...

الطبيعة الإلهية لا يمكن أن تشترك مع الشر. سفر نشيد الأنشاد

 

 

يقول العريس: “اُنظروا فإن المروج مزدهرة بأزهار الفضيلة. هل ترى هذا النقاء في جمال النرجس العبق؟ هل ترى ورد التواضع والبنفسج الذي يمثل رائحة السيد المسيح الزكية؟ لماذا إذن لا تعمل تاجًا من هذه الزهور؟ فهذا هو موسم قَْضب الزهور وتعمل فرعًا تاجًا لتزين به نفسك. قد حلّ موسم التقليم”. يشهد بذلك صوت اليمامة أي أنه يشبه، “صوت صارخ في البرية” (مت 3:3) فيوحنا المعمدان هو اليمامة. هو الذي تقدم هذا الربيع المنير الذي أنبت لبني البشر الزهور الرائعة للقضيب، وقدمها لكل من رغب في جمعها. أنه هو الذي بيَّن لنا “ويخرج قضيب من جذعه يسىَّ” (إش 11: 1)، “هو حمل الله الذي حمل خطية العالم” (يو 1: 29). وهو الذي أوضح لنا الندم على الخطية والحياة حسب الفضيلة. يقول النص: “سُمع صوت اليمامة في أرضنا”: وهي تنادي “يا أرض” هؤلاء الذين أُدينوا لخطيتهم، هؤلاء الذين يُطلِق عليهم الإنجيل جباة الضرائب والعاهرات، الذين سمعوا صوت يوحنا المعمدان بينما البقية لم تقبل تعاليمه. أما عن التين، فيقول النشيد: “التينة أخرجت فجَّها، وقُعال الكروم تُفيح رائحتها. قومي يا حبيبتي يا جميلتي وتعالي” [ع13].

يجب أن نفهم النص كالآتي: يستمد التين الماء من أعماق الأرض عندما يكون الجو حارًا فتتجمع كمية معينة من السائل في الشجرة التي تُخرِج الماء الزائد عن الحاجة من خلال أطراف الأغصان. تتكرر هذه العملية مرات عديدة إلى أن تنتج الشجرة الثمار المغذِّية في الوقت المناسب بعدما تتخلص من المواد الغير مرغوب فيها والزائدة عن حاجتها. وتُنتج الشجرة نوعًا من التين (يعرف بالتين البدائي أو مقدمة التين)، ويُسمى “التين الصغير” وقد يأكله من يريد، وهو ليس بالثمار الحقيقية، ولكنه مقدمة لها. غير أنه يعطي فكرة عن ماذا يكون شكل الثمرة الكاملة النضج، لأن ثمار التين المبكرة يقول النص، هي علامة على الثمار التي تؤكل.

وصف النشيد الربيع الروحي للعروس، هو الفصل الذي يأتي بين كآبة الشتاء وفرح الثمار في الصيف. لهذا السبب يُعلن بالتفاصيل الدقيقة انقضاء شرور (الشتاء)، غير أنه لا يُفصح تمامًا عن ثمار الفضيلة الكاملة. وسوف يكشف عن هذه في الوقت المناسب عندما يحل فصل الصيف. أنت تعرف بالتأكيد من كلام الله ماذا يعني الصيف: “الحصاد هو انقضاء العالم والحصَّادون هم الملائكة” (مت 13: 39). ويوضح النص الآن الآمال التي تزدهر بواسطة الفضيلة، والتي تأتي ثمارها كما يقول النبي في الوقت المناسب (مز 1: 3). تشبه الطبيعة البشرية شجرة التين التي سبق ذكرها. فإنها تجمع ماء الشر خلال فصل “الشتاء” الروح. لذلك فالواحد الذي يجلب لنا “ربيع” الروح ويرعى نموِّنا يُلزم طبيعتنا أن تنفض خارجًا كل ما هو غير نقي وزائد ليس من خلال الأغصان، ولكن من خلال الاعتراف. ثم يضيف لحياتنا علامات مُميزة للنعمة التي نفوز بها من خلال الحياة النقية، كما يعلن عن ظهور التين الكامل النضج بعد ظهور التين الصغير. هذا هو المعنى المقصود مِنْ ” أنتجت شجرة التين الصغير”

وهذا أيضًا هو المعنى المقصود من الكرمة المزدهرة، التي يُفرِح خمرها القلب (مز 104: 15)، وفي يوم من الأيام يملأ كوب الحكمة. وسوف يقدم مجانًا لهؤلاء الذين يشربون من المواعظ العالية ويستمتعون بها وكأنهم سكارى منتشين بوعيّ جميل. وأعني به الغيبة التي يمر بها الشخص بثبات من دائرة الماديات إلى الروحانية المقدسة. والآن تزهر الكرمة بواسطة براعمها ويخرج منها عبير عطر حلو ناعم يملأ الجو ويحيط بنا.

وأنت تعرف هذه الرائحة الزكية من القديس بولس (2 كو 2: 16)، وتعرف كيف تنطبق على كل الذين يُخَلَّصون.

يوضح كلمة الله هذه الأشياء للعروس كتذكار لأيام الربيع الجميلة للنفس. ثم يحفزها على التمتع بما يوجد أمامها: ويشجعها قائلاً: “التينة أخرجت فجَّها وقُعال الكروم تُفيح رائحتها. قومي يا حبيبتي ياجميلتي وتعالي”.

ما هذا التعليم العظيم الذي يكشفه لنا الله في هذه الكلمات!

إن الكاتب المُلهم لا يكرر هذه الآية كلمة بكلمة دون سبب. يوضح التكرار أنه يوحي بتعليم مهم. يقول النص: أن الطبيعة الأبدية المباركة تعلو فوق كل إدراك وتشمل كل الأشياء في داخلها وهي غير محدودة. لأنه لا يوجد اسم أو مبدأ يمكنه أن يضع حدودًا لها: ليس الوقت أو المكان أو اللون أو الشكل أو الصورة أو الحجم أو الكمية أو الحدود أو شيء آخر. فأي خير نلم به يتبع طبيعة الله ويوجد في اللآنهاية وغير محدود بمقياس. لأن الشر ليس له مكان بينما الخير ليس له حدود.

يوجد بالطبيعة البشرية المتغيرة الخير والشر ويتبادل وجودهما لأن عندنا القدرة على اختيار أيّا منهما، وهما متناقضان. والنتيجة أنه يتبادل وجود الخير فينا مع الشر، ويُصبح الشر حاجزًا للخير. فجميع نشاطات نفوسنا تظهر متعارضة، وهي تشجب وتحدد بعضها البعض. وعلى الجانب الآخر تظهر الطبيعة الإلهية بسيطة، نقية، متجانسة (متوافقة) ثابتة، غير متغيرة وهي دائمًا على ما هو عليه (غير المحوى غير المستحيل)، وهي تستمر غير محدودة في الخير، لأنها لا يمكن أن تشترك مع الشر. وهي لا تعرف حدودًا لأنها لا تحتوي على متناقضات أو مضادات، لذلك حينما يجذب الله نفسًا بشرية لكي تتحد معه، وذلك لما له من وفرة السمو في الخير، تستمر النفس أولاً في النمو باشتراكها فيما هو أعظم منها، ولا تقف أبدًا عن النمو. والناحية الثانية التي تستفيد منها النفس هي أن الخير الذي تشارك فيه النفس يظل كما هو (غير محدود). لذلك فكلَّما استمرت النفس في المشاركة تعرف أكثر، وبوضوح أن هذه المشاركة جعلتها ترتفع في السمو إلى أفاق عُليا.

نحن نرى الآن العروس والكلمة يقودها إلى أعلى درجات الفضيلة، إلى علو الكمال.

في البداية يرسل لها الكلمة شعاعًا من نور من خلال شبابيك الآنبياء وكُوى الوصايا. ثم يشجعها على أن تقترب من النور وتصير جميلة بواسطة تحوُّلها إلى صورة الحمامة في النور. وفي هذه المرحلة تأخذ العروس من الخير بقدر ما تستطيع. ثم يرفعها الكلمة لكي تشارك في جمال أعلى لم تتذوقه من قبل. وبينما هي تتقدم تنمو رغبتها في كل خطوة، لأن الخير غير محدود أمامها. وتشعر باستمرار مع حلول العريس معها أنها قد ابتدأت صعودها للتوّ فقط. لذلك يقول الكلمة للعروس التي أقامها من النوم: “انهضي”. وإذ جاءت إليه يقول لها: “تعالي”، لأن الشخص الذي دعاها للنهوض بهذه الطريقة في استطاعته أن يقودها إلى الارتفاع والنهوض بها إلى مستوى أعلى.

الشخص الذي يجري نحو الله ستكون أمامه مسافات طويلة. لذلك يجب علينا أن نستمر في النهوض ولا نتوقف أبدًا عن التقرب من الله. لأنه كلما قال العريس “انهض” و “تعال” فإنه يعطي القوة للارتفاع لما هو أفضل. لذلك لابد أن تفهم ما يأتي بعد في النص. عندما يحفِّز العريس العروس الجميلة لكي تكون جميلة، فهو يذكرنا حقًا بكلمات الرسول الذي يطلب منا أن نسلك سلوكًا فاضلاً لكي نتغير من مجدٍ إلى مجدٍ (2 كو 3: 18). وهو يعني بكلمة “مجد” ما فهمناه وحصلنا عليه من بركة في وقت من الأوقات، ولا يهم مقدار ما حصلنا عليه من مجدٍ وبركةٍ وارتفاعٍ، لأنه يُعتقد أننا حصلنا على أقل مما نأمل في الحصول إليه. ولو أنها وصلت إلى جمال الحمامة بما قد حققه، إلا أن العريس يأمرها بأن تكون حمامة مرة أخرى بواسطة تحوِّلها إلى شيء أحسن. فإذا حدث ذلك فإن النص سوف يُظهر لنا شيئًا أحسن من بهذا الاسم “حمامة”.

يا حمامة في محاجئ الصخر في سِتْرِ المعاقل، أريني وجهك، أَسْمِعِيني صوتك، لأن صوتك لطيف، ووجهك جميل” [ع14].

ما هذا الصعود إلى الكمال الذي تُظهِره هذه الكلمات؟ يلزم أن يكون اشتياقنا للأحسن دليلنا. فهو يقول: “تعالي بنفسك” ليس لأنك حزينة أو لأنك محتاجة، ولكن تلقائيًا بنفسك، مؤكدة بتفكيرك الشخصي رغبتك في الخير غير منقادة بالحاجة إليه. فالفضيلة يجب أن تكون غير مفروضة وإرادية، ومنزهة عن كل حاجة مادية. كان هذا الحال مع داود الذي أدرك أن الله يفرح فقط بما عمله بتلقائية ووعد أنه سوف يقدم ذبائحه بتلقائية. وهكذا مع جميع القديسين الذين قدموا أنفسهم بتلقائية إلى الله ولم يكونوا أبدًا منساقين بحاجة في أنفسهم.

يجب الآن أن تُظهِروا استعدادًا كاملاً أنكم ترغبون أن ترتفعوا إلى ما هو أحسن. وعندما تُنجِزون هذا يقول لكم العريس أنكم ستدخلون إلى “ملجأ الصخرة بالقرب من الحائط” وإذا أردنا أن نوضح ما عبَّرت عنه الرموز، يصبح المعنى كالآتي: يوجد ملجأ واحد للنفس البشرية، وهو الإنجيل المجيد. ومن يدخل هذا الملجأ لا يحتاج أن يتعلم بواسطة الأمثلة والرموز لأن الحق يوضح الغموض في رسالة الوصايا. لا يمكن لمن يفهم عقيدتنا أن ينكر أن الإنجيل هو الصخرة، إذ أن فقرات عديدة تعلم أنه صخرة.

يمكن تفسير هذا كالآتي: إذا كنتِ، أيتها النفس قد نظرت جميع الوصايا وتطلعتِ عقليًا من خلال شبابيك الآنبياء على الأشعة الساقطة عليك، فلا تهربي بعد ذلك إلى ظل الحائط، لأنها تكون فقط ظلاً للخير الذي يحل في المستقبل، فهي إذن لا توفر صورة صادقة للحقيقة. فلابد أن تعبر من الحائط إلى الصخرة القريبة منها. والصخرة قريبة من الحائط لأن الوصايا كانت الحائط الذي حفظ الإيمان بالإنجيل، وتعاليم الوصايا مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بتعاليم الإنجيل. مثال: لا تزن ولا تشتِه ولا تتنجس بالقتل، ولا تنجس قلبك بالغضب. ولما كان ملجأ الصخرة يقع قريبًا من الحائط فالمسافة بين الحائط والصخرة قصيرة. ويحدث تطهير من الخطية في كل من الحائط والصخرة، فيوجد خروف في كل منهما ودم وعبور، وهكذا في كل شيء آخر يتعلق بالحائط والصخرة لأنهما مرتبطان ببعضهما. إلا أن الصخرة روحية بينما الحائط أرضي، لأنه مصنوع من الطين الأرضي. وعلى الجانب الآخر لا يوجد بصخرة الإنجيل طين لحمي في تعليمها. يُختَن الرجل ولكنه يظل كاملاً ولا يعاني ضررُا في جسمه. ويحفظ السبت في عدم الوقوع في الخطية ولا يتوقف عن عمل الخير لأنه تعلَّم: “أن الوصايا تحُضّ على عمل الخير في السبت” (مت 12:12) مثل هذا الرجل يتناول طعامه دون الامتناع عن بعض الآنواع، ولكنه لا يمس أي شيء نجس أو غير نظيف. لقد تعلم بواسطة الصخرة: “أن كل ما يدخل الفم لا ينجس الإنسان” (مت 15: 17). يرفض الصخرة كل الملاحظات الجسدية للوصايا ويتسأمي بمعاني الكلمات إلى الدائرة الروحية والعقلية. وكما قال بولس عن: “الوصية الروحية” (رو 7: 14). لأن الشخص الذي يرفض الوصية يأتي إلى “ملجأ الصخرة” إلى الإنجيل، وهو قريب من الحائط المادي.

نادى الكلمة بهذه التعاليم من خلال الشبابيك إلى عروسه، وهي الحمامة، استجابت له بجمال، لأنها استنارت بشعاع الفهم وتعرفت على الصخرة وهو المسيح. وهو يقول: “أريني وجهك، اسمعيني صوتك لأن صوتك لطيف ووجهك جميل” [ع14].

يمكن تفسير معنى هذه الآية كالآتي: لا تكلمني من الآن فصاعدًا برموز الآنبياء والوصايا. وحتى أراك اِظهر لي نفسك حتى آتي إلى داخل الصخرة، الإنجيل، وأترك خلفي حائط الوصايا. وحتى أسمعك اِجعل صوتك يرن في أذني. فإذا كان صوتك حلوًا جدًا من خلال شبابيك الآنبياء، فكم تكون رؤية وجهك الجميل مُجْلِبةً للحب والسعادة؟

فهمت العروس السر في صخرة الإنجيل التي قادها إليها الكلمة بطُرق عديدة ومختلفة (عب 1: 11). بينما كان عند الشبابيك. والآن ترغب العروس في ظهوره في الجسد، حتى يمكن رؤية الله في الجسد ويتكلم عن الوعود الإلهية للسعادة الأبدية لكل من يستحقها. لاحظ توافق كلمات سمعان مع رغبة العروس: “الآن تطلق عبدك يا سيد حسب قولك بسلام، لأن عينيَّ قد أبصرتا خلاصك” (لو 2: 29-30). رأى سمعان مثل ما أرادت العروس أن ترى. وهؤلاء الذين اِستقبلوا صوت المسيح الحلو تعرفوا على نعمة الإنجيل وصرخوا: “فأجابه سمعان بطرس: يا رب إلى من نذهب. كلام الحياة الأبدية عندك” (يو 6: 68).

اِلتمست العروس أن ترى العريس النقي الذي وافق، لذلك فسوف يُظِهر نفسه علانية. ويحفِّز العريس الصيادين لكي يصطادوا الثعالب حتى لا يتلفوا أشجار العنب: “خذوا لنا الثعالب الثعالب الصغار المُفسِدة الكروم لأن كرومنا قد أقلعت” [ع15]. سوف يزدهر ثمر العنب إذا ما أزيلت الثعالب التي تتلفها… امسك الثعالب الصغيرة التي تتلف كرم العنب لأن كرمنا يعطي عنبًا طريًا. من الممكن أن نحترم نبل هذه الأفكار. ولنَرَ ما هو العجب في العظة الإلهية التي تحتويها النص؟ ما هو تأثير القوة الإلهية في معنى النص؟ يتكلم النشيد عن هذا القائل، “ماذا يعطيك وماذا يريد لك لسان الغش”، ويقول عنه النبي: “سهام جبار مسنون مع جمر الرتَم” (مز 120: 4). ويقول أيضًا: “يكمن في المُخْتَفي كأسد في عَرِّيسه” (مز 10: 9). هو حية عظيمة، ضَلَّت وعصت الله، جهنم بفمه مفتوحة هو حاكم قوي الظلمة وله سلطان الموت. كما تصفه النبوءات الكثيرة بصفات أخرى، فلقد حطم الحدود بين الأمم التي كانت مستقرة حسب أمر الله القوى العالي (تث 32: 8)، وذلك بين ملائكة عديدين. وهو يقبض على العالم كما يمسك شخص بعُشّ طائر، ويخطفها بعيدًا كالبيض من عشه. وقال أنه سوف يضع عرشه فوق السحب ويصبح مثل القوي العالي. يقول عنه كتاب أيوب أنه مرعب ومخيف (أي 40: 18، 41: 7)، عظامه نحاس وأطرافه قضبان حديد وأحشاؤه حجارة صلبة أتثخن جلده بالحراب، ورأسه بأسنة الرمح. يذكر الكتاب هذا وغيرها. هذا هو الرئيس القوي لقوى الشر. ولكن ماذا تقول القوة الحقيقية الوحيدة عنه؟ أنه ثعلب صغير وسوف يصغر ويُستهزئ بكل من هو مع الشيطان وأعوانه جميعهم. ويناديهم الله بنفس الاسم ويحفز الصيادين ضدهم. وقد يكون الصيادون هم قوى الملائكة الذين يرافقون الله عندما يظهر على الأرض. فيذهبون مع ملك العظمة والنعمة ويُظهرونه إلى من لا يعرفونه. من هو ملك المجد؟ “الرب القدير الجبار، الرب الجبار في القتال” (مز 24: 8) وقد يكون هؤلاء الصيادون “أرواحًا خادمة مرسلة للخدمة لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص” (عب 1: 14)، أو قد يكونوا الرسل الأطهار أُرسِلوا لكي يصطادون هؤلاء الوحوش” (مت 4: 19). لأنهم لا يقدرون أن ينجزوا عملهم في اصطياد الرجال أو يمسكوا بالنفوس التي خلصت بشباك كلماتهم، إلا إذا أبعدوا هذه الوحوش من أماكن اختبائها، وينتزعوا هذه الثعالب الصغيرة من قلوب الرجال حيث يختبئون. وعندما تتوقف الثعالب الصغيرة عن الاختباء في قلوب الناس استعدادًا للخروج والقتال، يُوجد الرسل مكانًا لابن الإنسان حيث يسند رأسه لأنه يقول: “ليس له أين يسند رأسه” (مت 8: 20) يمكن أن نتعرف على مجد القوة الإلهية الذي لا يمكن التعبير عنه من الأوامر التي أعطيت حسب النص لأي من الصيادين. لأن الله لا يقول: اِصطاد الخنزير البري في الغابة والذي يخرب الكرم والربأ والخنزير البري الذي يعيش وحيدًا أو الأسد الثائر أو الحوت العظيم أو ثعبان الأعماق. سيوضح الكلمة لصياديه ما هي القوة التي يمتلكها الذين يقفون ضدنا بسرد أنواع الوحوش التي سبق ذكرها. وبدلاً من ذلك تقول أن جميع هذه القوى الأرضية التي نحارب ضدها مثل الرئاسات وأصحاب السيطرة، والقوى الكونية للظلمة، والأرواح الشريرة كلها هي “الثعالب الصغيرة”، وهي كائنات بائسة ومتشردة بالمقارنة بما عندكم من قوة. إذ انتصرتم على مثل هذه القوى، فإنكم ستحصلون على النعمة التي تكون لكم. ستبتدئ كرم طبيعتنا البشرية في حمل عناقيد العنب وزهور حياة الفضيلة. “أقبض على الثعالب الصغيرة التي تفسد كرم العنب لأن كرمنا ينتج عنبًا طريًا”.

سمع الكرام باِهتمام إلى الأوامر الإلهية مثل المرأة التي قال عنها داود، “امرأتك مثل كرمة مثمرة (مز 128: 3). أنها رأت نفسها بعيدة عن القوة المدمرة لهذه الوحوش بواسطة قوة من أمرها، وفي الحال وهبت نفسها لراعيها الذي أزال الحائط الحاجز. فلا يحجز حائط الوصايا الاِتحاد بينها وبين الواحد الذي ترغبه. وهي تقول: “أنا لحبيبي وحبيبي لي الراعي بين السَوْسن. إلى أن يفتح النهار، وتنهزم الظلال أرجع وأشبه يا حبيبي الظبيْ أو غفر الأيائل على الجبال المشبعة” [ع17]. أي أنها عرفته وجهًا لوجه، الواحد الذي يعيش منذ الأول، ومن أجل خلاصي جاء في صورة إنسان إني استريح فيه وأسكن. لأنه هو الراعي الصالح الذي يرعى غنمه ليس بالعُشب بل بالنرجس النقي. حقيقة إنهم لا يتغذون على العشب، فالعشب هو الغذاء الصحيح للحيوانات الغير عاقلة، ولكن الإنسان عاقل ويتغذَّى على الكلمة الحقيقي. أما إذا اكتفى الإنسان بالعشب، فسوف يتحول إلى عشب “كل جسد عشب وكل جماله كزهر الحقل” (إش 40: 6)، طالما هو جسد. أما إذا تحول الشخص إلى روح وولد من الروح، فلا يتغذى بعد ذلك على العشب بل يتغذى على الروح، التي ترمز إليها بنقاء النرجس ورائحته الزكية. وسيتحول إلى نرجسة نقية وعَطرة، فلقد تغيّر حسب المادة الطيبة التي يأكلها. هذا هو اليوم الذي أرسل فيه أشعته إلى الأرقام، وبالأحرى، أنه “استنشق إلى الأمام” لأن الصوت الإلهي يسمى هذا “زفيرًا” وهو اِنتشار الأشعة بواسطة الروح القدس. وبواسطة نوره تختفي ظلال الحياة. ويُسرع هؤلاء الذين لم تُضأ عيون نفوسهم بواسطة نور الحق، وراء تلك الظلال. وهم يعتبرون الظلال، الباطلة كأنها حقيقة بينما ينظرون إلى الحق على أنه غير موجود. ولكن هؤلاء الذين تغذوا على النرجس، أي الذين نمت وترعرعت نفوسهم على تغذية عطره ونقائه، قد خلَّصوا أنفسهم من كل مظاهر الظلال والخداع التي يسعى الناس إليها أثناء هذه الحياة. لقد أصبحوا أولاد النور والنهار، وسوف يتعرفون على المادة الحقيقية للأشياء.

وترى العروس هذه الأشياء وتحفز الكلمة لكي يحقق لها آمالها: “إلى أن يفيح النهار وتنهزم الظلال ارجع وأشبه يا حبيبي الظبيْ أو غُفر الأبائل على الجبال المشبعة” [ع17].

“شكله مثل غزال الذي يعرف أفكار الناس ويقرأ ما في قلوبهم. أبيد ابن الشر كما يحطم ذكر الغزال الصغير الحية. أنت ترى الجبال الفارغة لحياة الإنسان ومعظمها وِدْيانًا وليست قمم. “لذلك يجرى بسرعة على الجبال التي أصبحت وِدْيانًا، لأن من يرفع نفسه ضد الحق يصبح حفرة وليس جبلاً، شقًا عميقًا في الأرض وليس ارتفاعًا. ويقول إذا أسرعت في الجري على هذه؛ “كل وطاء يرتفع وكل جبل وأكمة ينخفض ويصير المعوج مستقيمًا والعراقيب سهلاً” (إش 40: 4). هذا ما تقوله النفس التي غذاها الكلمة ليس على الأشواك أو العشب، ولكن على عبيق النرجس الجيد للحياة النقية. ليتنا نحن أيضًا نمتلئ ونتغذى على مثل هذا النرجس بواسطة الكلمة، الذي له المجد والقوة إلى الآبد آمين.

 

يتبع…..

القديس غريغوريوس النيصي
www.orthodoxonline.org

 

 

 

 

 

 

الطبيعة الإلهية لا يمكن أن تشترك مع الشر.

سفر نشيد الأنشاد