمة تجعلنا نخلط بين ما هو أساسي جوهري وما هو ثانوي نسبي (كالوجه الشعري والتفاصيل والشكل). وهذه بالنتيجة حماقة نقضي بها فينا على الله الحيّ.

ب- الكهنوت في العهد القديم

إن فهم الكهنوت في العهد القديم مهم جداً إذ أن كهنوت المسيح إنما بُنيّ وأعلن على أساسه وانطلاقاً منه. كان الكهنوت في العهد القديم نتيجة وعلامة للعهد الذي قام بين الله وشعبه والذي كان ميثاقاً ورباطاً فريداً ذا اتجاهٍ واحدٍ لا ينحل لأنه يقيد فقط الله الأمين. فلما كانت البشرية في حالة انحطاط وضلال عمد الله إلى أن يعلن ذاته للناس بواسطة شعب اختاره هو، ثم عمل على تهذيبه شيئاً فشيئاً على مدى الأجيال حتى يحين وقت مجيئه. وقد عقد الله هذا الميثاق مع إنسان هو أبونا ابراهيم فطلب إليه أن يترك كل شيء، أن يتخلى عن مفاهيمه الدينية والكهنوتية وأن يتعلق بوعد الله فقط، بذلك الوعد غير المعقول في الظاهر. وكان عهداً مبنياً على أساس جديد غير مادي بل على مبادلة روحية، على بعد جديد هو ذلك الإيمان والوثوق بوعد إلهي غير ذي وجه منظور، بوعد يفوق الإنسان ويتجاوزه ولكن على الإنسان أن يتعلق ويتمسك به. وتباعاً لهذا التغيير في المفهوم الديني كان على طبيعة الكهنوت أيضاً أن تتغير وتغتني. ولذا نراها تتصف بالمرحلتين التاليتين:

المرحلة الأولى: وهي الذبيحة التي تمّت ولم تتمّ في آن واحد أعني ذبيحة ابراهيم عندما قرّب ابنه اسحق فأوقفه الله عن ذبحه. “ابنه وحيده” الذي ناله من الله بناءً على وعد منه تعالى، وكعلامة من الله ولأمانته، الذي هو ملك الله أكثر مما هو ملك ابراهيم. طلب إليه الله أن يذبحه. لا شك أن هذا كان أمراً أليماً جداً، ولكنه إذ كان أمراً اعتيادياً في ذلك الزمان وبحسب مفاهيم أديان ذلك الزمان، أذعن ابراهيم له ولم يتمرد. إنما كان عليه أن يدرك ويختبر ألماً جديداً. فعند قبوله الانفصال عن ابنه الوحيد لم يكن يفهم أن اتباع الله يتطلب بالضرورة ذبيحة روحية. وقد منعه الله أن يذبح ابنه مادياً لكيما يصل به إلى المفرق الفاصل بين زمان وزمان إذ أفهمه بالأحرى وجوب الذبيحة بالروح. وذلك لأن كل شيء إنما هو من الله ولا بد من التخلي عن أثمن شيء لدينا في سبيل الله وحينذاك يرده لنا الله لنا مضاعفاً: فاسحق قد ولد مرتين، الولادة الأولى الطبيعية ثم الولادة الثانية التي كانت مكافأة له على طاعته ومحبته. هذا وكانت ذبيحة اسحق رسماً للذبيحة الوحيدة، ذبيحة ابن الله الوحيد، الابن الحقيقي “الذات” الكلية، المطيع حتى الموت.

المرحلة الثانية: وهي خروج اسرائيل من مصر وتحرره من العبودية.إن هذه المرحلة أيضاً قائمة على ذبيحة كالمرحلة الأولى، إلا أنها ذات معنى خاص آخر. فالحمل الفصحي الذي ذبحه الشعب المختار ليلة خروجه من مصر، أرض العبودية، كان علامة لعلاقة خاصة بين الله وشعبه. فدم الحمل الذي وضع على أبواب بيوت بني إسرائيل هو الذي يدل على شعب الله دون غيرهم عند مرور الملاك المهلك وبالتالي يحميهم ويحفظهم. ومن جهة ثانية إنها ذبيحة فاعلة تؤدي وظيفة الذبيحة الأساسية، أي أنها ترضي الإله وتحفظ الإنسان. إن لخلاص شعب الله من العبودية طابعاً مأساوياً إذ يدور حوله ويتوقف عليه سر خلاص كل البشرية. والوقت الأساسي فيه هو بالضبط حادثة الحمل الفصحي. فإن تلطيخ قائمتي الأبواب وعتبتها العليا بدم الحمل يحمل معنى مزدوجاً هو أولاً الرمز للصليب (شكل الصليب على الأبواب) ولدم الرب يسوع (حمل الله المذبوح لخلاص العالم)، باعتبار الدم أداة للنداء. وهو ثانياً معنى الحماية وحفظ الحياة من الإبادة والهلاك. وهناك أيضاً معنى ثالث مشار إليه منذ الآن في أكل شعب الله للحمل الفصحي ليلة خروجهم من مصر وهو معنى الوليمة المقدسة وليمة العشاء السري وتناول جسد الرب. إن إسرائيل كله قائم مؤلف ومجتمع حول تلك الذبيحة وتلك المناولة. وقد أمروا أن يأكلوا الحمل الفصحي وهم واقفون إذ أنه على إسرائيل أن “يتّبع” إلهه. إنها علامة تجديد العهد القائم بين الله وشعبه، العلامة بأن شعب إسرائيل لا “يقيم” في أرض إسرائيل بل هو بمثابة مسافر في هذا العالم. هو في الأساس في وضع مسافر. يتناول الطعام وهو واقف مستعداً للسفر منسلخاً عن العالم. إن إسرائيل في هذه الحادثة يثبت ويعمق عهده مع الله. إن طعامه عينه ليس كطعام المصريين.

وفي الواقع إن الخروج من مصر يؤلف في تاريخ إسرائيل مرحلة عهد سيناء الذي يجدد ميثاق إسرائيل مع الله. إنه ذلك العهد المجدد الذي يشترك فيه جميع الشعب ويقتبل الموعد. كان الوعد الأول كان قد أعطي لرجل فرد هو ابراهيم، أما الآن، حول حبل سيناء، فجميع الشعب صار مقدّساً. وهذا رسمٌ للكنيسة. إنها كنيسة العهد القديم. ونلاحظ هنا وضعاً فريداً، إذ أن الله يخاطب جماعة الشعب كلها كأنها شخص واحد: “اسمع يا إسرائيل”. إن شعب إسرائيل واحد أمام الله مع أنهم كثيرون. ذلك لأن ذبيحة الحمل تضفي على الأمة هذه الوحدة.

إن عهد سيناء الذي أقبل عليه إسرائيل بعد خروجه من أرض العبودية هو عهد دم. لقد أخذ موسى نصف دم الثيران المذبوحة للرب ورشه على المذبح، ثم رش النصف الثاني على الشعب، وذلك بعد أن “قرأ كتاب العهد في مسامعهم” فقالوا طوعاً باختيارهم: “كل ما تكلم به الرب نفعل ونسمع له” (خروج24: 3-8). وبعهد الدم هذا أصبح كل إسرائيل شعباً كهنوتياً أي مكرساً ومقدّساً، “وأنتم تكونون لي مملكة كهنة وأمة مقدّسة” (خروج19: 6). إنه كهنوت الشعب الملوكي، مملكة الكهنة التي ليست هي مملكة أرضية. كان إسرائيل شعباً بدوياً رحلاً ولم يعِدَهم الله في عهد الدم هذا بمملكةٍ أرضيةٍ أو بوطن أرضي، بل انتزعهم بالعكس من كل أرض وكل مملكة أرضية. لقد جعلهم “مملكة كهنة” أي رجالاً هم ملك الله، مكرسين له لكي يؤدوا العبادة الحقيقية للإله الحقيقي، وحدهم بين سائر الشعوب. وعى أنه شعب مؤتمن على حمل كلام الله وتأمين عبادته. ونظراً لحرص الله على تأمين تأدية هذه العبادة واستمرار قيام هذه الوظيفة الكهنوتية اختار له عشيرة خاصة من بين عشائر إسرائيل لتختص بخدمة العبادة وهم اللاويون الذين كان أول كاهن فيهم هارون أخو موسى. وبهذا تألفت في إسرائيل “رتبة” كهنوتية وهيرارخية كهنوتية يرأسها الكاهن العظيم (أو رئيس الكهنة) يليه كهنة لتقديم الذبيحة ثم لاويون للخدمة العامة “ويقابل هذا الترتيب في المسيحية: الأسقف ثم الكهنة ثم الشمامسة”.

وكانت الوظيفة الكهنوتية تتضمن أولاً إقامة الذبيحة، وهذه لم تعد ذبيحة بشرية كما في السابق بل أصبحت ذبيحة بهائم أي ذبيحة “طقسية” يقربها الكاهن عن كل الشعب وتحرق بكاملها بالنار holo–causte، فهي “محرقة”، تتميز إذن بالدم والنار ويتقبلها الله بكاملها محولاً إياها. ثم إلى جانب المحرقة كانت الذبيحة التي لا تحرق بل توزع في حصص معينة للهيكل وليهوه وللكهنة، وتؤلف نوعاً من وليمة مقدّسة. ومن ناحية ثانية كانت وظيفة الكاهن تتضمن خدمة الكلمة أي تفسير الشريعة وذلك عن طريق نسخ التوراة وحفظها من الضياع وعن طريق تدريسها في المدارس الربانية مع شرحها وتأويلها. وكانت تخدم الكلمة بصورة خاصة أثناء أعياد إسرائيل المقدّسة فتتلى فيها أسفار التوراة على الشعب بأجمعه فيستمع إلى عجائب الله ومراحمه.

ثم هناك وجه ثالث للوظيفة الكهنوتية في العهد القديم هو التوسط من أجل الشعب، فكان رئيس الكهنة يدخل مرة في السنة إلى قدس الأقداس “داخل الحجاب”، إلى ألفة حضرة الله الحميمة التي لا يستطيع الشعب أن يقربها فيكفِّر عنه. إلا أنه لم يكن بوسع رئيس الكهنة الدخول قدس الأقداس متى شاء بل مرة واحدة في السنة فقط، وهذه دلالة على تسامي الله وعلى السر الرهيب الذي يحيط به بخلاف آلهة الأمم التي كان يمكن الاقتراب إليها في أي وقت. إن الإله الذي اختار إسرائيل ليتم قصده فيه هو بعيد عن متناول البشر إن رئيس الكهنة لا يدخل إليه كيفما اتفق بل “يلبس قميص كتان مقدّساً وتكون سراويل كتان على جسده، ويتمنطق بمنطقة كتان ويتعمم بعمامة كتان، إنها ثياب مقدّسة فيرحض جسده بالماء ويلبسها” (لاويين 16: 4). وكان يكفِّر عن نفسه وعن الشعب “لاويين 16: 17”. ويستنتج من ذلك أن رئيس الكهنة لم يكن بعد كاهناً حقيقياً يستطيع الدخول كل حين إلى حضرة الله الداخلية بل يحتاج إلى تطهير بوصفه غير كامل.

هذا وقد تعرّصت الوظيفة الكهنوتية في تاريخ إسرائيل لالتباسات مختلفة نجمت عن الدسائس والفساد والأوضاع السياسية… إن إسرائيل بخروجه من مصر انتقل من العبودية إلى حرية خدمة الله وعبادته. ولكنه كان يعود ويسقط في “عبوديات” مختلفة وذلك من جراء قيام ملوك غرباء يسودون عليه أو ظروف سياسية ضاغطة وغيرها… ولذلك عمد الله في سبيل إصلاح الكهنوت إلى إرسال الأنبياء. فقام الأنبياء بنقد الكهنوت الراهن لنقائصه وعيوبه ولفتوا نظر الشعب إلى الكهنوت الكامل العتيد أن يأتي. ورسموا وجه الكاهن الحقيقي الكامل، الخادم وحامل الأوجاع الذي يتنبأ عنه أشعياء (أش 53). ونبهوا إلى أن الطقوس والذبائح التي كانت تقام آنذاك إنما هي رموز لذبائح روحية. وبهذا نبه الأنبياء إلى بعد آخر للكهنوت هو العبادة الروحية التي تؤديها قلوب “لحمية” وحذروا من خطر الاكتفاء بإقامة الطقوس الخارجية وحسب وكأنها سحر. ليست الطقوس سحراً بل لا بد بالضرورة من الموقف الداخلي لإتمامها. وبفعل تنبيه الأنبياء هذا وتعليمهم اتجه إسرائيل إلى انتظار ماسيا، إلى انتظار ذلك العهد الذهبي حيث لن يعود الشعب بحاجة إلى تعليم، بل تكون الشريعة مكتوبة قلوبهم، في قلوب تستطيع أن تقدم ذبيحة الإيمان على غرار ابراهيم في الإصحاح 22 من سفر التكوين الذي يبقى النص الأساسي للكهنوت الحقيقي. غير أن الالتباس قد استمر أيضاً في الانتظار الماسيوي لأن الشعب أخذ يميل إلى انتظار ماسيا أرضي يكون على الأكثر ملكاً أرضياً. وقد كشفت حفريات خرائب قمران في فلسطين عن أن بعضاً من بني إسرائيل قد تخلوا في القرن الأول قبل المسيح عن الكهنوت الفاسد القائم آنذاك وتنحوا ليؤلفوا جماعة خاصة في سبيل انتظار ماسيا لا يكون أرضياً بقدر ما يكون ماسيا كهنوتياً، فكانت جماعة قمران بمنزلة همزة وصل وانتقال بين العهد القديم برجائه السليم الصحيح والعهد الجديد.

ج-الكهنوت في العهد الجديد

أولاً: وظيفة المسيح الكهنوتية-المسيح الكاهن

إن العهد الجديد بأكمله مبني ومنطوِ على إعلان فريد، كامل ونهائي، وهو أن ذبيحة يسوع على الصليب قد أبطلت كافة الذبائح في العالم لأنه صالحنا بها مع الآب وأدخلنا إلى عمق الاتحاد بالله. وقد تمت تهيئة ذلك خلال العهد القديم نفسه إذ أن إسرائيل كله مجموع وممثل في المسيح والمسيح هو إسرائيل الحقيقي الوحيد. كان الله قد اختار إسرائيل ليطيعه ويتمم مشيئته فعصى وتمرد، ولم يكن في إسرائيل من يطيع الله حتى الموت، موت الصليب، سوى واحد هو الرب يسوع المسيح. قبل المسيح كانت كل ذبيحة من ذبائح البشر هزيلة، “دون الله”. إذ أن أياً من الكائنات المقربة كذبيحة كان صائراً إلى الموت في الأساس وبصورة محتومة وليس بفعل الذبيحة. ولكن المسيح وحده، كإله متجسد ومنزه عن الخطيئة، كان غريباً عن الولادة الطبيعة التي يقترن فيها الموت بالحياة وبالتالي لم يكن مقضياً عليه أن يموت فضحى بنفسه وقرّب ذاته ذبيحة. إن الذبائح والذبيحة، المقرب “بكسر الراء” والمقرب “بفتح الراء”، هنا واحد. الله هو الذي يذبح الآن ويذبح نفسه “كإنسان”. وذبيحته هذه كاملة المفعول لأن سلسلة الموت قد حُطِّمت للمرة الأولى في تاريخ العالم. إن ذبيحة الصليب تُبطل وتُلغي كل الذبائح الأخرى لأنها إنما تكشف لنا الألفة القصوى التي بيننا وبين الله، سر الأعماق الأخير الذي في الله، سر المحبة. إن ذبيحة المسيح لأجلنا ذبيحة محبة، لأن الله محبة. وقد أتى المسيح ليتمم مشيئة أبيه بأن لا يهلك أحد. وتحقيقاً لهذه المشيئة كان من الضروري أن “يزدوج” الله بصورة ما فيكون مقرِّباً للذبيحة ومقرَّباً كذبيحة في آن. لذلك حول هذه الذبيحة قد أُعلن لنا الثالوث، لجة المحبة، حيث الله واحد ولكنه غير وحيد. نحن في المسيحية فقط نفهم هذا، إذ حول الصليب فقط يكشف هذا السر الفائق الإدراك والوصف.

في المسيح إذن يبطل كل كهنوت سابق إذ يجد كماله في التجسد الإلهي وفي ذبيحة الصليب التي قرَّب بها المسيح الإله ذاته ذبيحة تفوق طهارتها العالم، لأن طهارة الخالق أزلية وليست من هذا العالم. إن المسيح بالتالي حطم بموته الموت، حطم سلسلة الموت المحتومة. فالجحيم لم يضبطه إذ لم يكن فيه شيء مما يستدعي الموت “أعني الأهواء”. وكل الذين يشاركون ذبيحته يشاركون حياته وقيامته، نوره وفرحه، يتغلبون على الموت. لقد مات من أجلنا ومن أجل كثيرين. أهرق دمه لا كدم ثور أو عجل بل كدم إله، كدم متدفق من أجل الخليقة كلها. إنه “الحمل الفصحي” الحقيقي المذبوح لخلاص العالم أجمع. لقد ذُبح على الصليب قبل عيد الفصح اليهودي أبان ذبح اليهود للحمل، وعلى غرار ذلك “لم يكسر له عظم”. بل فيه يجمع كل من كهنوت ابراهيم “الذي هو كهنوت إيمان” وكهنوت آدم “أي كهنوت الديانات القديمة الكونية”. إن كتاب ميلاد يسوع المسيح في إنجيل متى الموجه لليهود يبدأ من ابراهيم، وفي إنجيل لوقا الموجه للأمم يرجع حتى آدم. وذلك لأن كلا النسبين يلتقيان ويقترنان في المسيح. ويستولي المسيح بذبيحته على السيادة والملك لأن العدو الأخير قد غُلب (بضم العين) وهو الموت. فقد أخضع له كل شيء نتيجة ذبيحته. “ذبيحة وقرباناً لم تشأ لكنك هيأت لي جسداً….وحينئذ قلت ها أنا ذا آتٍ فإنه مكتوبٌ عني في صحائف الكتاب” (مزمور39: 6-7)… فجوهر كهنوت الله إذن هو بذل الذات كلياً (هيأت لي جسداً لا قرباناً) بدافع المحبة (ها أنا ذا آتٍ) وكأن الرب متعطش لتلك الذبيحة. إن الرب يسوع المسيح “ليتورجي” بالطبيعة إذا جاز القول، معد للذبح منذ البدء. فالخليقة وجدت من أجل التجسد والتجسد كان من أجل الصليب، والصليب من أجل خلاص العالم… إنه الحمل المذبوح “قبل كون العالم”. وعند مجيئه إلى العالم جاء ليلقي “ناراً على الأرض” وكيف ينحصر حتى تكتمل (لو12: 50). إنه لا يطيق صبراً حتى يدخلنا الخليقة الجديدة. في الخليقة الأولى كانت الذبيحة تحمل معاني الألم والضيق. أما الآن فقد تغيرت إذ أنها تحمل معاني الفرح والمحبة وروح الخدمة. ولذا يبني المسيح عهده الجديد حول ذبيحة يدعوها إفخارستيا أي شكر، حمد لله. إنه يقرب الذبيحة وهو يشكر ويبارك… وبالتالي نحن علينا أن نبث الشكر في كل شيء في الخليقة الجديدة eucharistifier، لأن كل شيء هو من الله وقد تحوّل كل شيء وصار جديداً في دم المسيح وجسده، في سر “المحبة المصلوبة”. إن الروح قد خرج من جسد المسيح المصلوب وأُعطيّ لنا: لقد “أسلم الروح” يقول الكتاب. وفي تلك اللحظة تم العهد الجديد إلى الأبد.

إننا نتبين ذلك أولاً في سفرين “كنسيين” هما أعمال الرسل والرؤيا يتميزان بعلاقة عميقة بينهما. فسفر الأعمال يروي قصة امتداد الكنيسة بعد صعود الرب، ويبدأها لوقا كاتب السفر بالتكلم عن صعود الرب والعنصرة: عن المسيح المنسكب، عن الكنيسة كعنصرة دائمة. أما سفر الرؤيا فيعرض الوجه الداخلي لهذه الكنيسة كما هو في السماء، إذ نراها مجتمعة حول “الحمل القائم وكأنه مذبوح” (رؤ5: 6)، مذبوح ولكنه أسد غالب في الوقت نفسه (رؤ 5: 5)، “خروف له سبعة قرون وسبع أعين هي سبعة أرواح الله المرسلة إلى كل الأرض” (رؤ5: 6). فالحمل المذبوح إذن هو الذي يغلب.

والرسالة إلى العبرانيين من جهتها ترينا المسيح رئيس كهنة إلى الأبد (عب5: 5 و 6) يعيش في أيام جسده كل هذا السر الكهنوتي بصراخ ودموع (عب5: 7) ويدخل وراء الحجاب إلى قدس الأقداس السماوي كوسيط العهد الجديد، يجد فداءً أبدياً (عب9: 11–15) ما دام يعود إلى حضن أبيه بالجسد، إلهاً وإنساناً معاً، حاملاً طبيعتنا معه… وهذا يبلغ بنا إلى النقطة التالية:

ثانياً: كهنوت المسيح في الكنيسة

لكي نفهم دور المسيح الكاهن في الكنيسة ينبغي أولاً أن نرفع نظرنا إلى السماء حيث دخل المسيح بعد إتمام رسالته على الأرض. إن ذلك المسيح الذي عاش بين الناس قد صعد إلى السماء “ليس بالمعنى المادي للكلمة طبعاً”. أي أنه خرج من الوضع البشري الأرضي، خرج من الزمان والمكان اللذين كان قد نزل إليهما، وقد اصطحب الآن في صعوده وجلوسه عن يمين الآب إنسانيته الممجدة المليئة بألوهية الله. لقد دخل إلى الله بعد أن غلب الموت… وفي هذا كله اشتركنا معه. أما هذا الاشتراك فيتم في الكنيسة وبواسطة الكنيسة: لقد رأينا أعلاه أن المسيح هو كاهننا الأوحد وأن ذبيحته على الصليب، بين سائر الذبائح، هي الذبيحة الوحيدة المرضية لله والفعالة حقاً. غير أن المسيح هو المذبح أيضاً بالإضافة إلى الذبيحة. نحن في الكنيسة نقدم ذبيحتنا عليه. وذلك بناءً على كلامه ووصيته. وبسبب استمرار قيام سرّ الليتورجيا في السماء حول المسيح نفسه المصلوب والمذبوح على الدوام لخلاص البشر فليس هناك سوى مذبح واحد في العالم هو المسيح. كل المذابح المسيحية في الدنيا هي في الحقيقة مذبح واحد، هو المذبح السماوي، هو المسيح. والمذابح الأرضية تشترك بصورة سرية بسر المسيح الجاري في السماء. وليس في الحقيقة سوى كاهن واحد هو المسيح، لأنه يقرب أمام الآب من دون انقطاع الإفخارستيا الوحيدة التي هي هو. وهكذا فإننا بالليتورجيا السماوية فقط نفهم ليتورجيا الكنيسة على الأرض.

أما اشتراك كل المذابح المتعددة في المذبح الوحيد فيتم بواسطة الكهنوت الكنسي. لقد وعدنا الرب بأنه لا يتركنا. فترك لنا نفسه. إن سر كنيسته هو بالضبط الاتحاد الذي لا ينفصم بين المسيح السماوي ووجودنا الأرضي. وقد حقق الرب هذا الأمر بصورة منظورة كليتورجيا. “خذوا كلوا هذا هو جسدي الذي للعهد الجديد… اصنعوا هذا لذكري”. فكان عهد جديد وشعب جديد، شعب كهنوتي أيضاً وأكثر جدارة من شعب العهد القديم. وذلك لأنه على كل تلميذ أن يحمل صليبه (متى16: 24) وأن يشرب الكأس التي شربها المسيح (متى20: 22) وأن يحمل رسالته مبشراً بملكوت الله (لو9: 60) و(لو10: 1-16) وأن يشهد له حتى الموت (متى10: 17-42). كل الناس أبناء لله وملوك مسحاء. إنه يجعلنا كلنا كهنة معه لأن مسحة الروح المنسكبة على الرأس إنما تبلغ إلى كل أعضاء الجسد. كل عضو يشترك في المسحة لأنه عند انتمائه للكنيسة يدخل في الأسرار الثلاثة: المعمودية والميرون والشكر. فنصبح بتلك المسحة أمة كهنة وشعباً كهنوتياً (1 بط2: 5 و 9)؛ إن إيماننا هو حسب تعبير بولس الرسول بمثابة ذبيحة تنسكب (في 2: 17) وعطايانا “نسيم رائحة طيبة ذبيحة مقبولة”… (في4: 18) وأجسادنا وعبادتنا “ذبيحة حية مقدّسة” (رو12: 1). ذلك هو فحوى الكهنوت الملوكي الذي ينتمي إليه الشعب المؤمن.

غير أن الكنيسة هي أمة كهنة بالضبط وفقط لأن الرب قد سلّم إليها سر الشكر. فسر الشكر هو الذي “يصنع” الكنيسة كما أن الكنيسة بدورها “تصنع” سر الشكر. إن سر الشكر يصنع الكنيسة لأن سرها الأساسي، سر كيانها، هو سر حضور المسيح فيها، سر ذبيحة المحبة التي توحد الشعب. إنه السر الذي يخلق الكنيسة لأنه يجمع كل الذين يشتركون فيه ويجعلهم واحداً. والكنيسة بدورها تصنع سر الشكر لأنها هي التي تقيمه وتقرِّب القربان والذبيحة وليس أي كان وفي أي مكان. وهي تقيمه طاعة لأمر الرب الذي اختار له رسلاً وأوصاهم وخلفاءهم من بعدهم أن يقيموه. وبالتالي فإن هناك، إلى جانب الكهنوت الملوكي العام المشار إليه أعلاه، كهنوتاً خاصاً لإقامة سر الشكر، كهنوتاً “سرياً” sacramental. وذلك لأننا جميعاً سائرون نحو المقدّس السماوي، وسر الشكر يرافقنا في مسيرتنا هذه. الكنيسة كنيسة سائرة وسر الشكر هو الذي يشير إلى الطريق: “فأنتم كلما أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس تخبرون بموت الرب إلى أن يجيء” (1 كو11: 26). إن سر الشكر “يخبر بمجيء الرب” والكهنوت الذي يقيمه هو بالتالي كهنوت “سري” sacramental أي أنه “يحضر” المسيح بصورة سرية.

إن الكنيسة المسيحية مؤسسة على رسل المسيح وهي تؤلف من بعدهم جسد المسيح أي جماعة الذين يحيون حياتها بواسطة الأسرار والمناولة المقدّسة التي سلمها إليهم السيد المسيح. لقد اختار السيد اثني عشر تلميذاً سلم إليهم تعليمه وسلطانه ووصيته بإقامة الأسرار من أجل مد حضوره وذبيحته في العالم. إننا نرى أساس الكنيسة ممثلاً في سفر الرؤيا باثني عشر حجراً هم الرسل الاثنا عشر. فالكنيسة “رسولية” تحافظ على تعليم الرسل وعلى خلافتهم غير المنقطعة حتى الآن وتمدها بواسطة وضع الأيادي. وقد ورد في الرسالة إلى العبرانيين وصف لكنيسة العهد الجديد بإزاء كنيسة العهد القديم يقول: “لأنكم لم تأتوا إلى جبل ملموس مضطرم بالنار وإلى ضباب وظلام وزوبعة وهتاف بوق… حتى قال موسى أنا مرتعب ومرتعد، بل قد أتيتم إلى جبل صهيون وإلى مدينة الله الحي أورشليم السماوية… وإلى ربوات هم محفل ملائكة وكنيسة أبكار مكتوبين في السموات وفي الله ديّان الجميع وفي أرواح أبرار مكملين وإلى وسيط العهد الجديد يسوع وإلى دم رش يتكلم أفضل من هابيل” (عب12: 18-24)…

إلا أن كهنوت الكهنة الخاص ليس من شأنه بحدِّ ذاته أن يجعل منهم مسيحيين “أرقى” من غيرهم أو أفضل بل هو بالعكس مدعاة لمسؤولية أعظم إذ أنه وظيفة أخص لأجل خدمة أسمى. “كهنوت خدمة” فليس هناك درجتان أو فئتان في الانتماء للمسيح، بمعنى أن الكهنة لا يؤلفون طبقة خاصة ذات حقوق أو امتيازات. ولكن من جهة ثانية ينبغي الاحتراس من الضلالة الأخرى التي تزعم بأن كهنوت الكهنة إنما هو صادر وناجم عن الشعب وتفويض الشعب وحسب ولا يستمد سلطانه من المسيح. كلا بل يسوع وحده يستطيع أن يجعل الكاهن كاهناً، أن يعطي الكهنة سلطان ما يصنعه الكاهن كل يوم في الكنيسة. لا يستمد الكاهن كهنوته من سلطة بشرية وإلا فإننا نعود إلى الوراء حتى بالنسبة للعهد القديم. فالسلطان عمودي هنا وليس أفقياً، إذ لا يستطيع الشعب أن يُفوِّض أو يُوكِّل أو يُعطي سلطاناً ليس له. إن الكاهن الذي يقرِّب الذبيحة لا يمثل الحاضرين المشتركين في الذبيحة فقط بل يمثل المسيح أيضاً. لا شك إن في صلوات الليتورجيا قسطاً كبيراً يعود للشعب كالطلبات وما إليها، والكاهن في تلاوته لها هو لسان حال الشعب. ولكنه في الأعمال المتعلقة بإجراء السر وتحويل المقدَّسات إلى جسد الرب ودمه الكريمين هو يقيم أولاً “خدمة الرب”، خدمة العبادة التي يقرِّبها الرب نفسه. فالكاهن هو خادم للمسيح أولاً وممثل للمسيح بالدرجة الأولى. إنه يُكهن “في المسيح” (en Christo). وهو وحده يستطيع أن يقول: هذا هو “جسدي” (نحن نقول هذا هو “جسد الرب”). إن الذين يختارهم للكهنوت يحققون في الكنيسة استمرار الخلافة الرسولية التي إنما تمثل الأسقفية سرها: سر رسولية الكنيسة. “فحيث الأسقف هناك الكنيسة” كما يقول القديس أغناطيوس الأنطاكي. في الكنيسة مذبح واحد، وأسقف واحد، وجسد واحد، وكأس واحد… ولكن الأسقفية بالإضافة إلى تأمين استمرار الخلافة الرسولية تحفظ أيضاً تعليم الكنيسة، أي العقيدة الصحيحة التي هي شرط الملء والحياة: “فالمحبة الكبرى والفضلى تبقى الحقيقة”. وشرعة الإيمان هي أساس شرعة الصلاة وإقامة الطقوس (lex credendi lex orandi). إن العلاقة الصحيحة بين كهنوت الشعب وكهنوت الكهنة علاقة “هيرارخية” تسلسلية وهي لا تنكر الوحدة القائمة بين الفئتين. يقول القديس ديونيسيوس الأريوباغي: “المسيح في الليتورجيا هو واحد للجميع ولكن الأسقف يعطيه للكهنة والكهنة يعطونه بدورهم للشعب” إنها هيرارخية الإعلان الإلهي التدريجي.

 

 orthodox online

لتأصل في الله: سر الذبيحة