...

لماذا معمودية الأطفال؟

هو سؤال ترافقه او تكوّنه اعتراضات عدّة تُزكي موقف بعض المحتجّين على إقامة المعمودية المبكرة الذين لم يعرفوا التراث المستقيم او لم يقبلوه. من هذه الاعتراضات: أن يسوع اعتمد في سنّ الثلاثين، وأن العهد الجديد لا يذكر معمودية الأطفال صراحة، واخيراً لا آخراً أن الصغار لا يفهمون معنى السر ومتطلباته في حياتهم.

ما يبدو أكيدا للعلماء أن مسألة معمودية الأطفال كانت مطروحة في العصر الرسولي، وأنها أثيرت بَعْدَهُ بحدة في زمن المناظرات البِلاجيوسية (القرن الخامس) التي ثبتت بسببها هذه المعمودية، غير أن أمرها لم يُطرح جانبا بشكل نهائي، وذلك أن بعض التيارات المتشيّعة أثارت هذه المسألة من جديد.

سنتناول الاعتراضات واحدة تلو الأخرى لنردّها بالإجابة عليها ولو بشكل مقتضب. نبدأ بالاول فنقول إن معمودية السيد كانت “خاصة”، ولا يمكن أن تؤخذ حجة للاعتراض على معمودية الأطفال. وذلك أن يسوع كرجل أتى بين شعب له معتقداته وشرائعه، كان لا بدّ له، وفق الشريعة التي أخضع نفسه لها (متى 3: 15؛ غلاطية 4: 4ي)، أن ينتظر بلوغ الثلاثين من عمره، وهو السن الذي فيه يحق لكل رجل يهودي -حسب الشريعة- أن يدخل المجمع ويعلّم (لوقا 4: 16-30). ولما حان الوقت الشرعي، اذاً، أتى السيد الى يوحنا المعمدان -وهو ليس محتاجا الى معمودية التوبة التي نادى بها السابق- ليشير، في بدء رسالته التبشيرية، الى انه انما جاء ل”يكمّل كل برّ”. فكانت معموديته مناسبة كشف فيها الله الآب – وبتأييد كامل للروح- عن بنوته ليسوع، فهو ابنه الحبيب ومَسَرّتُهُ الذي سيتمّم مشيئة ابيه الى الاخير. هذا الخضوع الكامل لإرادة الآب الذي سوف يُظهره يسوع في رسالته كلها، أراد أن يدلّ عليه منذ البدء عن طريق الموت الرمزي في الماء.

في العهد الجديد ثمة مواضع عدة تشير الى أن الرسل عمّدوا عائلات بكامل افرادها (اعمال الرسل 16 :15-33؛ 18: 8 ؛ 1كورنثوس 1: 16)، غير أن بعض المحتجّين على المعمودية المبكرة يرون بأن هذه المواضع لا تؤكد معمودية الأطفال، ولكننا نقول انها، بلا شكّ، لا تنفيها. هذا الجدل -حول هذه الآيات الكتابية- قد نجد له نهاية اذا رجعنا الى بعض الممارسات او النظم القديمة التي تساعدنا في بحثنا. ما لا شكّ فيه بدءاً أن المعمودية المقدسة هي وصية السيد للكنيسة. التلاميذ الأولون الذين أتوا من بيئة لها شرائعها وقوانينها، لا بدّ انهم، في تنفيذهم أمر الرب: “اذهبوا وتلمِذوا جميع الأمم وعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس” (متى 28: 19)، قد استلهموا الشريعة القديمة التي قالت إن العضوية في شعب الله لا ينالها الذكور المولودون من أبوين يهوديين من دون اختتان. ونرى أن العهد الجديد يُظهر الختان كصورة المعمودية (كولوسي 2: 11-12)، وهو كان يتمّ للاطفال بعد ولادتهم بثمانية ايام (تكوين 17: 12؛ لاويين 3: 12). ولا بدّ من الملاحظة، تاليا، أن الوثنيين الدخلاء كان يمكنهم وصبيانهم أن يصبحوا أعضاء في شعب الله عن طريق الختان، الذي كان يرافقه “غسل التطهير” الذي كان يجري للنساء والأطفال ايضا. ونجد انه من غير المعقول أن يكون التلاميذ الاولون قد أهملوا هذا “النهج اليهودي في الختان وقبول الدخلاء” من دون أن يتأثروا به.

هذه الفرضية (أعني: المقارنة بين المعمودية والختان) يرجّحها كثيرا الاب نقولا أفاناسييف. غير انه يؤكد، من جهة ثانية، عدم انسجام الختان مع سرّ المعمودية، لأن الختان في الكنيسة، كما يقول، “يكون نكرانا للجلجلة وقيامة المسيح، اي يكون نكرانا للكنيسة نفسها”، ذلك انه لا يعطي احدا العضوية في ملكوت الله، هذا الذي أتى بكل قوة في المسيح يسوع. ويعتبر (الاب نقولا)، تاليا، أن لفظة “مقدَّسون” التي أطلقها بولس الرسول على الاطفال في رسالته الاولى الى كورنثوس، اذ قال: “واما (اولادكم) الآن فهم مقدَّسون” (7: 14)، تعني انهم “معمَّدون”. وهذا ما يقول به ايضا العلامة الكبير أوسكار كولمن الذي يؤكد أن عدم معمودية الاطفال هي التي تحتاج الى برهان كتابي وليس معموديتهم. ومما لا شك فيه تاليا أن العديد من المفسرين رأوا أن كلام السيد في انجيل متى: “دعوا الاطفال يأتون إليّ ولا تمنعوهم لان لمثل هؤلاء ملكوت السموات” (19: 14) يتعلق بالمعمودية المبكرة. ونبدي ايضا انه في العصور اللاحقة للعصر الرسولي ما كانت هناك اية مشكلة حيال إتمام معمودية الاطفال، وإنما الآراء تباينت حصرا حول السن التي يؤتى فيها بالاطفال الى المعمودية، ففي ايام قبريانوس القرطاجي كانوا يقولون بأنه لا يجوز إرجاء المعمودية الى ما بعد اليوم الثامن وهذا ما أثبته الغرب المسيحي، بينما ذهب الشرق الى أن المعمودية تُكمّل في اليوم الأربعين.

أما الفهم، فما لا شك فيه انه مطلوب دائما، وخصوصا ممن له القدرة عليه. بيد أن عدم فهم الاطفال للاسرار المقدّسة ليس عقبة في طريق تقدّمهم الى الله، وذلك لأن الله الذي خلّص العالم بمحبّته ومشيئته الحرة أعطانا كلّنا، بما فيه الأطفال، ميراث الحياة الأبدية مجانا. فالفهم على أهميّته لا يزيد شيئا على إرادة الله الحرة والمخلِّصة، هذا قراره الشخصي الذي أتمّه على الصليب من دون أن يرجع الى احد او يطلب شيئا من احد. ولا شك ايضا أن الكنيسة المقدسة، في ما تُعمد الاطفال، تشترط لإتمام السر أن يكون هنالك “امل وطيد بأن يُنَشَّأ… الطفل على الإيمان الارثوذكسي” (راجع الدليل الرعائي الى الأسرار، ص 35)، وهذا يفترض أن يكون أبوه ارثوذكسيا وامه مسيحية وأن يُختار له كفيل “منتميا الى الكنيسة الارثوذكسية، عارفا بالمبادئ الايمانية الاساسية، وأن يكون ذا سيرة تليق بالايمان المسيحي” (المرجع ذاته، ص 37)، وهذا كله على رجاء أن يبقى محافظا على إيمانه بالله المثلث الأقانيم ليعمق حبه للذي أحبه اولاً ويُخْلص لمن اختاره للحياة الجديدة.

محبة الله التي تشمل الاطفال والبالغين هي عقيدتنا الوحيدة، فكل ما يقال او يُعمل في الكنيسة هو ترجمة لهذه المحبة المخلِّصة التي لا تمنع احدا صغيرا كان ام كبيرا من ميراث الحياة الأبدية.

عن نشرة رعيتي 1997

لماذا معمودية الأطفال؟