...

الأرثوذكسية

 

الإيمان بالأرثوذكسية ليس إيماناً عاطفياً ينبع من نزوات بشرية، كل ما ينبع من العاطفة يموت مع تقلباتها، الأرثوذكسية حياة ترتكز على العقائد الالهية النابعة من صلب الكتاب المقدس، حفظها التقليد الشريف وختمها آباء المجامع المقدسة بختم مواهب النعمة التي تمنح للذين يجتمعون باسم المسيح لغرض التقديس والبر، والأرثوذكسية هي التعبير الصحيح للذين يؤمنون بالحرية والحق، الفكر الحر يقوم في أعماقها، لا مجال لغير الأحرار فكرياً في الأرثوذكسية، والأحرار هم الذين بلغوا شوطاً بعيداً في الإيمان، أولئك الذين يحتضنون النعمة ويعتبرونها نبعاً للحرية وينيرون بها أفكارهم وعقولهم وقلوبهم، هم المؤهلون لاعتناق مبادئها والاغتسال في جرن عقائدها، فهي خزَّان الانبعاث، منها تجري ينابيع النقاوة الفكرية والجسدية، مائدتها أبداً مليئة بالخيرات الإلهية، إذا تغذى بها الإنسان ملك الحياة، وإذا حجم عنها خسر نفسه وضلَّ طريق المعرفة.
الإنسان فيها هو الألف والياء، وهي من أجله وجدت، وجدت لتعيد صياغته، لتبني ما هدمته الخطيئة في الهيكل الإلهي، لتلده من جديد، لترفعه من الوحول إلى الرؤيا، فتجعله سيداً يصوغ من التراب بشراً ومن الوحول بلورات تفتح العيون على أنوار السحر.
من خلال الأرض نرى السماء ومن خلال السماء نحيا قداسة الأرض، الأرثوذكسية هي هذا التوازن بين معطيات السماء ومعطيات الأرض، النعمة هي التي تخلق هذا التوازن، وهي التي تنمّيه والتي تحوّل الميزان في صالح الحقيقة، وهي التي تجعل الإنسان ينطق بألسنة الملائكة ويترجم اللغة السماوية إلى تعبير يلبسها أجساداً شفافة بنور المعرفة، كذلك تجعله يصعد درجات السلّم الذي انحدر عليه المخلـّص، لنصعد نحن الذين صالحنا بدمه الكريم نحو أبيه الذي في السماوات، الأرثوذكسية هي هذه الحياة في النعمة، أي في المحبة والحرية الإلهيتين.
عندما نتكلّم عن الأرثوذكسية نضع نصب أعيننا لا الأرثوذكسية المنحصرة بين فكي التعصُّب الجاهل والعنصرية الإقليمية البغيضة، عندما نتكلم عن الأرثوذكسية، نتكلم عن المحبة المنفتحة لاحتضان العالم، وعن السلام الذي ترمي إليه، الأرثوذكسية تشمل كل إنسان، أي إنسان مسيحي يؤمن بسيادة المسيح ويطرح كل سيادة غير هذه السيادة، لأن سيادة المسيح هي موت لكل سيادة وبتر لكل هوى بشري، في المسيح لا عبد ولا حر، لا سيد ولا مسود، الجميع يتساوون، الجميع يشربون من نبع واحد ويأكلون من طعام واحد، غايتها وهدفها خلق مجتمع بشري مقدس، يرعى فيه الذئب مع النعجة ويتجاور الصقر مع الحمامة، هذا المجتمع البشري الموحد الذي يتحرك بالمحبة ويتغذَّى بالسلام، لا يعرف سلطاناً غير سلطان الوحدة تحت صليب المسيح، ولا يتحرك إلا بنسمات النعمة المعتقة من كل هوى وسلطان، وهو المفروض أن يوجد.
إنه موجود نظرياً في الأرثوذكسية، موجود في كتب آبائها وقديسيها وكتبها، موجود في تاريخها، تحتاج فقط إلى كشف هذه الكنوز، إلى إظهارها، إلى وضعها موضع التطبيق، إلى تبنيها وتجسيدها تبنيا ً فعلياً ببساطة وإيمان لا جدلياً.
كثيراً ما يقود المنطق إلى تشويه الحقائق، المنطق البشري ليس حراً، كثيراً ما تفسده العواطف، تعطيه أبعاداً غير أبعادها، كثيراً ما يشوّه المنطق البشري حقيقة الحقيقة، لا يكون المنطق سليماً إلا إذا استنار بالإيمان، الإيمان والمنارة الكشافة للعقل والفكر والمنطق، به نرى الآفاق البعيدة الثابتة، ونكشف الينابيع التي تهبها المعرفة التي للتجلي، المنطق بالإيمان يزداد إبداعاً، وبدونه يتفكك ليخلق بجدليته أشباح حقائق وأوهاماً تزيد في الضلال والفوضى البشرية.
الأرثوذكسية هي الإيمان المحتضن للعقل والفكر والمنطق، والعاملة لجعلها قاعدة لعالم الإنسان، تغذيها نعمة الحياة، من هنا كانت الأرثوذكسية ولا تزال تعبيراً عن أبعاد أحلام الإنسان في الحرية والإنعتاق، لذلك لا يملكها إلاَّ الذين اغتصبوا ملكوت الله اغتصاباً.
قد يتصوَّر البعض أن التعصُّب الأرثوذكسي هو الذي يملي كتابة هذه الكلمات، الأرثوذكسية ليست وقفاً لفئة من الناس دون أخرى، نحن نعتبر أن الأرثوذكسية ملك للجميع، وعلى الأرثوذكسي أولاً أن يفهم الأرثوذكسية، أي فرد تفهـَّم الأرثوذكسية، وإن لم يكن أرثوذكسياً فهو أرثوذكسي، الوحدة المسيحية التي ينشدها العالم المسيحي، لا يمكن أن تتحقق إلا إذا ثبتت على أساس محبة المسيح وحريته، إذا اعتمد المسيحيون طريق الجدل الفكري للوصول إلى وحدة مسيحية فالطريق هذا لن يوصلنا إلى ما يبتغيه الله منا، سيوصلنا إلى أبعاد لا يرتاح إليها المسيح، ولنا من التاريخ دروساً وعبراً، لنا تاريخ جدلي شقَّ ثوب المسيح إلى شيع مختلفة.
المحبة القائمة في الأرثوذكسية هي قاعدة الوحدة وسبيلها الوحيد، فأحد الأرثوذكسية الذي خصصته الكنيسة المقدسة في الأحد الأول من الصوم الكبير هو يوم ظفر روح الأرثوذكسية، ظفرها على البدع والهرطقات ومحاربي تجسدات القديسين، هو دعوة للمسيحيين ليتنقوا ويطرحوا معتقداتهم الخاصة ويتركوا المحبة العظيمة، محبة الله، ألوهته، نوره وكماله ومعرفته وحقه، تسود الأرض تحت شعار الله، هو السيد ونحن جميعا أبناؤه، نشرب من صخرته، ونتقوَّى بلحمه، ونصبح ملكوت محبته، يحتضنه ويرعاه بنعمة ثالوثه المقدس.

البطريرك الياس الرابع معوض

عن مجلة “النشرة” البطريركية، نيسان 1973، ص 1.
ومجلة “اليقظة”، العدد 2، شباط 1977

 

 

 

 

 

الأرثوذكسية