...

من كتب الأناجيل؟

من كتب الأناجيل؟

من كتب الأناجيل؟

الأناجيل الأربعة مَن كَتَبها؟ تقليدياً يُنسب الأول، كما نعرف، إلى متّى والثاني إلى مرقص والثالث إلى لوقا والرابع إلى يوحنّا. نقول “يُنسب” لأنّه لا إثبات. والرأي وارد، عند الأقدمين، أن يكتب أحدٌ وينسب ما يكتبه إلى آخرين. اعتمادنا في نسبة هذا وذاك من الأناجيل إلى فلان أو علتان مردّه لا الإثبات التاريخي العلمي بل تقليد الكنيسة. هكذا ورد في الكنيسة وهكذا نقول. طبعاً، المجال مفتوح، بشرياً وعلمياً، للنظريات التي تدعم أو تدحض. وقد تميل، شخصياً، إلى هذه النظرية أو تلك ولكن تبقى النظرية نظريَّة. ربما ترجّحها لكنْ لا حقّ لك في أن تُحلّها في موقع اليقين. إذاً تبقى في حدود التخمين. كل قول، في هذا العالم، يدحضه قول آخر! إذاً يبقى تقليد الكنيسة أثبت وأكثر أهلاً للثقة.
ماذا جرى حتى لم تأتِ الأناجيل متطابقة؟ هناك إمكانية أن تكون مصادر المعلومات متعدّدة ومتفاوتة. وهناك، أيضاً، إمكانية أن يكون بعض ما ورد في الأناجيل من الأوساط عينها ولكنْ كل إنجيلي نقله على طريقته، وفقاً لاهتماماته وباعتبار نظرته إلى الأمور. ما رآه الواحد ربما رأى الآخر ما سواه. هذا شأن الطبيعة الإنسانية. ليس البشر آلات استنساخ. الأناجيل الإزائية (متّى ومرقص ولوقا) ربما اعتمدت، في بعض موادها، على مصدر أو مصادر مشتركة، ولكنْ، واضح أن لكل ترجمة للحدث، الذي نظنّه واحداً، عند هذا وذاك، فرادتُها. مَن ترى كان عرضه الأدقّ أو مطابقاً للحدث عينه؟ سؤال لا جدوى من طرحه. ليس السؤال ماذا جرى، هنا وثمّة، بالضبط؟ هذا لا سبيل لمعرفته ولا هو شغل الكنيسة. بل السؤال: كيف وقع الحدث في نفس هذا وذاك؟ هناك، دائماً، عامل شخصي، مرآة شخصية، شيء من فكر هذا الإنجيلي أو ذاك، شيء من إحساسه، من خلفيته. إلى أي حدّ يسيء هذا إلى الحدث عينه؟ في خبرة الكنيسة هذا لا يسيء. هذا يُغني! طبعاً، النظريات يمكن أن تحلّل وتقارن وتنسب إلى هذا وذاك ميلاً في هذا الاتجاه أو ذاك. الكنيسة لم تجد في القراءة الشخصيّة للأحداث عيباً ولا شكّكت في شهادة أحد الإنجيليّين دون سواه. بالعكس نظرتها إلى الأناجيل الأربعة كانت أنّها تتكامل. والكنيسة، في كل حال، قاومت أحديّة النصّ على طريقة تاتيانوس في الدياتيسيرون، أي أن تجمع الأناجيل الأربعة في نصّ واحد. أكثر من ذلك أنّ الكنيسة تتعاطى كل كلمة وردت في الكتاب المقدّس باعتبارها موحاة من الله. بكلام القدّيس يوستينوس بوبوفيتش: “كل كلمة من الكتاب المقدّس نقطة من الحقيقة الأبديّة”. ولا كلمة ولا شخصيّة في غير محلّها. ولا كلمة يمكن أن يُقال في شأنها إنّها ليست كلمة الله. قد يخطر في البال أن في هذا الموقف ادّعاء وتصنّعاً وأن الكنيسة، حفظاً لنفسها، لمؤسستها، زعمت أنّ كل كلمة في الأناجيل مقدّسة وفوق أن تُمسّ. قد يخطر بالبال أنّ الأمر كان، بشرياً، غير ذلك، في وقت من الأوقات، ثمّ تناولت الكنيسة النصّ وأسبغت عليه صفة العصمة الإلهيّة. هذا يمكن أن يخطر في البال، لكنّه لا يعدو كونه نظريّة. لا بشرياً ولا إلهياً هذا قابل للإثبات. الكنيسة لا تقول ذلك، وهي لا تقول ذلك لأنّ معرفتها بالله وحضوره وعمله وطبيعة علاقتها بالله، وتالياً، بالأناجيل تمدّها تمدّها باليقين الداخلي، بروح الربّ، لا فقط بعمل العقل، أنّه لا مجال للشكّ ولا في كلمة من الكلمات التي وردت في الأناجيل. الكنيسة تعرف ولا تخترع نظريّة في هذا الشأن. تعرف أنّ الأناجيل ليست من عمل الناس وحسب بل من عمل الله أيضاً. الأناجيل حقيقة تجسديّة. هناك ناس تكلّموا ولكنْ مسوقين بروح الربّ. لا الأناجيل صناعة أدبيّة بشريّة نصنّفها مقدّسة لأنّها تتعاطى القدسات، ولا الأناجيل إلهيّة مُنزلة نَطق بها الناس، عن الله، نطقاً. كلا الموقفَين معيوب. هناك وحي. الناس تكلّموا، فكّروا. أحسّوا. استعملوا مفرداتهم الخاصة.
المسحة الإنسانية، في الأناجيل، كانت أمراً واقعاً. ولكنْ كانت الأمور واضحة في أذهانهم وضوح الشمس. الروح أضاءهم. كانت عليهم نعمة وكانوا على صفاء في مطالعتها بحيث انبثّ فيهم حسّ داخلي جعلهم يتيقّنون، في ذواتهم، أن الخبر هو على هذه الصورة وليس على تلك. وكذا الكلام الذي بلغهم، وأن هذه الجملة وهذا التعبير وهذه اللفظة هي الموافقة لا سواها. لا صدفة ولا عشوائية. هذا جرى في مستوى الإحساس الداخلي. بهذا المعنى الروح أوحى وعَصَم فجاءت الأناجيل على الشكل الذي جاءت عليه. هنا أيضاً قد يحسب قوم أنّ في ذلك ادّعاء. لا يصدّقون أنّ الروح يعمل في ضعف الناس! لا بأس! الناس الذين يتعاطون الأناجيل بشرياً لا تجسدياً، أي كواقع إلهي إنساني، بالمعنى الكامل للكلمة، ستبقى لهم شكوكهم ونظرياتهم. هم أحرار! ولكنْ هؤلاء لا ينفعوننا في شيء. خير لنا أن نحذرهم مهما بدوا أذكياء فهماء، لأنّ ديدنهم أن يأتوا بنا إلى الشكّ لا إلى اليقين. يشوّشون، على نحو جذّاب، ولكن، على غير طائل ولهم عند ربّهم حساب! أما نحن فنعرف أنّه إن لم يَبْنِ الربّ البيت فباطلاً يتعب البنّاؤون. الضامن هو روح الربّ لا حكمة الحكماء. إذا لم يُزِلِ الربّ الشكّ، بالإيمان فينا، ويثبّت اليقين فلا خير يُرتجى، نحن في معرض التخمينات! أما الله فحيّ وهو الضابط الكل، ولأنّ الكنيسة قائمة فيه تلقاها قائمة في اليقين الكامل. هذا أمر لا شكّ فيه عندنا!
أن يوحي روح الربّ ويعصم حتى إلى اللفظة والحرف أمرٌ خبره القدّيسون ويشهد له المؤمنون في الكنيسة. دونك هذا الخبر عيّنة. القدّيس برصنوفيوس الشيخ الغزّاوي الكبير، الذي عاش بين القرنَين الخامس والسادس، وتنيّح سنة 550 م، لنا منه رسائل جزيلة القيمة، بالمئات. في الرسالة الأولى ورد أنّ الأنبا ساريدوس، الذي كان رئيس الدير، كان صلة الوصل بين الشيخ المعتزِل والتلاميذ، ينقل الرسائل إلى الشيخ ومنه. لم يكن الأنبا ساريدوس ينسخ الكلام على الورق كما يمليه عليه الشيخ في حضوره. بل كان الشيخ ينقل له الجواب شفاهاً، ثمّ يذهب الأنبا ساريدوس ويدوّن ما سمعه من الشيخ كلمة كلمة، دونما زيادة أو نقصان، ووفقاً للترتيب الذي شاءه الشيخ للكلام. كيف كان الأنبا ساريدوس يفعل ذلك؟ ألم يكن على ضعف أو قصور؟ بلى. لكنّه كان يفعل ذلك بروح الربّ لأنّ الشيخ صلّى له صلاة خاصة ثمّ قال له (والكلام للشيخ برصنوفيوس): “اذهب، اكتب ولا تخف. حتى لو أمليتُ عليك آلاف الكلمات، فلن يسمح روح الربّ أن تكتب كلمة بزيادة أو كلمة بنقصان، حتى عن غير إرادة منك، بل يرشد يدك لتكتب بترتيب”.
هكذا الأناجيل في خبرة الكنيسة. روح الربّ كان حاضراً وفاعلاً وضابطاً لكل شيء بطريقة هو يعرفها. لا مجال للشكّ ولا في كلمة مما ورد فإنّنا يوم نتعاطى ولو كلمة واحدة، ولو شخصيّة واحدة، بروح الشكّ فإنّ الأناجيل كلّها، ولو بعد حين، سيصبح كلُّ ما ورد فيها موضع شكّ. الكتاب، إذ ذاك، نتعاطاه كمعطى بشري لا تجسّدي. إذ ذاك تسقط كلمة الله في النفوس وتموت. هذا ليس من عمل الله! هذه حكمة أرضيّة نفسانيّة شيطانيّة (يع 3: 15)!
من هنا ضرورة الحذر ممَن يُلقون ظلال الشكّ في أيّ ما ورد لا في الأناجيل وحسب بل في الكتاب المقدّس كلّه. إنّهم لا يدرون ماذا يفعلون. يتعاطون الكتاب كأنّه لعبة فكريّة بين أيديهم، والأمر أخطر!
ويل لمَن يُعثر أحد هؤلاء الصغار! كان خير له “أن يُعلَّق في عنقه حجرُ الرحى ويُغرَق في لجّة البحر… ويل لذلك الإنسان الذي به تأتي العَثْرَةُ” (مت 18: 6 – 7).
الأرشمندريت توما (بيطار)
عن نشرة نقاط على الحروف