...

أهذا أخطأ ام أبواه؟

 

 

 

هوذا الأحد الأخير من الفصح، وبعد ثلاثة أيام نختتم هذا الموسم القيامي المبارك. كنا نرتل طوال أربعين يوما “المسيح قام” ونتبادل التحية كمسيحيين، واليوم نقرأ هذا الفصل الإنجيلي الذي يختتم فترة الفصح ويتكلم عن انسان أعمى منذ مولده، والسؤال المطروح في الشعب: أهذا أخطأ أم أبواه؟ وهذا سؤال لا يزال مطروحا اليوم اذا مرض انسان أو مات انسان.

  كنت أقوم بواجب التعزية في احدى القرى وطُرح عليّ السؤال: لماذا مات هذا الشاب؟ ألعله يستأهل الموت؟ ألعل الله كان ينتقم من أحد من الناس به؟ وكأنهم يريدون أن يستبقوا البشر، أن يستبقوا أعزاءهم حتى لا يموتوا، في حين أننا نعرف أن ما يُسمّى الموت هو جزء من مسيرة كبرى تبدأ بالخلق وتمر بالولادة، وتنتهي لا إلى الموت بل إلى القيامة من الموت. ونحن تعوّدنا أن هذه المواقف مدهشة. هكذا يفكر شعبنا، وهكذا يسلك، ولهذا نراه عند محنة أو شدة يسأل: “أهذا أخطأ أم أبواه؟”.

يسوع يجيبنا من خلال قوله الكريم الأبدي: “لا هذا أخطأ ولا أبواه”. المرض ليس قصاصًـا لأحد، والموت ليس قصاصًـا لأحد. ليس المرض أو الموت قصاصا شخصيا. ولكن الذي يموت شابا ليس اسوأ حالا من الذي يموت شيخًا، والذي يبقى على عافيته ليس أوفر حظا من الذي يفقد عافيته. فالإنسان قد يستفيد من عافيته ليقترب من الله، وقد يستفيد من مرضه ليقترب من الله. والموت في كل حال هو انتقال صاحبه إلى وجه الله المُشرق وهو أفضل من وجودنا جميعا. ومن أجل ذويه وأصدقائه قد يكون افتقاد الميت فرصة تقرّبهم من قلب الله. أمام الموت موقفنا الوحيد هو موقف دعاء: “ربي قرّب أبا هذا الميت وأُمه وإخوته وأصدقاءه، قرّبهم منك بسبب ما حصل”. وكثيرا ما نرى المؤمنين يدنون من المسيح ويتطهرون ويتلطفون ويجملون بسبب الموت. قياس المؤمن هو فقط هذا: أأعطاني الله فرصة لأتوب وأتعافى روحيا ولأعرفه أكثر مما كنت أعرفه؟ فإذا كان المرض فرصتي أنا للسموّ فليكن، واذا كان الموت فرصة أيّ منا للسموّ فلتكن مشيئة الله.

كثيرا ما يحدّثنا الإنجيل عن النور. في إنجيل اليوم أعمى يصبح بصيرا، فورا، بكلمة المسيح، بلمسة من المسيح. أمنيتنا في الأرض أن نبصر. كيف نبصر وعيوننا مفتوحة؟ نبصر ما لا يراه غير المؤمن، نبصر ما لا يراه المؤمنون الضعفاء، أي اننا نبحث عن إرادة الله فينا وعمّا يرفعنا اليه، ونبتعد عما يبعدنا عنه. كل منا عنده القدر الكافي من النور ليُبصر. بعد قيامة المخلّص بشّر الرسل بالإنجيل، والمأمول أن كلا منّا يحتوي إنجيلا في بيته أو بالأقل يصغي اليه إصغاء شديدا في الكنيسة. ثم بثّت الكنيسة تعاليم المسيح فينا بصلواتها واجتماعاتها. فإذا كانت آذاننا مفتوحة، فالنور كاف لكي نُبصر.

ماذا نُبصر؟ كيف نتحوّل إلى تلاميذ يسوع كما تَحَوّل هذا الأعمى؟ الجواب هكذا: أن نعرف ماذا يُعمينا. شهواتنا تُعمينا، وكل منّا له شهوة أو شهوتان أو اكثر: هذا للمال، وذاك لحب المجد، والثالث لحب القوة وما إلى ذلك من رغبات. فليمتحن كل منا نفسه ويرى ويلاحظ ويعترف بنفسه قبل كل شيء. فإذا اعترف، فليأتِ إلى السيد ويقول له: أنا غارق في بحر شهواتي، وأُريد منك يا رب أن تشفيني منها وأن تجعلني مسيحيا جديدا مغتسلا كما اغتسل الأعمى في بركة سلوان.

سلوان معناها “المُرسَـل”، أي إذا أَرسل الله الينا نعمته وافتقدنا نغتسل فتتجدد معموديتنا كل يوم بصورة روحية، وهكذا ندنو من القيامة ويكون لنا كل يوم عيد لنكمل الفصح طيلة السنة، بحيث ندفن شهواتنا في قبر المسيح ونقوم معه إلى حياة جديدة أحياء مستنيرين.

 

(جاورجيوس مطران جبيل والبترون وما يليهما (جبل لبنان

عن “رعيّتي”، العدد 21، الأحد 25 أيار 2014  

 

 

أهذا أخطأ ام أبواه؟