...

التعليم الآبائي عن سر الثالوث

 

 

 

سر الثالوث الأقدس الذي تؤمن به الكنيسة لم يكن إذاً نتاج فكر بشري ولا حصيلة تأثيرات دينية أو فلسفية خارجية متأخرة، وإنما كان أساس بشارة الرسل ذاتها التي عاشوها ونقلوها هم أنفسهم كخبرة تأله وحياة “الذي رأيناه وسمعناه نخبركم به لكي يكون لكم أيضاً شركة معنا. وأما شركتنا نحن فهي مع الآب ومع ابنه يسوع. ونكتب إليكم هذا لكي يكون فرحكم كاملاً” (1يو1: 3-4).
1. تعليم كنيسة القرون الأولى:
دليلنا على هذا الكلام ليس فقط آيات الكتاب المقدس التي قدّمت نماذج عنها، بل أيضاً كل ما وصل إلينا من تعليم كنسي خلال القرون الأولى.
a. دساتير الإيمان القديمة:
o وهي الصيغ المختصرة التي كان يلفظها الذين كانوا يتقدّمون من سر العماد المقدس أو الذين كانوا يريدون أن يعبّروا بطريقة أو بأخرى عن إيمانهم المسيحي. وبالرغم من كثرة الدساتير بسبب تعدد الكنائس، إلا أن هناك قاسماً واحداً مشتركاً يجمع بينها وهو الإيمان بالثالوث الأقدس والخلاص بيسوع المسيح. أقدم هذه الدساتير التي وصلت إلينا الدستور الرسولي والدستور الأثناسيوسي.
b. أسرار وعبادة الكنيسة الأولى:
o كانت المعمودية تمنح من أقدم العهد “باسم الآب والابن والروح القدس” بشهادة كتاب تعليم الرسل الاثني عشر وآباء أولين -مثل يوستينوس وايريناوس وترتليانوس. لا بل إن طريقة التعميد بالتغطيس ثلاثاً تدل على هذا الإيمان. لأن كل غطسة تصير باسم أحد الأقانيم الإلهية. أمّا بخصوص العبادة فأهم ما كان يميّزها “التمجيد” الذي كان يرفع للثالوث الأقدس. أقدم هذه التمجيدات المعروفة صيغةً “المجد للآب والابن والروح القدس” ونشيد الغرب “يا نوراً بهياً”.
c. اعترافات شهداء قبل موتهم:
o من بين هذه الاعترافات التي وصلت إلينا والتي تشهد عن إيمان الشهداء الراسخ بالثالوث صلاة القديس بوليكاريوس (أسقف أزمير) الموجهة إلى الآب قبل أن يجروه حياً “أمدحك من أجل هذه النعمة ومن أجل كل شيء، وأباركك وأمجدك بواسطة رئيس كهنتك الأبدي والسماوي يسوع المسيح ابنك الوحيد الذي لك معه ومع الروح القدس المجد من الآن وإلى دهر الدهور آمين”.
d. آباء الكنيسة:
o من الطبيعي أن يستمر تعبير الكنيسة عن إيمانها بالثالوث بهد الرسل من خلال بشارة وكتابة آبائها الرسوليين. من بين مؤلفات هؤلاء الآباء التي تتسم بالبساطة. وصلت إلينا رسالة القديس (اقليمندس الروماني) إلى أهل كورنثوس والتي يقول فيها: “أليس لنا إله واحد ومسيح واحد وروح قدس واحد انسكب علينا” (46: 6). كذلك من بين الإشارات الكثيرة للثالوث والتي وردت في رسائل القديس أغناطيوس الأنطاكي نذكر “حاولوا أن تتبعوا في عقائد الرب والرسل حتى تنجحوا في أفعالكم في الجسد والروح في الإيمان والمحبة في الآب والابن والروح القدس” مغنيسية 13: 1.
o أما الآباء المدافعين: فقد اضطروا أن يتكلموا أكثر عن سر الثالوث لكي يدافعوا عن المسيحية ويدحضوا الهرطقات. فأشاروا بصورة خاصة غلى الكلمة الإلهي وعلاقته بخلق العالم. لكن عباراتهم اتسمت أحياناً بعدم الدقة. وذلك بسبب عدم الاتفاق النهائي في ذلك الحين على الاصطلاحات التي يمكن من خلالها التعبير عن الأسرار الإلهية؟ فمثلاً يدحض (اثيناغوراس) تهمة الإلحاد الموجهة إلى المسيحيين قائلاً: “كيف يدعى ملحدين الذي يعترفون (بالله الآب والله الابن والروح القدس) ويقرون بقدرتهم في الوحدة (وحدة الجوهر) وبتمايزهم في النظام. في حين يهاجم (ايريناوس) ثنائية الغنوسيس-الغنوسيين معلناً أنه يوجد إله واحد فقط كل القدرة الذي خلق الكل بواسطة كلمته وروحه.
o وعموماً ظهرت أحياناً لدى الآباء المدافعين نزعة تعبّر عن عدم مساواة بين الأقانيم كخضوع الابن للآب فهذا يمكن تفسيره إما من باب التشديد على كون الآب في الثالوث هو المصدر والمبدأ، وإما للرغبة في دحض الهراطقة الذين كانوا يشددون على وحدانية أقنوم الله مثل الطابليوسيين. وقد ازداد اهتمام الآباء بإيجاد التعابير المناسبة لشرح سر الثالوث الأقدس مع نمو الهرطقات المضادة لهذا السر كالمونارخيين الذين أنكروا حقيقة الأقانيم، والآريوسيين وأعداء الروح القدس الذين هاجموا وحدتها في الجوهر وقد برز بصورة خاصة ضد المونارخيين ترتليانوس والقديس غريغوريوس العجائبي وديونيسيوس بابا رومية. بينما لمع في دفاعهم ضد الآريوسيين القديسون اثناثيوس الكبير والكباردوكيون الثلاثة (باسيليوس الكبير وغريغوريوس النزينزي وغريغوريوس النيصصي) وايلاريوس أسقف بواتييه والقديس امبروسيوس وتلميذه اوغسطينوس.
2. الاصطلاحات المتعلقة بسر الثالثوث Η Αγία τριάς:
إنه لمن المستحيل أن نعبّر بلغتنا البشرية المخلوقة والقاصرة عن سر الثالوث الفائق على كل إدراك وتعبير. ومع ذلك كان لا بد بسبب الهرطقات التي نمت غالباً في أجواء فلسفية من أن تحارب بسلاحها. فنستخدم كلمات كانت لها سابقاً معانٍ معينة لتحمل الآن معانٍ جديدة يتفق عليها. فتكون بمثابة السدود المحددة لسريان طوفان البدع. وكما هو معروف فاصطلاح ثالوث (Τριάς) نفسه لم يرد في الكتاب المقدس. وكان أول من استخدمه من الآباء في الشرق ثيوفيلوس الأنطاكي (158+) أمّا الكلمة التي تقابلها باللاتينية وهيTrinitas فكان ترتليانوس (220+) أول من استخدمها.
يمكن تقسيم الاصطلاحات المختصة بسر الثالوث إلى نوعين:
A. ماله علاقة الجوهر الإلهي.
B. ما له علاقة بالأقانيم الإلهية.
وبديهي جداً أنّ هذه المصطلحات لم تقبل في البداية بسهولة، بل أثار تداولها عاصفة من سوء التفاهم. لأن ما كان يعتبر عند البعض له علاقة بالجوهر فُهم عند البعض الآخر كمختص بالأقانيم. والعكس بالعكس، ولهذا احتاج الأمر إلى وقت طويل حتى تمّ الاتفاق نهائياً على التحديدات الدقيقة التي يحملها كلّ منها.
A. الاصطلاحات التي تشير إلى وحدة الجوهر الإلهي:
1. جوهر ουσία:
تعني قاعدة أو أساس حقيقة ما، أي هي ما يجعل شيئاً ما أن يكون هو نفسه وليس شيئاً آخر مثلاً جوهر الإنسان هو في كونه حيواناً عاقلاً. وقد استعمل هذا الاصطلاح في الفلسفة الأغريقية بصورة خاصة عند أرسطو وقد ورد بمعنيين:
أ- جوهر فعلي ما، أي وجود فردي ما. موضوع ما لخبرة مباشرة مثلاً: فلان شخص بشري ما، أي حنا، سعيد، وهذا ما يسميه أرسطو الوجود الأول (πρώτη ουσία).
ب- وجود مجرّد، طبيعة خاصة محققة في أفراد كثيرين من هذا النوع أي ما هو عام في الجميع مثال إنسان، حيوان. وهذا ما يسميه أرسطو جوهراً ثانياً (δευτέρα ουσία).
فلو طبق الآباء القديسون كلمة جوهر (ουσία) بالمعنى الأول على الثالوث لوجب أن يقولوا بأنه يوجد ثلاثة آلهة. ولو طبقوها بالمعنى الثاني لوجب القول أن الوجود الإلهي موزّع بين ثلاثة أشخاص. لكنهم فضّلوا أن يكونوا أمينين للإعلان الإلهي ويضربوا عرض الحائط بالمفاهيم الفلسفية معبّرين عن الثالوث الأقدس بجهالة الحكمة، فقالوا أنه لا يوجد ثلاثة آلهة بل الله واحد في أقانيم ثلاثة وليس عند الأقنوم الكيان الإلهي موزعاً ولا مكرراً كما عند الأفراد ولا هو أكبر عند واحد مما هو عند الآخرين ولا حتى أصغر مما هو عند الثلاثة معاً إن لكل من الأقانيم الثلاثة الجوهر الواحد ذاته والذي ليس مقسّماً فيما بينها. من هنا فوحدة الثالوث وحدة حقيقية فعلية وليست مجردة كما عند البشر.
إذاً في الله يوجد جوهر وحيد هو بالذات الألوهة، وهنا الكيان أو الجوهر هو كامل في كل واحد من الأقانيم الثلاثة.
كلمة (ομοούσιος) والتي هي تعبير مشتق من كلمتين (ομο) و(ούσιος) تُظهر ليس فقط أن الكيان الإلهي مشترك بين ثلاثة أقانيم بل وأيضاً وحدة هذا الكيان الذي هو واحد ووحيد، إذ يوجد كيان الآب بكليته في الابن وفي الروح القدس لكن كلمة (ομοούσιος) لا تظهر فقط الوحدة بل التمايز أيضاً، لأنها تعبر كذلك عن وجود شخص يتحد مع آخر في الجوهر.
لقد مرّت فترة عبّر فيها البعض عن جوهر أو كيان الله بكلمتين (ούσιος) و (υπόστασις) دون تميز. وكان من الذين لم يميزوا في البداية بين هاتين الكلمتين، القديسان اثناثيوس الكبير وابيفانيوس حتى المجمع المسكوني الأول ذاته، لكن مع الوقت صارت كلمة υπόστασις معتبرة عند الأغلبية في الشرق كأقنوم. ولهذا حدث كثير من الإشكال في هذا الموضوع لأن الغربيين كانوا يفهمون هذه الكلمة بمعنى الجوهر. إذ ترجموها بكلمة Substantia ولهذا اتهموا اليونان الذين تكلموا عن ثلاثة (υπόστασις) بالآريوسية لاعتقادهم أنهم يتكلمون عن ثلاثة جواهر. وكانت النتيجة لصالح الكنيسة الجامعة إذ تنبه الآباء لضرورة تحديد وتوضيح معاني الاصطلاحات الثالوثية. وكان من ضمن التدابير التي اتخذوها عقدهم لمجمع سنة 362 في الإسكندرية توصلوا فيه إلى الإعلان عن تطابق الإيمان بالثالوث في الشرق والغرب بالرغم من استعمال ممثلي كل منهما اصطلاحات بمدلولات مختلفة. إذاً فالحقيقة التي يعبّر عنها الشرقيون بقولهم جوهر واحد (ούσιος) وثلاثة أقانيم υπόστασις هي ذاتها التي يعبّر عنها الغربيون بـ (Substantia ) والتي تترجم حرفياً بـ (υπόστασις).
كان الكبادوكيين الثلاثة وعلى رأسهم القديس باسيليوس الكبير في رسالته التي وجهها إلى أخيه غريغوريوس النيصصي، أظهر فيها أن ούσιος هي قاعدة الطبيعة الإنسانية لأشخاص كثر، بينما υπόστασις هي الفرد القائم بحد ذاته أي بطرس، بولس… ثم بين كذلك الاختلاف بين البشر والثالوث في تطبيق هذه الاصطلاحات… وهكذا مع الزمن صارت الـ ούσιος اصطلاحاً يخص الجوهر والكيان الإلهي، بينما الـ υπόστασις تعني الأقنوم أو الشخص.
Substantia (اللاتينية):
تعتبر في الغرب مطابقة لفحوى اصطلاح (ούσιος) كما رأينا. هذه الكلمة في الأساس لها معنيان.
القاعدة التي تستند عليها الخواص أو التي فيها مجذرة، وهو ما يوافق تركيبها اللغوي الحرفي (تقف تحت) أو الذي يقف في الأساس أو في الجذور أو في القاعدة، وهو أيضاً ما يقابل حرفياً (υπόστασις ) اليونانية.
المعنى الثاني هو الجوهر الذي يوجد في شيء قائم بذاته من أجل ذاته.
Natura المقابلة ل (φύσις) (طبيعة):
اعتبر هذا الاصطلاح متماثلاً في أكثر الأحيان مع الجوهر ولهذا ف natura أو essentia أو substantia هي المادة التي يتألف منها ما هو واقع وحقيقي مثال: الخشب هو المادة التي صنعت منها المنضدة. إذاً فالطبيعة ما هو عام لكل الأفراد أو الأشياء من هذا النوع أو الصنف وعلى وجه التحديد الطبيعة هي الجوهر ذاته لأنه معتبرة موضوع الخواص أو المبدأ الداخلي المحدد للأشياء.
B. الاصطلاحات التي تشير إلى الأقانيم الإلهية:
1. πρόσωπον – Persoane
2. υπόστασις
πρόσωπον : تعني الجوهر الذي ليس جزءاً من مجموع (كرجل، يد…) بل الجوهر الفرد التام الموجود في ذاته ومن أجل ذاته، موجود في ذاته يعني أنه مختلف عن أي πρόσωπον آخر. أو هو طبيعة في صورة فردية قائمة بحد ذاتها. باختصار هو الطريقة التي توجد فيها الطبيعة أو موضوع أو حامل الطبيعة.
υπόστασις : يعني شخصاً من طبيعة عقلانية مثال نبيل، أسعد… أو وجود مستقل للطبيعة العقلانية.
وفي حين أن υπόστασις هو اسم عام لكل الموجودات الفردية إن كانت عاقلة أو غير عاقلة فالشخص πρόσωπον يحوي عنصري الفردية والعقلانية معاً. أو يمكن القول أنه وجود فردي لطبيعة عقلانية. ويعرّف الدمشقي ال πρόσωπον بأنه الموضوع الذي يعبّر عن ذاته بأعماله وخواصه فيتميّز عن كيانات أخرى من الطبيعة ذاتها، ولهذا يمكن القول أن الشخص عنده وعي لذاته، قوة أن يقرّر، وإرادة أن يكّون شركة مع أشخاص آخرين. أو بعبارة مختصرة عنده فكر وإرادة ومحبة. وبالنسبة للثالوث الأقدس فلا يفرّق القديس باسيليوس أو أكثر الآباء القديسيين بين اصطلاحي πρόσωπον وال υπόστασις .

الاب الدكتور: جورج عطية

 

 

 

التعليم الآبائي عن سر الثالوث