...

الجهاد الروحيّ من أجل سلام النفس

 

 

حديث في بكفتين، السبت 26 أيّار 2012
مقدّمة: الجهاد للجميع
لماذا يتحدّثُ إليكُم راهب، وقد خرج من ديره، بخلاف المعهود أنّ الرّهبان يلازمون أديارهُم؟
كانَ وقتٌ غيرُ بعيدٍ منّا، ظنَّ فيه الناس أنّ الحياة الرّهبانيّة أمسَت غير نافعة في الكنيسة، وهي تنتمي إلى زمَنٍ غابِرٍ، ويجبُ ابتكار أنماط أخرى من التّكريس لله. كلُّ مَن ظنَّ هكذا يَجهَل أنّ الحياة الرُّهبانيّة ليست في الأساس سوى الدَّعوة الرَّسوليّة. الرّاهبُ رسولٌ من حيثُ إنّه عَرَفَ أن يُلَبّي دَعوةَ المسيح لَهُ بِلا شُروط (أنظر مر16: 17). إنّه يَشهَدُ أمام العالَم بحياتِهِ، لا بكلامِه، أنّ وُعودَ الإنجيل يُمكِنُ تحقيقُها منذُ الآن، وفي أيِّ الظُّروف، وأنَّ ملكوتَ السَّموات، الّذي افتَتَحَهُ المسيحُ بمجيئِه إلى العالم، أضحى في مُتناوَلِنا.
في الوقتِ ذاتِهِ، يَبدو الراهبُ شخصيّةً نَبَويّة، حيثُ إنَّ سيرَتَهُ الخارجَة عن أُطُرِ المألوف في الحياة العاديّة والاجتماعيّة تُناقِضُ مسيحيّةً عَهِدناها راغبَةً في التَّأَقْلُمِ وَمُقتَضَيات الحياة في عالَمِ الموت هذا. تمامًا كما فَعَلََ الأنبياءُ القدماءُ في إسرائيل، ومن بعدهم النّبيُّ يوحنّا سابق المسيح، يأتي الراهبُ ليُذكِّرَ الناسَ بحُقوق الله، حتى في لباسِه، وبأنَّ الله يتطلَّبُ منّا تكريسًا كاملاً له.
فبخِلافِ الظَّنِّ الغالبِ عندَ الناس، ليس هدَفُ الرُّهبان أن ينعزلوا عن العالَم وعن المجتَمَع، بل أن يصيروا أشخاصًا يخدِمون التواصُل والله des êtres de communion، ومن خلالِ اللهِ التواصل والآخرين، بوساطة الصّلاة. يَكفي للمَرءِ أنْ يَزورَ أحدَ الأديار ليشهَدَ عيشَ الشَّرِكَة الأخويّة، بالأحرى من القطيعة مع العالَم. لهذا فالشّركة الرّهبانيّة هي أُسرة روحيّة، كنيسةٌ مصغَّرة حيث يَختبر الإنسان الشَّرِكةَ مع المسيح يومًا فيومًا. لهذا يُعرِّفُ أحدُ النّصوص الرهبانيّة حياة الدّير بأنّها “انتظار الله في التسبيح”.
فالرُّهبان لم ينصَرفوا قطُّ عن حياة الكنيسة، بل ما زالوا، منذ ألف وستّمئة سنة ونَيِّف، أوّلَ مَن تَعهَّدَ الإرساليّاتِ والتبشيرَ في سائرِ البلادِ المسيحيّة، في الشَّرق والغرب معًا. وإنّ المُحَرِّك الأوّلَ لتبشير شعوب البلاد السوريّة هم النُّساك العَموديّون من الرُّهبان. هنا أَخُصُّ بالذِّكر مثالَ الجبَل المقدّس (آثوس)، الّذي يوصَفُ بمَكان الخلوة والصّمت بامتياز، ولكنّه، منذ تأسيسه في القرن العاشر، بَقِيَ المَصدرَ الأساس لتبشير الشعوب السّْلافيّة في البَلقان وروسيّا، ولاعتناق تلك الشُعوب الدِّيانة المسيحيّة.
هدف الحياة الروحيّة: اكتساب الروح القدس
حياةُ الراهب إذًا مَصدَرٌ للتَّجَدُّد ولاجتذاب الناس إلى الإنجيل، بالأحرى من الاعتكاف والانقطاع عن العالم. فالرُّهبان، سواءٌ في جبل آثوس أو في أيّ مكان آخر، ليسوا سوى مسيحيّين عَشِقوا المسيح وقرَّروا أن يتبَعوه حتى النهاية، على غِرار الرّسُل، تاركينَ خلفَهُم كلّ ارتباطٍ بالعالم. هذا الموقِفُ القطعيّ الّذي يميّز دعوتَهم يَجعلُهُم مثالاً لسواهُم من المسيحيّين، يقتدي به كلٌّ حَسَبَ إمكاناته، ومقدارِ شوقِهِ إلى المسيح. فالرُّهبان هم مِلحُ الأرض، بفضلِه تُثمِرُ للحياة الأبديّة.
إنّ المسيح، في بَدء بشارتهِ، ردّدَ مرارًا هذا الكلام: “إنْ أرادَ أحدٌ أن يأتي ورائي، فليُنكِر نفسَه ويحمِل صليبَه ويتبعني”. إذًا كلُّ مسيحيّ، لا الراهب وحدَه، هو مَن يُلبّي دعوةَ المخلِّص، ويُنْكِر حياتَه وتَقَوْقُعَه على ذاتِه، وعلى أنانيّتِه، ليتْبعَ المسيحَ حيثُ يذهَب، حتى إلى موته، الّذي هو عربون الحياة الأبديّة. نحن كلّنا اعتَمَدْنا بالمسيح، ونزَلنا في المياه المُحييَة، على مثالِ نزولِه إلى الموت، للاشتراك في قيامته. وبالتّالي حياتُنا كلُّها ينبغي أن تكون “حياةً بالمسيح”، لأنّنا “لَبِسْنا المسيح”.
علينا إذًا أن نتخلّى عن الفكرة السّائدة أنّ المسيحيّة ديانة بين الدِّيانات أو هي إحدى الرُّوحانيّات. هذه الكلمة رائجة اليوم في الغرب، وهي تشير إلى نوعٍ من الحِكمة أو نَمَط من العيش الرَّفيع يُحقّقُهُ الإنسان بجُهدِهِ الشخصيّ وحدَه، وهو أقرَبُ إلى الحكمة عند فلاسفة الإغريق.
أمّا المسيحيّة فشيءٌ آخَر: إنّها دخول حياةِ الله في مَدى حياة الإنسان. هي نوعٌ من الظُّهور الإلهيّ، لا كالظُّهور في العهد القديم، حيث يُشيرُ الله إلى حضوره بالرّموز. إنّما هنا الله نفسُه يلبَسُ الإنسان، ويصعَدُ به إلى السَّماء ليَجلِسَ عن يمين الآب، كما في عيد الصّعود. لقد تعوَّدنا الاحتفال بهذه الأعياد، ولم نعُدْ نَلتَفِتُ إلى العَثَرة الصّارخة الّتي تَضَعُها للعقل البشريّ. فبالنِّسبة للعقل، كما لفلاسفة الإغريق، أن يصبِحَ الله إنسانًا أمرٌ غيرُ وارد. إنّه عَثَرَة، العَثَرة الّتي من أجلها صَلَبَ اليهودُ المسيح. لم يستطِعْ الإغريقُ أن يُطيقوا هذا التزاوج بين المحدود واللامحدود. وقد أَعثَرَهُم بالأكثَر أن يصعَدَ هذا الإنسانُ إلى عَرشِ الله. رُغمَ ذلك، فهذا هو جوهر إيماننا: نحن لا نقولُ إنّ الله صار إنسانًا فحَسْب، بل إنّنا مَدعُوّون لنصير مثل الله في المسيح بفِعْل الرّوح القدس. من هنا ليست الكنيسة مؤسّسة بشريّة، ولا حتى “ديانة”، إنّما هي جماعة (شَرِكَة) المتألّهين”، كما يقول القدّيس غريغوريوس بالاماس. هذا يَعني أنّنا نؤلِّفُ معًا جماعةَ الّذين يبتغون أن يعيشوا في شَرِكَةٍ مع الله. الكنيسة هي ملكوت السموات بيننا، ولكنْ يبقى علينا أن نكتشفَهُ شخصيًّا بمساهمة حرّيتنا الشّخصيّة. فهدف الحياة المسيحيّة، بحسب القدّيس سيرافيم ساروف، هو اقتناء الروح القدس، وتحقيق ملكوت السموات في ذاتنا، هذا الملكوت الّذي دخلَ فينا يوم معموديّتنا. هدفُ الحياة المسيحيّة إذًا هو أن نعيش حياة الله. لذا ليسَ أمام الإنسان المسيحيّ طريقان: واحدة تكفيه لتأمين خلاصه بعد الموت، وأُخرى تقودُ إلى الكمال الإنجيليّ، تَسْلُكُها أَقلِّيَّةٌ مُختارَة من الناس. لا، فَكُلُّ إنسانٍ مَسيحيّ مَدعوٌّ إلى الكمال، ولا يُمكن الفصل بين الخلاص والكمال الخُلُقيّ، أو بين “الحياة الكنسيّة” و”التألّه”، أي المشاركة في حياة الله. فالخلاص يقتضي أن نَتْبَعَ المسيح، وأن نسعى لتنمية بذار الحياة الإلهيّة الّتي أُلقِيَت فينا يومَ المعموديّة. وكما يَقولُ القدّيس يوحنا الذّهبيّ الفم، “الإنسان المسيحيّ هو الّذي يُفكِّر في سلوكِه وقراراته كلّها أنّ المسيح مَعَنا في كلِّ مكان”. لذلك لا يمكن التَّمييز بين حياة مسيحيّة مخصَّصَة للرُّهبان، أو للكهنة، وحياة أخرى مموَّهَة، يكتفي بها المؤمنون المرتبطون بالواجبات العائليّة والدّنيويّة. كلّنا مدعوّون إلى الكمال. لا يمكننا أن نكون مسيحيّين “بنِصْفِ دَوام”، كما يقول القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفم. ويقولُ أيضًا: “وَهْمٌ كبيرٌ ظنُّكَ أنّ الرّهبان والعلمانيّين ليس لهم الواجبات ذاتها، لأنّهم، ما عدا الزّواج أو البتوليّة، سيؤدّون الحسابَ نفسَه… فالمسيح لا يتكلّم في الإنجيل على علمانيٍّ وراهب، إنّما هذا التَّفريق من نتاجِ العقل البشريّ، وهو مجهول تمامًا في الكتاب المقدّس، الّذي يودّ أن يحيا الناس جميعًا حياة الرّهبان، ولو تزوّجوا”.
أجل، إنّ النُّصوص الروحانيّة الأُرثوذكسيّة في مُعظَمِها كَتَبَها الرُّهبان أو كُتِبَت للرُّهبان في الأساس، ولكنّ ذلك لأنّ الحياة الروحيّة الّتي يعيشها الرّهبان تبقى المثال الأعلى والمَرْجع الأوّل لكلّ إنسان مسيحيّ، وما هي إلاّ الحياة المسيحيّة الإنجيليّة المُعاشة في أقصاها. هذه الحياة المُنبَسطة إزاءَنا هي استجابَتُنا لموهبة الله، استجابةٌ تُكَلِّفُنا جُهودًا صعبةً. وهذه الجهود تُعَبِّرُ عن شَوقِنا لله وتبرِزُ قيمةَ حرّيتِنا، الّتي هي صورة الله فينا.

انتصار المسيح المسبَق
لقد قال المسيح: “جئتُ ألقي نارًا على الأرض”، وأردفَ حالاً “وكم أودُّ لو تشتعل” (لو12: 49). فهو يقصُدُ بكلامِهِ هذا أن يُشعِلَ الروحُ القدسُ في النَّفْس اشتهاءً لا يَرتوي للملكوت الأبديّ. لقد ارتضى المسيح أن يَتَسربَلَ الطبيعةَ البشريّةَ ويَقْبَلَها في ذاتِه، فخاضَ المعركة في بشريَّتِه، وأحرزَ لنا انتصارًا حاسمًا على العدوّ الأكبر للإنسان، أعني الموت. هذا ليُظهِرَ لنا أنّه علينا اتّباعَ خُطاه وإحراز انتصاره في بشريّتنا. قد يَعترضُ كثيرون قائلين إنّه كان يستطيع أن يخلّصنا بعملٍ باهرٍ يُظهِرُ اقتدارَه. أجل، ولكنّه آثرَ أن يتنازل إلى ضُعفنا، ويصيرَ بشرًا مثلنا، ويتّخِذَ ضُعفنا الّذي هو الموت، من غير أن يتّخذَ سَبَبَ الموت الّذي هو الخطيئة. منذ تجسّده، صار مثالاً لنا أنّ الإنسان يستطيع أن يعيش من غير خطيئة.
غالبًا ما يصوِّرُ لنا الآباء عملَ الخلاص هذا كحربٍ ما بين الإله الإنسان والشيطان، بدأتْ بالتجربة على الجبل، حينما صام المسيح أربعين يومًا وواجهَ التَّجارب الثَّلاث الرّئيسيّة. ثمّ استمرَّتْ هذه الحربُ على مدى حياة المسيح الأرضيّة، حيث أظهر غلبَتَه على قُوى الشيطان كلِّها: المرض، والمَسّ الشيطانيّ، وسواهما. وبلغَت هذه الحربُ ذروتَها في سِرِّ موتِه على الصّليب، وانتصارِه بالقيامة، حيث “أماتَ الّذي أماتَنا”. لهذا فالإيقونة الأرثوذكسيّة للقيامة لا تصوِّرُ حدثَ القيامة، الّذي يتعذّر تصويرُه، بل تُمَثّلُ نزولَ المسيح إلى الجحيم، وهو حاملٌ الصّليب، به يحطِّمُ أبوابَ الجحيم. فصليب المسيح – الّذي كانَ أفظعَ ميتةٍ في عَهدِ الرّومان-، أضحى سلاحَ انتصار المسيح على الموت والجحيم والشيطان.
نرى المسيح (في الإيقونة) يُمسِكُ آدمَ وحوّاء بيديه، ويَنتَشِلُهما بقوّة من الجحيم والموت. هنا يَكمنُ عملُ الخلاص. هنا نَجِدُ معنى الفترة الفِصحيّة حينما نُعيّدُ لغَلَبَة المسيح على الموت، فَيُحَيّي المسيحيّون بعضُهُم بعضًا هكذا: “المسيح قام! حقًّا قام”! هذا الفرح الفصحيّ ينبغي أن يكون موقف المسيحيّين الدّائم، ولذلك يدوم التَّعييد أربعين يومًا، لأنّ الرقم أربعين في الكتاب المقدّس يرمز إلى الاستمرار، والديمومة. لهذا ليس من عيبٍ وأمرٍ مُشين للمسيحيّة أكبر من رؤية مسيحيّين واجِمين، مُكتئبين، يغتمّون من مواجهة الموت. هؤلاء لا يَشهدون في حياتِهم لفرح القيامة، في حين أنّ الرسول بولس يَحُثُّنا على الفرح كلَّ حينٍ هاتفًا: “أين شوكتكَ يا موت؟ أينَ غلبتُكِ يا جحيم؟ ولكنْ شُكرًا لله الّذي يعطينا الغلَبَة بربّنا يسوع المسيح”! (1كور15: 57) لقد أحرزَ المسيح انتصاره من أجلنا بالآلام والقيامة، في طبيعته البشريّة، لكي تنتقلَ هذه الغلبة إلينا جميعنا، وتصيرَ لنا “مثالاً لنتبع خطواته”، كما يقول بطرس الرسول (1بط2: 21). لقد فتحَ الطريق الّتي قطعَتْها أبوابُ الموت، ليجتذبَنا مع آدمَ وحوّاء في انطلاقة الصعود إلى السماء.
كلُّنا إذًا مدعوّون إلى كمال الحياة السماويّة، ولنا اختيار نمط هذه الحياة: إمّا الزّواج وإمّا البتوليّة المكرّسة، ولكنّ المطلوب واحد، وهو التخلّي عن الدُّنيا، عمّا يسمّيه الكتاب المقدّس “الإنسان القديم”. هذا التخلّي دُعِيَ إليه كلُّ مسيحيٍّ يومَ معموديّته، عندما سألَه الكاهن –أو سأل العرّابَ إذا اعتمدنا صغارًا-: “هل ترفض الشيطان، وكلّ أعماله، وكلّ ملائكته، وكلّ عباداته ومطرباته”؟ فيجيب الموعوظ: “نعم أرفض الشيطان”. وبعد هذا التعهّد، يُمسَح المُقبِل إلى المعموديّة بالزّيت، كما كان الأقدمون يفعلون أثناء تهيئة المصارعين للدّخول إلى حَلَبة الجهاد. هكذا يُمسَح المعتمِد قبلَ تغطيسه في الماء ثلاث مرّات، رمزًا إلى الأيّام الثلاثة الّتي قضاها المسيح في القبر. ثمّ يقوم المعتمِد، مشتركًا في قيامة المسيح، وقد أصبحَ إنسانًا جديدًا لابسًا المسيح (غلا3: 27)، ومدعوًّا بعد ذلك ليسلك في كلِّ أمرٍ بما يوافق المسيح، “في المسيح”، ويقتنيَ في سائر الظروف “فكرَ المسيح”.
في المعموديّة إذًا، أصبحنا مشاركي سِرَّ الخلاص من دون أيّ جُهد، ولكن يبقى علينا أن نحقّقَ هذا السّرّ في ذاتنا على مدى العمر، وأن نتبعَ المسيح في انتصاره. فإنّ صورة الله المرسومة فينا بالطبيعة تستعيد بالمعموديّة حيويّتَها، وامتدادَها نحو “المِثال”، كما هو مكتوب في سفر التكوين: الإنسان مخلوق على صورة الله ومثاله. ويُولي آباءُ الكنيسة هذا التمييز ما بين “الصورة” و”المثال” أهمّيّة كبيرة. فبسقوطه، فقدَ آدمُ “المثال”، من دون أن يفقد “الصّورة”، وهذا ما يفسّر الإحساس الفطريّ بصورة الله فينا أو الشعور الفطريّ بحضوره عند غير المسيحيّين، أو عند الّذين لم يسمَعوا قطُّ بالمسيح، سواءٌ عاشوا في أقطار الأرض البعيدة أو قبل المسيح كالفلاسفة القدماء. ولكن يبقى هذا الشعور عند هؤلاء ناقصًا، لأنّ “المثال” مفقود. في المعموديّة نستعيد بنعمة الروح القدس هذا التحرّك من الصورة إلى المثال. ولكن علينا أن ننمّيه إراديًّا. علينا أن نخوض هذه المعركة الرابحة مسبَقًا، ونطبّقها في ذواتنا. المفارقة هي أنّ الله الكلّيّ القدرة لا يريد أن يفعل شيئًا من دوننا. هذه كانَتْ مجازفته حينما خلقَنا أحرارًا، ثمَّ حينما أعاد خَلقَنا بالمسيح. فحتّى بعد القيامة، ليس الخلاص إجباريًّا، وحتّى بعد المعموديّة ليس ما يجبِرُنا على اتّباع وصايا المسيح.
أعداؤنا: الجسد والعالم
لِنَرَ الآن من هم أعداؤنا, وضدّ مَن يجب أن نحاِرب.
عندما يَذكرُ الكتاب المقدّس كلمتَي “العالم” و”الجسد” ، لا يعني بهما الخليقة المادّيّة، ولا جسم الإنسان، كما يفهم كثيرون، واصِفين المسيحيّة بأنّها ضدّ الجسم البشريّ والعالم المادّيّ. إنّما تشير هاتان الكلمتان الكتابيّتان المعروفتان منذ العهد القديم إلى كلّ ما لم يَخضَعْ فينا لانتصار المسيح، وإلى ميولنا الّتي تجرُّنا نحو حالتنا قبل المعموديّة، حالة الانفصال عن الله والتمرّد عليه، الّتي سبّبَت مرَضَ الجنس البشريّ كلّه. وما الموت والفساد سوى مظهَر من مظاهر هذا المرض العامّ. “الجسد” هو ما يَعزُلُنا عن الله، ويحرمنا شركةَ الروح القدس. لهذا لا ينبغي أن نأخذ هذه الكلمة كما يَفهَمُها فلاسفةُ الإغريق، حيث الجسد هو ضدّ النفس، بل يجب أن نأخذها في المفهوم الكتابيّ، حيث الجسد هو ضدّ الروح. الروح هي نَفخة الله، هي حياة الله الّتي تأتي وتَمُدُّنا بالحياة الحقيقيّة. فإنّ آدم صار “نفسًا حيّة” لمّا نفخ فيه الله من روحه.
هذا تمامًا هو مفهوم بولس لما يسمّيه “أعمال الجَسد” حيثُ لا يكتفي بإدراج الخطايا الجسديّة: “زنى، دعارة، عبادة أوثان، سِحر…”، بل يضيف إليها كلَّ ما يَمُتُّ إلى النّزعة الأنانيّة عند الإنسان: “عداوة، خصام، سخط، تحزُّب، شقاق، غيرة، حسَد…”(غلا5: 19). ويمكن أن نضيف إلى هذه اللائحة في أيّامنا ما في هذا العالَم من مظاهر كاذبة، وحضارة اللذة، والطّمَع، والمنافسة العائليّة والمِهَنيّة، وكذلك الكسَل، وفقدان الحسّ الروحيّ (الضّجر)، والضياع الرّوحيّ، والخلَل في أحكامنا وفي مقاييسنا بسبب تراجع القيَم. وإلى ذلك نُضيف القَلَق، والتَّعب العصبيّ، والتخيّلات الّتي تولّدها حضارةٌ مُتخَمَة بالصُّوَر والمعلوماتيّة، حضارةٌ “ظاهريّة” (virtuelle) نزداد غرَقًا فيها. كما نذكر السّعي وراء إشباع الرّغبات الأنانيّة، وشراهة البطن والعين، وطلب النّجاح الباهر وإعجاب الآخرين بنا.
إذًا أعمال “الجسد” هذه لا يمكن إحصاؤها، وهي معاصرة جدًّا. إنّها توافق “الإنسان القديم” الّذي يُبرِزُ رأسَهُ ويَشْرَئبُّ كلّما أَعطَيْنا الصّدارة للأنا. تأكّدو أنّه كلّما استخدمنا عبارة: “في رأيي أنا…” دلَلْنا أنّنا بدأنا ننزلِق روحيًّا، وننفصل عن الله والآخَرين. علينا إذًا أن نجدّد جهودنا حتّى نفهَمَ أنّنا لا نحيا بحسب “الإنسان الجديد”، إلاّ إذا تنازلنا للآخَر. أمّا “الإنسان الجديد” فهو المسيح الّذي يحيا فينا، هو الّذي عَرَفَ أن يتجاوزَ “الأنا” فيه إلى أقصى حَدّ. أمّا الآخَر، فليس قريبَنا وحَسب، بل الله، ومشيئتَه أيضًا.
من جهة أخرى، ما يناقضُ “الجسد” هو صوت الروح القدس في داخلنا، وهو صوتٌ ناعمٌ، يعرِضُ علينا بلطفٍ ألاّ نَدينَ الآخَرين، وألاّ نوجّه تفكيرنا دائمًا وِفقَ ما يَروقُنا أو ما نستسيغُه، وما نَميلُ إليه، بل أن نلتفتَ دائمًا إلى مشاعر الآخرين، ونفضّلَ مصلحَتَهم ورغبَتَهم على مصلحتنا ورغبتنا. وأهمّ من هذا كلِّه، يدعونا إلى تفضيل مشيئة الله على مشيئتنا الخاصّة: “لا كما أريد أنا بل كما تريد أنت”، كما قال المسيح.
نحن في العادة نظنّ أنّنا نجد الراحة في الرُّكون إلى إتمام مشيئتنا الخاصّة، ورغباتنا، وميولنا، وأحكامنا الّتي قد تبدو موضوعيّة وموافِقة للمنطق البشريّ. ولكنّ هذا المنطق البشريّ ينتمي إلى المدينة الأرضيّة، الّتي هي “الجسد”. والحقيقةُ هي أنّنا لن نرتاح إلاّ بالدخول في شَرِكَةِ الآخر والله. وإنّ ما يولّده الروح القدس فينا من انفتاحٍ على الآخرين وشفافيّةٍ صادقةٍ حِيالَهُم ليس إلاّ تعبيرًا عن هذه الشركة مع الله والناس.
ليس الشيطان عدوَّنا الألدّ، ولا “العالَم”، بل الأنا، هذه الأنانيّة الّتي يسمّيها الآباء القدّيسون “حُبّ الذات”، وهي مصدر مشاكلنا ومشاكل المجتمع كلّها. لذا “فالحرب الروحيّة” الّتي نحن مدعوّون لأن نخوضَها ضدّ الشيطان وأعوانه، من خلال حَمْلِنا الصليب كلَّ يوم، إنّما هي برنامج حياة الإنسان المسيحيّ.
في هذا الصّدد، يُطالعُنا القدّيس يوستينوس بوبوفيتش بالقول التالي، وهو اللاهوتيّ الصّربيّ الكبير الّذي أُعلِنَت قداستُهُ مؤخَّرًا:
“أن يكون الإنسان مسيحيًّا هو أن يتبعَ الإلهَ الإنسانَ ويجاهدَ جهادَه، من خلال إنكار الذات، حاملاً الصليب… وأن يُصلَبَ الإنسان يعني ألاّ يفكّر مثل الناس، ولا يجعل من الإنسان المقياس الأعلى للحقيقة، وأن يتخلّى عن الأنانيّة والإكتفاء بالذات، وعن كلّ ما يراه الإنسان القديم فينا مفيدًا لبناء النفس بمعزلٍ عن الله. أمّا الهدف من هذا الصّلب فهو أن يلبسَ الإنسان الرّبَّ يسوعَ المسيحَ الإلهَ الإنسانَ، الّذي هو المقياس الأصدق للحقيقة، بحيث تصير أفكارنا وأعمالنا كلُّها إلهيّة إنسانيّة، وقد تألّهَت بمطابقتها لمثال يسوع المسيح، الإله الإنسان”.
التوبة والتغصُّب وفق الإنجيل
هذا الجهاد الروحيّ يُعَبِّر عنه الآباء بكلمة “توبة” μετάνοια الّتي لا تعني مجرّد النّدم والأسف على الخطايا، والاعتراف بها، واتخاذ القرار بعدم العودة إليها. التوبة هنا تعني تغيير الذهن، تغيير الفكر، وتغيير نظرة الإنسان للحياة. عندما بدأ كلٌّ من القدّيس يوحنّا السابق والمسيح كرازتَه بالقول: “توبوا فقد اقتربَ ملكوتُ السموات، أرادا بذلك أن “غَيِّروا طريقةَ تفكيرِكُم، وعقليَّتَكُم، وسيرَتَكُم”.
بعد هذه الدَّعوة إلى التوبة، أضافَ الرّبّ: “ملكوتُ الله يُغصَب، والغاصبون يختطفونَه” (متى11: 12). وكذلك أكّد الآباء أنّ “حياة الإنسان المسيحيّ غَصبٌ دائمٌ للطبيعة”. ولكن مَن هم هؤلاء الغاصبون؟ أتُرى المسيحيّة تُشَجِّعُ العُنف، وهي الّتي تُعلِّم أنّ “الودعاء يَرِثونَ الأرض”؟ (متى5:5) إنّ هذا الغصب العنيف ليس موجَّهًا لا ضدَّ الناس الآخرين، ولا ضدَّ الخليقة المادّيّة، بل ضدّ التثاقُل الّذي ما زال فينا، وضدّ مُغرَيات العالم الخدّاعة، الّتي لا تنفكُّ تعود بنا إلى العيش بحسب “الإنسان القديم”.
لنا عند القدّيس مكاريوس المصريّ وصفٌ وافٍ لهذا الغصب الإنجيليّ، يُلخِّصُ فيه كلامَنا:
“…عندما يَدنو أحدهُم من الرّبّ ليحظى بالحياة الأبديّة، ويُصبحَ مسكنًا للمسيح ويمتلئ من الروح القدس، عليه أوّلاً أن يغصِبَ نفسه على فعل الخير، ولو لم يَمِلْ إليهِ قلبُهُ، وأن ينتظر رحمة الله بإيمان لا يتزعزع. عليه أن يَغصِبَ نفسَه ليُحِبَّ وليسَ عندَه محبّة، ويَغصِب نفسه على الوداعة وهو يَخْلو منها، ويَغصِب نفسه على الرأفة، ورحمة الآخرين، ويَغصِب نفسه على احتمال الهوان، والصّبر إزاء احتقار الآخرين، وعدم الإستياء إذا حسبوه بلا قيمة، أو عيَّروه… كذلك عليه أن يغصب نفسه لاقتناء الرجاء، والتواضع، والمحبّة، والوداعة، والأمانة، والبساطة، وكذلك ليكتسب كمال الصبر وطول الأناة بفرح (كول1: 11)، كما هو مكتوب”. علينا أن نغصبَ أنفسنا أيضًا لكي لا نعطي قيمةً لِذاتِنا، بل ننظر نرى أنفسَنا كأشقى الناس وآخِرَهم، ولكي لا نتكلّم في أمور باطلة، بل نتأمّل دائمًا في الإلهيّات، ونُحدّث بها بالقلب واللسان، ولكي لا نحتدَّ، بل نهتف كما هو مكتوب: “ليُرفَع من بينكم كلُّ مرارةٍ، وسَخَطٍ، وغَضَبٍ، وصياحٍ، وتجديفٍ، مع كلِّ خُبثٍ”(أف4: 31). الأمرُ نفسُه ينطبق من أجل اقتناء كلّ سلوكٍ موافقٍ للمسيح، وكلّ وداعة متواضعة، وعدم الترّفُّع، وعدم التعظُّم بالفكر، وعدم الاستكبار، ولا الكلام ضدّ أحد” …
إلى ذلك، يجب ألاّ ننظر إلى هذا الجهاد المَرير ضدَّ “الإنسان القديم” نظرتَنا إلى حربٍ موجِعَة دامية، بل نظرتَنا إلى تدريب رياضيّ بُغية التَّمَرُّس في الجهاد، والنُّمُوِّ في المسيح، وبلوغِ ملء قامة “الإنسان الجديد”. يجب ألاّ ننسى أنّ كلمة “نُسك” باليونانيّة –άσκηση- تعني “التمرين” (التّدريب)، ولا تُفيد معنى “الإماتة”، وما يَكتَنِفُها من ألمٍ وحُزن. كلاّ، هي تعني جهادًا فيه شجاعة وإقدام. لهذا ليس النُّسك عِندَنا مَشَقَّة مُضنِية. لقد قال الربُّ لرسُلِهِ: “نيري هيّن وحملي خفيف” (متى11، 29) وذلك لأنّه أحرزَ لنا انتصارًا مُسبَقًا، ولا يبقى علينا إلاّ أن نحقّق فينا سرّ الخلاص. هذا هو جهادُنا ونُسْكُنا. ما يبقى لنا هو أن نُظهِر إيمانَنا بأنّ المسيح انتصَرَ، وتَمَّمَ الخلاص، ولا يبقى لنا إلاّ أن ننفَتِحَ عليه.
ولكي نتمّم هذا الجهاد لا يكفي أن نتجنّب التجارب، والخطايا، بل أن نغذّي فينا شوق الله، وهذا الشوق كلّما نما فينا ساعدَنا على نسيان الخطايا، وجاذبيّة العالم والأهواء. يقول القدّيس مكاريوس أيضًا: “نجدُ في ما يَستَهوينا معونةً، ومثقالاً يَجتَذِبُنا نحوَه. فإذا أحببنا الربّ ووصاياه، يسهُلُ علينا تطبيق وصايا المسيح. فمحبّة الله تجرّنا نحو الخير كالمِثقال، ويصير كلُّ جهادٍ وكلُّ تجربة أمرًا سهلاً” .
بالتالي عندما نؤجّجُ في قلبنا شوقَ الله ووصايا الإنجيل، يمنحنا الروح القدس القوّة لنَغلِبَ جاذبيّةَ الخطيئة المعاكِسة “وهكذا نتمّم هذه الوصايا من دون مشقّة” ، وهذا ما كنّا عاجزين عنه من قبل، ولو بذلنا جهودنا كلّها. علينا أن نواجه هذا الجهاد بروح التفاؤل والرجاء، كما يعلّمنا الآباء القدّيسون، حتى نتوصّل أن نشتاق خوضَ التجربة، لنُظهِر مقدارَ محبّتنا للربّ.
مثال القدّيسين
إنّ ما يُساعدنا على حملِ هذا النّير هو أن نتذكّر أمثلة الحياة المسيحيّة، أعني القدّيسين، سواءٌ هُم من الماضي أو في الحاضر. علينا أن نقتدي بشوقهم المضطرِم لله. ولعلّ أكثرَهُم اضطرامًا هو القدّيس إغناطيوس الأنطاكيّ. لقد كتَبَ هذا القدّيس رسالة إلى المسيحيّين في روما، يسألُهُم فيها ألاّ يحاولوا إطلاقه من قيوده، بل أن يتركوه فريسةً للوحوش:
“سامحوني يا إخوتي، لا تمنعوني عن الحياة، لا تطلبوا موتي. اسمحوا لي أن أقتدي بآلام إلهي… اتركوني فريسةً للوحوش، الّتي ستساعدني لأجدَ الله. أنا حِنطةٌ لله، فأُطحَنُ بأنياب الوحوش، لأُضْحِيَ خُبزًا طاهرًا للمسيح”.
بعد زمان الاستشهاد والاضطهاد، اضطرمَ بعضُ الناس اشتياقًا إلى “إتمام آلام المسيح في أجسامهم”، كما يقول بولس الرسول (كول1: 24)، فانصرفوا إلى البراري، وثقوب الأرض، والغابات الدّاغلة، أو صعدوا أَعمدةً، بَحثًا عن العُزلة المساعدة على الصلاة، ليُقاتلوا بالجسد الأبالسة الّتي حَسَدَتْ ما يتمتّعون به من القُربى إلى الله.
ولا نتوقّفُ عند مثال القدّيسين القدماء، بل نَجِدُ في أيّامنا أشخاصًا عاشوا هذا الغَصْب الإنجيليّ لاكتساب سلام المسيح بنعمة الروح القدس. أمثال هؤلاء جدّدوا الحياة الروحيّة في جبل آثوس. ففي السّتينات من القرن الماضي، قلَّ عدد الرّهبان في الجبل المقدّس، حتى سادَ الظنّ أنّ جبل آثوس سيُغلِق أبوابَه. وفجأةً ظَهَرَ أشخاصٌ عندهم هذا الشوق لله، فَجَرّوا في إثرِهِم أناسًا آخَرين. وتغيَّر الوضعُ تمامًا، فتدفّق الشّبان على الجبل، طالبين الحياة الرُّهبانيّة. هؤلاء الأبطال الروحيّون معروفون لديكم: الأب يوسف الهدوئيّ (†1959)، والأب باييسيوس († 1994)، وسواهم. كان لكلِّ منهم طابعَه، وشخصيّتَه، ولكنّهم التهبوا جميعًا بعشق المسيح. والآن بعد خمسين سنة من هذا التَّجَدُّد، نكتشِفُ كُلَّ يوم أخبار رهبانٍ أقلَّ شُهرة، ولكنّهم كلّهم عبَّروا عن شوقهم للمسيح بالنُّسك، وبحياتهم البسيطة والفقيرة. ففي تلك الأيّام كانت ظروف الحياة صعبة في الجبل المقدّس، كما في كلّ مكان، فتوفّرت أسبابُ النُّسكِ حُكمًا. غيرَ أنَّ هؤلاء أضافوا أتعابًا إلى أتعابهم، وعبّروا عن محبّتهم للمسيح بالحرمان. حرَموا أنفسهم أيّ تعزية جسديّة، وافتَرشوا الحَضيض، وتناولوا خبزًا عفِنًا، وفضّلوا أن يَنقُلوا الأحمال الثَّقيلة على ظُهورهم، بدلَ استخدام الحَمير.
هذا الاستعداد للتضحية، ولتحمُّل المشقّة، هذا الحرمان الطّوعيّ، هو أكثر ما يُعوِزُ جيلَنا، وقد اعتَدْنا الراحة وطلَبِ التسهيلات. لهذا، في ظروف حياتنا، كلُّ ذَرّة زُهد أو تَخَلٍّ طَوعيٍّ تُحسَب عند الله بمستوى نُسك الآباء القدماء.

الجهاد الروحيّ المُعاصِر
لكلّ مرحلة من مراحل التاريخ أنماطُ نسك خاصّة بها، ولكن ما يهُمُّ ليس الشّكل الخارجيّ، إنّما روح السَّخاء الّذي يتميّز به ما نبذله من الجهود، علامَةً على محبّتنا لله. فنحن أيضًا نستطيع أن نقتفي آثار المجاهدين الروحانيّين، وليس هذا من الماضي. لا ينبغي أن نتعلّل بتغيُّر الظُّروف، وصعوبة الحياة المعاصرة. نحن مدعوّون إلى الجهاد بالمقدار عينه من محبّة المسيح. كلُّ مؤمن عليه أن يهتفَ مع بولس: “مع المسيح صُلبتُ. لستُ أحيا أنا، بل المسيح يحيا فيّ”(غلا2: 20). كُلُّنا مدعوّون لنحيا “جهالة الصّليب”، الّذي يزداد في أيّامنا تَعييرُهُ ونَعتُهُ بالجنون. أمسى العيش كمسيحيّ مَدعاةُ للسُّخريّة. ولكن لا بدَّ أن نأخذ هذه السُّخريّة على عاتقنا، كما يقول بولس الرسول: “لا يخدعنّ أحدٌ نفسَه. إن كان أحدٌ يظنُّ أنّه حكيمٌ بينكم في هذا الدهر، فليصِر جاهلاً لكي يصير حكيمًا…نحن جهّال من أجل المسيح” (1كور3: 19 و4: 10).
بالتالي، إنّ خَوض هذا الجهاد الروحيّ في حياتنا كمسيحيّين هو نتيجة نار الإيمان المضطرمة في نفوسنا، ويجب ألاّ نُخمِدَ هذه النار بالانشغالات الدّنيويّة والمادّية وهموم الحياة. علينا أن نؤجِّجَ يَوميًّا الإيمانَ الّذي هو عطيّة من الروح القدس، وهو نار في داخلنا نعبّر عنها بالثّقة بالله وبعنايته، وبالاتّكال على قوّة الصليب، لا على جهودنا الخاصّة.
يجب أيضًا أن نُظهِر جرأةً وإقدامًا في الجهاد، وهو ما يدلُّ عليه اليونانيّون بكلمة تجمع بين الكرَم، والشهامة، والأَرْيَحيّة، والشجاعة. فالآباء ينظرون إلى الإنسان الجبان، الّذي يتقاعَص عن الجهاد، كإنسان مُصاب بمَرَضَيْن: أوّلاً، حبُّ الجسد، وثانيًا، قلّة الإيمان. إذًا مَن يرفض الراحة والرَّخاء، حتى في تفاصيل حياته، يُظهِر إيمانَه بالله، وأنّه ينتظر الراحة الحقيقيّة في الدهر الآتي.
في جهادنا هذا الناتج عن شوقنا للاتّحاد بالله، نتقوّى عندما نَعي أنّنا نجاهد بمعيّة جسد المسيح، فنحن لا نجاهد وحدنا، بل مع الكنيسة. وجسد المسيح ليس الحاضرين معًا في هذه الحياة، بل الملائكة والقدّيسين أيضًا، كلُّنا نشكّل جسدًا واحدً. وفي هذا الجهاد نتغذّى بالأسرار، فهي تعطينا القوّة لتخطّي الأنانيّة. بالاشتراك في دم المسيح، نستمدّ القدرة على غلبة المظاهر الخدّاعة في هذا العالم. وهذا ما يميّز النُّسك المسيحيّ عن سواه من الممارسات النسكيّة في الروحانيّات الشرقيّة الرائجة في أيّامنا.

مراحل الجهاد الروحيّ
سنرى الآن كيف نجاهد هذا الجهاد الرّوحيّ، وما هي مراحل الجهاد وأشكاله في عالمنا المعاصر.
سبقَ وقُلنا إنّ المبادئ عند الرهبان، والكهنة، والعلمانيّين من المسيحيّين هي نفسها: أن نُنْكِرَ “العالم” بالمعنى الكتابيّ للكلمة، وأن نتوب، بمعنى أن نغيّر نظرتنا إلى الحياة.
يقول المسيح: “مَن يحبّني يحفظ وصاياي”(يو14: 4). ولكن ما هي الوصايا؟ كثيرًا ما تُعطيها دروسُ التّعليم الدّينيّ صفةً حقوقيّةّ يهوديّة: “إفعلْ هذا، لا تفعلْ ذاك، “لا تسرقْ، لا تقتلْ”… ما لا نفهمه جيّدًا أنّ العهد الجديد اتخّذ العهد القديم قاعدةً له، ولكنّه قَلَبَه رأسًا على عقِب. فهو يوجّه الوصايا في حركةٍ مختلفة تمامًا: “أحبّوا أعداءكم… صلّول للذين يضطهدونكم”… ضمن كلمة “الوصايا” تنضوي الحياة المسيحيّة بجملتها، لا الممارسات النّسكيّة فحسب، من صوم، وسهَر، وصلوات طويلة في الكنيسة، وسجدات. فهي تتضمّن الجهاد الّذي على العلمانيّين أن يقوموا به في حياتهم العاديّة اليوميّة، ألا وهو التخلّي عن الأنانيّة، وعن مقاييس هذا العالم.
إلى جانب إنكار العالم هذا، أوّل جهادٍ أمامَنا، ولعلَّهُ الأصعب، هو أن نتجرَّدَ من الإكتفاء بالذات، من حبِّ الذات الّذي يَحدونا على تفضيل ما يروقنا ويُريحُنا على حساب الآخَرين. لنا كلام كثير في هذا الأشكال المتعدّدة الّتي قد تتّخذُها هذه الأنانيّة من خلال آلاف من العادات تبدو طفيفة، ولكنّها ترمي كلّها إلى إبراز الإنسان لذاته.
من أهمّ أشكال هذه الأنانيّة تكديس أشياء لا لزوم لها. فمجتمعنا اليوم لم يَبْقَ “مجتمعَ الاستهلاك”، بل “مجتمع الطّمع”، وهو لا ينفكُّ يختلق حاجات كاذبة تمسي لنا من ضروريّات الوجود. لهذا قالَ أحد الإعلانات: “أنا أشتري إذًا أنا موجود”. فبدءُ جهادنا يكمن في التخلُّص من أشياء تُكدِّرُ حياتَنا وهي غير لازمة، والاكتفاء بما هو ضروريّ.
فالطّمع لا يعني فقط أن نكدّس الأشياء، بل أيضًا أن نسعى إلى راحتنا الشخصيّة، أو أن نتوخّى اتّباع الموضة. كما يشمُل الطُّموح، والسَّعي إلى الكَرامات، والمَيل إلى الكلام في كلّ مناسبة تعبيرًا عن رأينا، والفضول المؤذي الّذي يدفعنا إلى الاستعلام عن كلّ شيء لنُبرِزَ أنفسَنا بين الناس. فهذه العادات كلّها أشكالٌ أخرى للطّمع.
وإلى جانب القناعة في التعاطي والمادّيّات، يكمنُ خيرُ سبيلٍ إلى الجهاد الروحيّ في عدم الاتكال على قُوانا الخاصّة، ومعارفنا الذاتيّة، وخبرتنا، بل إدراج أنفسنا في صفّ المبتدئين، والمبادرة إلى طلب النصائح في كلّ أمر، حتى من أناس يصغروننا سنًّا. ويمكننا أيضًا أن نُعبّر عن عزمنا على محاربة ميولنا الأنانيّة من خلال تَقبُّل معاكسات الآخرين لنا سواءٌ في العمل أو ضمن العائلة.
الجهاد الثالث يقتضي ألاّ نعزو إلى ذواتنا أيًّا من أعمالنا الصالحة، وألاّ نيأس من سقطاتنا، لأنّ هاتَين الحالّتين تكشفان كلاهما أنانيّةً تتخفّى وراءَ كلامٍ فيه تذلّل وتقوى. ولكنّ المتواضع ليس مَن يتذلّل بالكلام، بل مَن يسعى إلى التخفّي، والخَفَر، كما يقول أحد المؤلّفين المعاصرين (تيتو كولياندر).
فعوضَ أن نتّخذ على عواتقنا تعهّداتٍ كبيرة لن نستطيع التزامها، ومن شأنها أن تحبطَ عزيمتنا، خيرٌ لنا أن نبدأ بالأمور الصغيرة الّتي تساعدنا على اختبار بسالتنا في الجهاد. هكذا نطبّق كلام الرّبّ: “الأمين في القليل أمين أيضًا في الكثير، والظّالم في القليل ظالم أيضًا في القليل”(لو16: 10).
يكفي مثلاً أن ننتبه إلى ما يتحرّكُ فينا من الاستياء والتمرّد كلّما تُعكِّر علينا الظروف إحدى عاداتنا الحميمة الّتي تَعلّقنا بها. وسرعانَ ما نلحَظُ كثرة هذه العادات. عددٌ كبيرٌ منها كانت تصحّحُه أو تضبطُهُ في السابق التربية الموروثة والآداب، وهو ما كناّ نسمّيه حُسن الأخلاق. ولكن في عالمنا الّذي فقدَ جذورَه المسيحيّة، وأخذت تستشري فيه الفظاظة ودناءة الأخلاق، بِتنا في أمسّ الحاجة لأن نقاومَ عادتَنا أن نسعى إلى فرض ذوقنا على الآخرين، ورغبتَنا في إبراز أنفسنا، وفي امتلاك تقدير الآخرين واعتبارهم، إلى جانب كلِّ ما نجمعُه من الأشياء المادّية الّتي ترضي شهواتنا.

هكذا بفضل جهادنا النّسكيّ ضدّ الأنانيّة نكتشف أنّ الناس المحيطين بنا ليسوا أعداءَنا، ولا منافسينا، ولا عبيدنا، بل هم “قريبُنا”. هذه الكلمة الّتي نَحَتَها العهدُ الجديد تعني أن أنظر إلى سواي من البشَر نظرَتي إلى “إيقونات على صورة الله”، مع اليقين بأنّهم لا يقِفون في وجه مصالحي الشخصيّة، بل يكشِفون لي سرّ حضور المسيح، وهو مَن صار “قريبي” بامتياز.
يَشيعُ في أيّامنا الكلام على محبّة القريب، وغالبًا ما نتعاطاها بمعناها السطحيّ الأقرب إلى الإحسان، فتتّخذ شكلَ أعمال الرّحمة والخير، الّتي نقوم بها لنرضي ضميرنا. ولكنّنا في الوقت ذاته نستمرُّ في حياتنا اليوميّة نتلفّظ بأقوال قاسية، وبالانتقادات، ونبدي لامبالاةً تجاه الأشخاص الّذين نلتقيهم.
فقبلَ الوصول إلى محبّة القريب الحقيقيّة، الّتي هي “أن يعطي المرء حياتَه لأجل أحبّائه (يو15: 13)، اقتداءً بالمخلِّص، علينا أن نضاعفَ جهودنا حتى نقبَل الآخر على اختلافه. وقبول الآخر يعني أن أرغِمَ ذاتي على عدم إدانته، وعدم السّعي إلى تصحيحه في كلّ مناسبة، رغبةً في إخضاعه لمقاييسي وميولي الخاصّة. لا، بل ينبغي أن أقبله كما هو.
قد يبدو هذا الموقف مُعثِرًا للذين يعترضون قائلين: “إذًا أنتركُ المجرم على هواه، احترامًا لاختلافه عنّا؟” طبعًا ليس هذا ما نقصدُه. فقبول الآخر لا يعني تبرير الخطيئة أو الخطأ، بل التعاطي والناس الّذي نعاشرُهم في حياتنا اليوميّة بما نوليه من الاحترام واللطف لإيقونة حيّة، مهما تشوّهت أو تلطّخَت بالإثم. هذه هي القاعدة الذّهبية الّتي علّمنا إيّاها الأب إيميليانوس في علاقاتنا الدّيريّة مع الناس، ولكنّها تنطَبق أيضًا على حياة الناس العائليّة والمهنيّة، إلاّ طبعًا في ما ينافي الإيمان والأخلاق.
نعبّر عن احترامنا للآخر هذا بلطفنا، وصبرنا على عيوبه، حتى ولو جلَبَت لنا الضّرَر. يقول الأب باييسيوس إنّنا في أوّل جهادنا نميل أن نفرض على الآخرين ما نفرضه على أنفسنا، ومع تقدّمنا نزداد تطلُّبًا حيال انفسنا، وبقدر ما نشعر بحضرة الله، نزداد لينًا تجاه الآخرين، ونعذُرُهم على نقائصهم.
يجب أن نضبط سَوْرات الغضَب، ونَجتنب معاكسة الآخرين، ومجاوبتهم، والدخول في مجادلات لا تنتهي لإثبات آرائنا. فإذا طرأ خلافٌ أو خصامٌ، جديرٌ بنا أن نُنذِرَ الآخر مرّةً أو مرّتيَن، ثمّ نرتدُّ عنه، ونتركُهُ يتحمّل مسؤوليّة تصرّفاته. وإذا نشبَ فيما بعد جدالٌ حول تصرّفِه أو الخطأ الّذي ارتكبه، فَلنتحاشَ انتقادَ الشخص المسؤول، وكشفَ عيوبه للآخرين، ولنتلافَ بشكلٍ عامٍّ أن نثرثر ونتناول الآخرين بلساننا ممّا يفتح الباب لخطيئة الوقيعة.
ويظهَر احترامنا للآخرين في التصرّف معهم بلباقة ورفق، والاهتمام بهم، حتى لو كانوا أصغر الإخوة، مفضّلين الآخَر دائمًا على أنفسنا. إنّ نبرة الصّوت، وطريقة إلقاء التحيّة، والاهتمام بظروف حياة الآخرين، بعيدًا عن التكلُّف والمراءاة، وكلّ التصرّفات الّتي تؤلِّفُ ما نسمّيه “التهذيب” والمناقبيّة الاجتماعيّة، إنّما لها جذور مسيحيّة، ويمكن أن تتّخذَ بُعدًا روحيًّا، إذا مارسناها بصدق نيّة.
إلى ذلك، نعبّر عن اهتمامنا بالآخَر وهذا هو بدءُ المحبّة، بالقيام بأعمال صالحة من دون مصلحة. حينئذٍ نشعر بفرح العطاء والتضحية في سبيل الإخوة القريبين والبعيدين. هذا الفرح الّذي نشعر به طبيعيًّا عند العطاء قد يصبح فرحًا إلهيًّا عندما يتطلّبُ بذلاً للذات، كما يعلّم الأب باييسيوس.
الامساك: الصوم عن العالم
بعد أن ذكرنا الجهاد ضدّ الأنانيّة، نسوق الكلام إلى سلاحَين أساسيَّين يسمحان لنا بالتقدّم في الحياة بالمسيح: الإمساك، والسّهر أو اليقظة.
هذان المفهومان النّاشئان من خبرة الرّهبان مع العالم يلخّصان الجهاد الروحيّ خير تلخيص، حتى إنّ آباء الحياة الرهبانيّة سُمّوا “الآباء اليقظين”، أي الساهرين. فهؤلاء أحرزوا علمَ “سَهَر النَّفس”، الّذي من دونه يستحيل التواصل والله بالصّلاة.
وفقَ هؤلاء الآباء، تبدأ الحياة الروحيّة حُكمًا بالصّوم، أو ما يُدعى أيضًا “الإمساك” (εγκράτεια)، وهو لا يقفُ عند التزام الصّوم في الفترات المحدّدة كَنَسيًّا، استعدادًا للأعياد ولتناول الأسرار المقدّسة. أجل، هذه الفترات مهمّة لأنّها تعطي نمط حياتنا مَنحاه الكنسيّ، ولكنّها لا تكفي. فالصوم يجب أن يحدِّد حياتنا اليوميّة بشكل ثابت، ويضعُ حدودًا طوعيّة لمَيْلِنا إلى إشباع رغباتنا. إنّه يكمن في استبدال اللذة المادّيّة العابرة لا مَحالة بفرح الحرمان الطوعيّ. وفرح الحرمان بدافع محبّة الله يولّد فينا، بالمقابل، حِسًّا متناميًا لحضور الله. فالربّ بدأ رسالته بالانعزال في الصحراء، والانصراف إلى الصلاة والصوم، رغمَ أنّه لا يحتاجهما، لكي يعطينا مثالاً نقتدي به، ويعلّمنا أنّ مَن يريد اتّباعه عليه أن يصوم.
في ظروف حياتنا المعاصرة، يجب أن نعبّر عن الإمساك لا بالحرمان من الطعام فقط، بل بالجهاد ضدّ الشبع في كلّ أمر. وكلّ مَن أراد أن يحفظَ ضميرَه نقيًّا للحضور أمام الله معنيٌّ بهذا الامساك، وهو ينتمي إلى الّذين “يستعملون هذا العالم وكأنّهم لا يستعملونه”(1كو7: 31). لهذا ينصحنا الآباء أن ننهض عن المائدة قبل أن نشبع تمامًا، ونحن ما زلنا على قليل من الجوع. فالإمساك هو أن نتكفي بأقلّ ممّا يُشبِع رغباتنا وحاجاتنا. والتقليل من طعامنا ومن راحتنا كلّ يوم هو جهاد حقيقيّ، نقيس به مقدار شوقنا لله، ثمّ نطبّقه على الميول الأنانيّة الأخرى الّتي فينا.
في “العصر الصّناعيّ” الّذي انتهى لتوِّه، كان الإنسان مستهلِكًا لا يشبع للسّلع المصَنَّعة، وقد جعل منها أصنامًا له. أمّا في المجتمع “ما بَعد الصّناعيّ” postindustrielle société، الّذي دخلنا فيه، ليس الإنسان مستهلكًا وحسبْ، بل يزداد استعبادًا للصّوَر والمعلومات الّتي تملأ حياته. إذًا تقتضي ممارسة النُّسك في العالَم أن نصومَ “صَوْمَ العَينَيْن”، أن نصوم عن المعلومات غير المفيدة، والملاهي الّتي تضيّع وقتنا، فيما نستطيع أن نستثمرَ هذا الوقت بالأنشطة الروحيّة الّتي تغذّي نفوسَنا. فمعظم النّاس يقولون إنّهم لا يملكون الوقتَ للصلاة وأنشطة الحياة الروحيّة، ولكنّهم يجدون الوقت لترصّد الأخبار الّتي تتدفّق بلا توقّف، ولا تعطي عن الحقيقة إلاّ صورة مُتَحيِّزة. والحقّ إنّ معظم هذه المعلومات غير نافعة، وهي بالأحرى “فراغ من المعلومات”، وحشو للدّماغ يتلاعب به أخصّائيّو وسائل الإعلام، فيستعبدوننا للأُدلوجات الطاغية idéologies، ويوهموننا بالمعرفة.
اليقظة أو الجهاد ضدّ الأفكار
أكثر من “صوم العَينَين” إنّ “صوم الأفكار” أو ما يُسمّى اليقظة والسّهَر، هو سلاحنا الماضي، سيّما في عالمنا المعاصر. والحقّ إنّ الإنسان القديم يظهر من جديد فينا من خلال الأفكار الموحاة لنا من الشيطان. عندما يتكلّم الآباء عن الأفكار، يقصدون الأفكار المحرَّكة من الأهواء، لا حركات الفكر ونشاط العقل. تظهر هذه الأفكار في قلبنا بشكل صور بسيطة، تعيدُ إلينا ذكرى ما أو عملاً سيّئًا قُمنا به. في هذه المرحلة، إذا لم يأتِ هذا الفكر من أنفسنا، لسنا نُلام. أمّا إذا بدأنا نقبل هذه الصّورة بانسجام ورغبة، تبدأ “علاقتنا” بها. إذا لم نَصُدَّ هذه العلاقة بقوّة، نقع أسرى الفكر الّذي يبدأ يلحُّ علينا. فإمّا نُذعِنَ لهُ، أو نطردُهُ بالصّلاة الحارّة. وأمّا إذا قبلناه، اتّخذ هذا الفكر مكانًا في نفسنا كأحد الأهواء، فيقودنا إلى الخطيئة بالفعل. هذه العمليّة الّتي تولّدها أفكار الأهواء في ذاتنا حلَّلَها “الآباء اليقظون” -Pères neptiques- وجعلوا منها علم النّفس وحركاتها. فعلم النّفس الحديث ليس إلاّ نُسخة علمانيّة هزيلة لعملهم هذا.
ينصح الآباء القدّيسون المجاهدون الرّوحيّون بطرد كلِّ فكر محرَّكٍ من الأهواء، ما إن يَظهر في القلب. يقولون، مستعينين بصورة من المزامير، إنّه يجب أن نحطّم أولاد بابل ضاربين بها صخرة المسيح، بالنّداء باسمه (أنظر مز136).
ولكن، لكي نستطيع أن نميّز بذور الأفكار الّتي تُفرِعُ فينا،علينا أن نسهر سهرًا كافيًا على حركات قلبنا، وكياننا الداخليّ. هذا السّهر يُدعىَ أيضًا “حفظ القلب”، وهو يحوي كذلك مجمل العلم الرّوحيّ، ويتضمّن درجات لا تُعَدُّ ولا تُحصى. ولكنّنا لا نستطيع أن نتمرّس فيه إلاّ بقدر ما تخلو حياتنا من الاضطرابات والحوادث الّتي تقطع علينا مسيرة الترقّب الداخليّ للنَّفْس. فكما يتعذَّر الإبحار في مياهٍ تخبطها الأمواج، كذلك لا يُمكِنُ أن نجتاز في خضمّ القلب المضطرِب.
أجل، تبقى شروط اليقظة الداخليّة صعبة التحقيق لمَن يعيش في العالم، فلذلك يوصي الآباء بتغذية الأفكار الصالحة لمقاومة الأفكار الشرّيرة. اعتاد الأب باييسيوس أن يقول: “الحياة الروحيّة كلّها كامنة في تغذية الأفكار الصالحة، وتنميتها بمشاركة القلب… يجب أن نجعل أنفسنا مصنعًا للأفكار الصالحة”.
ولكن ما هي تلك الأفكار الصّالحة؟ إنّها أوّلاً أن نطردَ الفكر الّذي يعودُ بنظرنا صوبَ الإنسان القديم ما إن يبزغ رأسه. نطرده فورًا بعلامة الصّليب وبالدّعاء باسم الرب وبوالدة الإله والقدّيسين. فمن دونهم، لا نستطيع شيئاً.
ثمّ علينا أن نجاهد لأن ننسب النّوايا الصالحة إلى الآخرين، ولو آذونا، من غير أن نحاول تحليل دوافعهم. “تغذية الأفكار الصّالحة تقودنا إلى الّصلاة من غير تشتّت”.
في هذه التوصيات كلّها نجدُ برنامجًا كاملاً يتطلّب منّا جهادًا كبيرًا، لأنّ تربيتنا مؤسّسة على روح المنافسة، والتنازع، ورفض الآخر. أمّا إذا حاولنا الانتباه إلى الأفكار، لنحفظ قلبَنا من الإيحاءات الشرّيرة أوّلاً، ومن التشتّت ثانيًا، فيمكننا أن نتقدّم في الحياة الهدوئيّة، ولو في العالم، رغمَ الهموم والملاهي الّتي لا بدّ منها.
المطالعة الروحيّة والصلاة
إنّ سبُل الجهاد الروّحيّ السابق ذكرها تنتمي إلى ما يسمّيه الآباء القدّيسون “العمل” بالوصايا، وهو يرمي إلى “تطهير الضمير” للمثول في حضرة الله. ولكنّ هذه الممارسة لا تكفي. يجب أن تُرفَقَ بجهاد آخر يكمُّلها، وهو جهاد داخليٌّ أكثر من الأوّل. إنّه البحث عن علاقة حيّة وغير منقطعة مع الله، من دونها يتهدّدنا خطر التّعب في وقت قصير.
من أجل تغذية هذا الشوق الأوّليّ لله، الّذي يُطلِق فينا الجهاد، علينا، في البدء،أن نتأمّل مليًّا في كلمة الله، ونغذّي ذكر الله.
فالمطالعة الروحيّة تختلف عن المطالعات الأخرى الّتي نقوم بها بغية الاستعلام والتعلّم، حتى في مضمار اللاهوت. وللإفادة حقًّا من هذه المطالعة، يجب أن نخصّص لها أوقاتًا مميزّة، وأن نُقبِلَ على هذه النّصوص بما نوليه من الوقار للإيقونة أو لرفات القدّيسين، ونحن على يقين أنّنا ذاهبون للقاء الله أو القدّيس شخصيًّا من خلال أقواله. حينئذٍ تصير هذه القراءة لمسًا حقيقيًّا لفِعل النّعمة الإلهيّة. فنشعرُ كأنّ أقوال الكتاب وُضِعَت من أجلنا، ونتلو المزامير وكأنّ ما تعبِّر عنه من التسابيح أو الإستغاثة هو كلامنا الخاصّ. وإذا قرأنا مآثر القدّيسين اشتهينا أن نماثلَهُم. ولكي نستفيد من هذه القراءة، يجب أن نتلفظّ ببطء، وربّما بصوت خافت، بالمقاطع الّتي تلمسنا، مكرّرينها، ومتأمّلين في معانيها، حتى تنفذ إلى قلبنا، وتتّحد بكياننا. فتأمّل كلمة الله، مثل تناول الطّعام، يجب أن يُمضَغَ جيِّدًا لكي يتمَّ هضمُه، وينتقل إلى دَمِنا، ويُحييَ كياننا كلَّه.
إلى جانب المطالعة المقرونة بالتأمّل، يجب أن نغذّي في ذاتنا ما يسمّيه الآباء القدّيسون كلّهم “ذكر الله”. بهذه العبارة، يريدون حِسًّا بحضرة الله يغذّيه الإيمان، ويقينًا بأنّه ينظرنا بحنوٍّ، ويتابع تقدّم جهادنا. ولينموَ فينا هذا الحسَّ، يجب تغذيته بالدُّعاء المتواتِر، قدر الإمكان، أي المناجاة بعبارة واحدة: “ربّي يسوع المسيح ارحمني أنا الخاطئ”. هذه العبارة الّتي أثبتتها خبرة الأجيال تلخِّصُ سرَّ الخلاص كلَّه، وهي السّلاح الأمضى في جهادنا ضدّ قُوى الظّلام.
“إجلد أعداءَك باسم يسوع لأنّه ليس في السماء ولا على الأرض سلاحٌ أقوى”.
بالدّعاء باسمه، يحضُرُ الربّ بكلِّ قوّة خلاصه. هذه الصلاة يجب أن ترافقنا في كلّ مناسبة، وأن نردّدها وسط الملاهي المحيطة بنا، في العمل، في النَّقل العامّ، في مُحادثاتنا الواهية، فهي تؤجّج شوقنا لله، وتهيّئنا للدخول في لقاءات أشدَّ قربى إليه، عندما تسنح الظّروف.
ولكي ننصرف إلى المطالعات الروحيّة، والصلاة، يجب أن نُفسِح في المجال في حياتنا لأوقات مميّزة من الهدوء، نستطيع فيها أن نختلي في هيكلنا الدّاخليّ للقاء المسيح في الصّمت. وبقدر ما نجاهد ضدَّ تعلّقنا تعلّقًا أهوائيًّا بالأمور والأشخاص، وبممارسات الحياة الدّنيويّة وبالفضول، نخترق جدران أنانيّتنا، ونلتفت إلى الآخر. حينئذٍ تنمو فينا الرّغبة أن نلتقي المسيح لقاءً حميمًا، وهو مَن جعلَ نفسَه “قريبَنا” بتجسّدِه، لكي يصير عريس نَفْسِنا. الجهاد الرّوحيّ المطروح إزاءَنا، سواءٌ كنّا رهبانًا أم علمانيّين، هدفه الوحيد في النهاية هو أن نوقظ في أنفسنا هذا العشق للمسيح، محرّرين النّفسَ مِن عُشّاقها المزيَّفين. ورغمَ سقطاتنا، وخيباتنا في الجهاد، وإخفاقنا أحيانًا، إذا لم نَيْأَس، بل عاودنا الكفاح كلَّ صباح، واضعين رجاءنا في معونة الله، نتعلّم أن ننتبه لصوت الّذي يقرع باب قلبنا، منتظرًا أن نفتح له، ليدخل ويتعشّى معنا (رؤ3: 20). حتى تلك الساعة، لم نكُن نسمع، لالتهائنا بصخَب الدُّنيا.
عندما يتحرّك فينا الشوق، نجد بسهولة أوقات ننفرد فيها للصلاة، سواءٌ في الليل أو في الصباح الباكر، حيثُ لن نُكثِرَ الكلام أو الترتيل، بل سوف نصغي لوقع خطواته. في هذه الأوقات، مهما نجدُ صعوبةً في التركيز او حتى في لفظ كلمات الصّلاة، يجب ألاّ نفقد الشجاعة، بل ننظر إلى الأمر كأحد سُبُل الجهاد، ولعلّه أصعب من الجهادات السابقة. فالصلاة أيضًا غصبٌ لطبيعتنا، وتَعَلُّمُ الصلاة الحقيقيّة، أي الصلاة من دون تشتّت، يتطلَّبُ وقتًا.
ومهما نشعر بضعفنا، فعندما نجد أنفسنا على انفراد مع المسيح، وهو حاضرٌ ولو غيرَ منظور، يجب أن نجتنب السماح لفكرنا بالتّشتت، حتى في تأمّلات أو صور تَقَويّة. كما ينبغي أن نتفادى التعاطي في قلبنا والأفكار المختلفة أوهموم الحياة اليوميّة. كلُّ جُهدِ الصّلاة، ولو في البدء، كامنٌ في “طرد كلّ تصوّر”، من أجل الإصغاء. والسبيل إلى هذا الإصغاء، إلى هذا الصمت الداخليّ، هو ترداد صلاة يسوع بانتباه، حاصرين تركيزنا كلّه في كلمات الصلاة.
قد يتشتّت ذهننا، وقد نصل إلى العجز عن التلفّظ بالصلاة، ولكن إذا تمتّعنا باستعدادات التواضع والتوبة، واقتربنا من الله ونحنُ مُدرِكون حالتنا الخاطئة، نزداد غصبًا لأنفسنا على ذكر إسم الحبيب. ومع الوقت، نشعرُ بفرحٍ عفويّ يحرّك قلبنا، ويبدِّدُ الإحباط، وإذ بالصّلاة تتدفّق من دون توقّف، من دون جهود.
أمّا سهولة الصلاة هذه، وغياب التشتّت، والانجذاب نحو الله فكلّها من ثمار الروح القدس الّذي يأتي ليكافئ جهودنا. وهنا أيضًا يأتينا القدّيس مكاريوس خيرَ وصف لهذه الحالة:
” الحقّ إنّ الطفل الصّغير، ولو لم يمكنه أن يعمل شيئًا من ذاته، ولا يستطيع أن يذهب إلى أمّه على قدميه، إلاّ أنّه يتقلّب، ويصرخ، ويبكي، باحثًا عن أمّه. فتتحنّن عليه أمُّه، وتفرح لرؤياها الصّغير يسعى إليها من كلّ قوّته ويصرخ، وبما أنّه لا يمكنه الوصول إليها لوحده، تتحرّك الأمّ بدافع شوق الطّفل وحبّها له، وتحملُه بين ذراعيها، فتداعبه، وتطعِمُهُ بمنتهى الحنان. هذا أيضًا ما يفعلُه الله المحبّ البشر مع النّفس الّتي تأتي إليه، بشوقٍ حارّ”.
أين مُغريات هذا العالم بأسرها من اختبار هذه الحلاوة. فمَن يحسُّ بها مرّة واحدة لا يتوانى عن بذل كلّ جهدٍ لاستعادتها، ولو تعيّنَ عليه انتظارها والمثابرة في طلبها سنواتٍ مُكتَنَفًا بغياهب الظّلام. حينذاك نتعلّم من إيماننا كما من خبرة القدّيسين أنّ الرّبّ لم يتخلَّ عنّا، بل إنّه يحثُّنا على طلبه، ويمتحن عزيمتَنا وصبرَنا بجهادٍ أخير، رغبةً منه في أن يوشّحنا بأمجاد عُليا.
إذّاك نُدرِكُ أنّ الحياة المسيحيّة ليست مجرَّدَ جهادٍ مُضنٍ، نخوضُه لتتفتّح فينا نعمة المعموديّة، بل هي أيضًا انتظارٌ لذيذٌ مِلحاح للّذي يأتي على السّحاب “كي يأخذ لهُ مُلْكًا”، وسوف يورثنا معَه، كأنّه “بكرُ إخوةٍ كثيرين”.
“اَلرُّوحُ نَفْسُهُ أَيْضًا يَشْهَدُ لأَرْوَاحِنَا أَنَّنَا أَوْلاَدُ اللهِ. فَإِنْ كُنَّا أَوْلاَدًا فَإِنَّنَا وَرَثَةٌ أَيْضًا، وَرَثَةُ اللهِ وَوَارِثُونَ مَعَ الْمَسِيحِ. إِنْ كُنَّا نَتَأَلَّمُ مَعَهُ فلِكَيْ نَتَمَجَّدَ أَيْضًا مَعَهُ” (رو8: 16-17).

 

 

الجهاد الروحيّ من أجل سلام النفس