...

الكاهن

 

  

الكاهن ليس موظَّفًا. خدمته ما هي إلَّا “علامة” لحضور الله. هو قبل كلّ شيء أيقونة المسيح الإله-الإنسان. كلمة أيقونة (icône) تعني صورة حيّة، مجسّدة، تشير إلى الأصل، إلى ما أو إلى “مَنْ” هو فوق. رعاية الكاهن ليست مجرّد خدمة اجتماعيّة، هي طريق ليصير هو نفسه أداة لإعلان الله، لظهور إلهيّ مستمرّ يتحقّق، على الأخصّ، في كلّ قدّاس إلهيّ، في شركة مع المؤمنين الحاضِرين في الكنيسة، وأيضًا، مع الملائكة والقدّيسين. الكهنة سلاسل أساسيّة لإيصال الحياة الإلهيّة إلى البشر، أداة تواصل بين السّماء والأرض.
 

الله “قدّوس”، فوق كلّ شيء، هو “غير المنظور، غير المدرَك، الدّائم وجوده، الثّابت الوجود”. لكن، بداعي محبّته للبشر، أصبح إنسانًا ليصير “الكاهن الأعظم”، ويقيم الذّبيحة الإلهيّة غير الدّموية عن طريق الكاهن، الّذي هو صورته، أيقونته الحيّة.
 

 **

 

من أجل ذلك، بالضّبط، على الكاهن أن يظلّ في أُلْفَةٍ مع الحقائق الإلهيَّة. الكاهن الحقيقيّ يتواصَلُ، دائمًا، مع الله، والله يحاكيه على الدّوام. هو ملاك لا إنسان. عليه، إذًا في الواقع، أن يلازِمَ الصَّلاة ومعاشَرَة الإنجيل، والمطالَعَات الرّوحيّة والآبائيَّة، طبعًا، إلى جانب خدماته الرّعائيّة.

 

هكذا، يصبح إنسانًا ملؤه الفرح، فرح الرّبّ، على الرّغم من ثقته أنّه خاطئ. هذا يعود، لا إلى قوّته الخاصّة، بل إلى نعمة الكهنوت (النّعمة الإلهيّة الّتي للنّاقِصِين تُكَمِّل)، وإلى حضور المسيح في فكره وقلبه، في حياته كلّها.

 

كيف له أن يقول للشّعب “السّلام لجميعكم”؟!، كيف ينقل السّلام والطّمأنينة للمؤمنين (خاصّة في هذه الأيّام الصّعبة)، إذا لم يكن حاصِلًا عليها في كيانه؟!. هذه الشّفافيّة تتطلّب منه تهيئة خاصّة قبل كلّ خدمة، قبل كلّ قدّاس إلهيّ، قبل كلّ زيارة، عظة أو حديث.

 

هذه التّهيئة من شأنها أن تساعده على الإبتعاد، وحتّى الإنفصال، عن العالَمِيَّات – “لنطرَحْ عنَّا كلَّ اهتمامٍ دنيويّ” – كونه يريد أن يسبَحَ في مجال الحُضور الإلهيّ، وينقل أريجه إلى النّاس الّذين يَوَدُّ أن يلاقيهم. الحياة الحَقَّة، الوجود الحَيّ، لا يتحقَّقان، غالِبًا، عن طريق الرّكض من هنا وهناك، عن طريق الإنشغال المتواصِل، بل، بالأحرى، يصيران بالإنفتاح الشّفّاف على الحضور الإلهيّ.

 

ما يساعِد، أيضًا، على إقتناء هذه الشّفافيّة، بخاصّة في القدّاس الإلهيّ، هو تمضية ليلة النّهار الفائت بهدوء وتأمّلات روحيّة وإنجيليّة، كما أنّ الصّوم أو، على الأقلّ، الطّعام الخفيف والسّهر في الصّلاة يساعدان جدًّا.

 

أخيرًا وليس آخِرًا، يقول القدّيس يوحنَّا الذّهبيّ الفم بأنّه على الكاهن أو الرّاعي أن يهتمّ بكلّ شيء، أن يعرف كلّ شيء، وأن يتّصل بكلّ واحِدٍ، وفي الوقت نفسه يجهد أن يبقى بعيدًا عن كلّ شيء، بعيدًا عن كلّ واحِدٍ (distant)، حتَّى يتّحد بالله وحده.

 

             + أفرام

  مطران طرابلس والكورة وتوابعهما

عن “الكرمة”، العدد 40 – الأحد 5 تشرين الأوَّل 2014

الكاهن