...

أن نستغني بالله

 

يروي إنجيل اليوم قصة رجل غني. مشهد بسيط عاديّ إن قيس بمقاييسنا الاجتماعية: «إنسان غني أخصبت أرضه ففكّر في نفسه قائلا: أَهدمُ أهرائي وأبني أكبر منها وأجمع هناك كلّ غلاتي وخيراتي». هذا انسان انشغل بغناه، فقال لنفسه: استمتعي في هذه الحياة وكلي واشربي، فالحياة كلها طعام ولذّة، والحياة كلها أموال. هكذا قال هذا الرجل الذي وصفه الكتاب بأنه غبيّ، والغباء هنا أن هذا الرجل أَقبل فقط على اللذات ولم يستلذّ بالله، لم يحب الخالق. كانت نفسه فارغة من ربه مليئة بالشهوة، اي انها كانت بالحقيقة لا شيء، كانت تتلاشى بتلاشي الشهوات، تنحطّ بانحطاط الذات. 

 يبيّن لنا يسوع في هذا المثل أن الذي جعل قلبه في المال لا يبقى في قلبه موضع لشيء آخر. وعلى العموم اذا جعلنا في القلب ايّ شيء او ايّ شخص يتحكم بنا لا يبقى مكان لشيء آخر.

ويصرّح الإنجيل تصريحًا واضحًا: مَن يَدّخرُ لنفسه ولا يستغني بالله ليس غنيّا فعلا. لكن لا بدّ لنا أن نستخرج من النص أعمق من مجرّد الغنى المادّي والفقر المادّي.

الدنيا ليست موزّعة فقط بين أغنياء وفقراء بالمعنى المادّي من الكلمة، ولكنها موزّعة الى أغنياء وفقراء بمعنى آخر: غنيّ استغنى عن الله والناس واعتبر نفسه كاملا، ولهذا يتظاهر، يتبجّح، يدّعي؛ وفقير عرف انه بحاجة الى الله بين الناس، بحاجة الى أن يُرحَم وأن يتعاون مع الآخرين.

يأتينا الغنى من أسباب كثيرة. فالإنسان الجميل غنيّ إذ إنه يملك شيئا عظيما في الدنيا وهو الجمال. المثقف غني اي انه يملك ثروة كبيرة، الذكي غني بذكائه. أنواع كثيرة من الناس أغنياء. ولكن الجميل يتقرّب من الله اذا ظنّ جماله من تراب، والمثقّف يقترب من الله اذا ظنّ أن الله صاحب العلم وأن ما عنده من معرفة إنما هو القليل القليل. والذكيّ من آمن أن الله أذكى، وأن ما عنده هو من حكمة وفطنه ما هو الا إشعاع ضئيل من حكمة الله. هكذا يستطيع الجميل والمثقّف والذكيّ أن يقترب الى الله بالتواضع. من كان فقيرا الى الله هو الغنيّ فعلا: أن يشعر الانسان رغم جماله وذكائه وثقافته أنه بحاجة الى غيره او انه بحاجة الى ان يحب سواه، بحاجة الى ان يسمع، الى ان ينتبه، الى ان يخدم.

الخدمة الحقيقية للناس، التي بها نصعد الى السماء، هي التي لا نتقاضى عليها أجرا، اي اننا لسنا فقط لا نأخذ مالا ولكننا لا نأخذ تقديرا ولا مدحا. الانسان الخادم للانسان هو من لا يطلب تعظيما. انه فقير الى الله وتكفيه تعمة ربّه. الخادم الحق المتواضع لا يتبجّح ولا يقول ابي كان كذا وكذا، ولا يقول أنا عملت هذا وذاك. انت إن عملت فهذا فضلُ الله عليك وليس لك فضل على ربّك. ولهذا إن عملت فاسكت. هذا جزاؤك من الله أن تسكت حتى يرضى الله عنك، والله سوف يقول في الدينونة لكل الناس ان هذا عمل او لم يعمل. الله يكشف نيّات الناس. لماذا تريد أن يظهر اسمك في الجريدة او على حجر في الكنيسة او على اي شيء يزول؟ لماذا تريد أن يعترف بك الناس؟ أنت تخدم مجانا إذ تسعى الى أن يظهر عملك أمام الله وتبقى في صمت وشكر.

جاورجيوس، مطران جبيل والبترون وما يليهما (جبل لبنان)

عن “رعيّتي”، العدد 47، الأحد 27 تشرين الثاني 2014

أن نستغني بالله