...

رسالة الميلاد روحيَّة الميلاد

 

“لمَّا حانَ مِلْءُ الزَّمَانِ أَرْسَلَ اللهُ ابنَهُ مولودًا من امرأةٍ مولودًا تحتَ النَّاموسِ لِيَفْتَدِيَ الَّذينَ تحتَ النَّاموسِ لِنَنَالَ التَّبَنِّي” (غلاطية 4: 4-5)

عبارة “ملء الزَّمان” تعني أن ليس علينا أن ننتظر أزمنة تعطينا معرفة جديدة بالله، لأنَّنا نلنا كلّ معرفة بالمسيح. “لننال التَّبنِّي”، لأنَّه بالخطيئة لم نعد أبناءَ الله. المسيح وحده هو ابن الله جوهريًّا أزليًّا. أمَّا نحن، فأبناء بفضل الابن ومحبّته لنا. لذلك، قال “بالتَّبنِّي”، ولم يقل لننال البُنُوَّة. بسبب هذا، نستطيع أن ننادي الله “أبانا”، وهذا يتمّ بانسكاب الرُّوح القدس علينا بالمعموديّة.

“الرَّبُّ نوري ومخلِّصِي” (مزمور 26: 1). إنَّه نورٌ ومخلِّصٌ لكَ شخصيًّا. يقول القدّيس مكسيموس المعترِف بشأن سرّ التّجسّد الإلهيّ: “حدث التّجسّد الإلهيّ يتكرّر سرّيًّا وروحيًّا. يجعل النَّفْس البتول أُمًّا غير فاسِدَة تَلِدُ المسيحَ للعالم مخلِّصًا، كونها منزَّهَة عن الأهواء والأمور الأرضيّة”. في عالم أنانيّ، ظالِم، جَشِعٍ، يأتي الإيمان بسرّ التّجسّد الإلهيّ رجاءً وحيدًا لمستقبلٍ أفضَل. هكذا، كلّ مِنَّا بتوبته يتهيَّأُ لاستقبال يسوع في العيد.

* * *

الميلاد درسٌ عظيمٌ في التّواضع والبساطة. الإله الحقيقيّ يصير إنسانًا طفلًا، ويولَد في مذود البهائم، ينشأ بعدها في بيت نجّارٍ فقيرٍ وأُمٍّ وضيعة  هي والدة الإله. حقًّا، كما يقول القدّيس أثناسيوس الكبير، حَدَثُ الميلادِ سرٌّ عظيم. وطريق الألوهة أو التّألُّه، حسب القدّيس غريغوريوس بالاماس، تَمُرُّ بالتَّواضُعِ لا بالإفتخار.

* * *

الأنبياء والفلاسفة هيَّأُوا لظهور المخلِّص. الفلسفة اليونانيَّة هيَّأَت الفكر البشريّ لظهور المسيح بالجسد عن طريق “الكلمات المَزْرُوعَة” i)، كما يقول القدّيس يوستينوس الشّهيد. المسيحُ حقَّقَ أُمْنِيَةَ القلوبِ الطَّيِّبَة في كلّ الشّعوب، حقَّقَ كلّ الإنتظارات، ولا تنتظر الإنسانيّة بعده شيئًا روحانيًّا آخَر. المسيحُ هو ابنٌ أزليٌّ ووحيدٌ للآب، وهو الَّذي جَعَلَنَا أبناءً بالتَّبَنِّي. اللهُ يَظْهَرُ مُخَلِّصًا للنَّاس، ويُظْهِرُهُم أبناءً، عن طريق تواضع يسوع، وعن طريق سلوكنا بالوداعة والتّواضع.
 

أخيرًا وليس آخِرًا، كيف نستعِدُّ للعيد حتَّى يصبحَ القلبُ المذودَ والتَّوبةُ هي الرُّؤية، والتّجدُّدُ هو القرار؟!. النَّاس مأخوذون بشهوة الطَّعام وشهوة الجسد. لقد جاء يسوع ليُغَيِّرَ الكون. الضَّعْفُ في كلّ مكان، في كلّ إنسان، وكذلك الكسل والجهل. حتَّى الكنيسة تصبح، في كثير من الأحيان، مَرْتَعًا للمجد العالَمِيّ والمظاهِرِ الباطِلَة، مُجْتَمَعًا مَدَنِيًّا، فيها الطّمع والكسب، فيها كذب العالم وفساده، فيها الفُتُور وقَلَّمَا نجد فيها 

 

مُلْتَهِبِينَ بالحُبِّ الإلهيّ. مَنْ مِنَّا يَعْتَبِرُ أَنَّ المسيحَ هو كلّ شيء؟!. منْ مِنَّا يعيشُ في تواضعٍ ووداعةٍ على صورة هذا الطِّفل الإلهيّ الَّذي انطَرَحَ في مذودٍ، وجاوَرَهُ بُسَطَاءُ القَوْم؟!…

 

أفرام، مطران طرابلس والكورة وتوابعهما

عن “الكرمة”، الخميس 25 كانون الأوَّل 2014

رسالة الميلاد روحيَّة الميلاد