...

هل جعلْنا الله خيالًا ؟

 

يروي لنا إنجيل اليوم أعجوبة حدثت بعد أن صعد الرب وحده الى الهيكل ليصلّي. كان يخاطب الآب ويطلب ويُسبّح. كان وحده في الصلاة. كان قد أطلق السفينة قبل ذلك في بحيرة طبريا ثم مشى على البحر. لما رآه التلاميذ ماشيًا على البحر اضطربوا وقالوا انه خيال ومن الخوف صرخوا.

من المألوف والمُنتَظر أن نخاف فنحن عرضة لتقلبات الزمان وللحرب وللموت. نحن نخاف بعضنا من بعض ونخاف ممّا يأتينا من الخارج. وبطول الخوف. وبصرف النظر عن أية حرب وأي موت، ففي نفوسنا عاصفة لأننا نحس بملذات العمر ونطلبها، وهي تقيم في النفس عواصف، وتزداد جاذبية الدنيا فينا وتقوى، حتى اذا عبَر الرب أمامنا في الفكر، في الصلاة، في الضمير، نعتبره هو ايضًا خيالا كهذه الرياح التي تضربنا.

ما موقف الانسان الخاطئ حقا من الله؟ في العمق ماذا يعني اننا نعيش في الخطيئة ونمارس خطيئة معينة يومًا بعد يوم، أشهرا أو سنين او عمرًا طويلا؟ هذا يعني ان الله أصبح عندنا خيالا، اي انه غيرُ حاكم، غيرُ سيّد على النفس. من مصلحة الخاطئ أن يُحوّل الله الى خيال، لأنه اذا اعتبره موجودًا حقًّا فالله حاكم، وانا مسود، وانا بين يديه مطيع. كل انسان خاطئ يحوّل الله الى شبح يستبعده لئلا يسيطر اللهُ عليه.

اذا حلّلنا الخطيئة التي فينا بعمق لا نأتي الى الكاهن ونقول له: “اقرأ لي افشين الحلّ وضع البطرشيل على رأسي”، ونعتقد ان الأمور تعبر بهذه السهولة. إن لم نحس ان خطايانا شيء رهيب جدا، عاصفة مميتة، فهذا يعني انه ليس عندنا معرفة ليسوع المسيح، هذا يعني اننا لم نرَه. إن لمْ نخف من الكذبة الصغيرة أكثر من الحرب، فنحن لم نرَ يسوع المسيح، ما زلنا نخاف على أجسادنا ولا نخاف على نفوسنا من أن تتلطخ، من أن تُقتَل، من أن يذهب ضميرنا سدى يُباع ويُشرى.

الخاطئ يجعل الله خيالا لأن الله حاكم والخاطئ لا يريد حُكم الله فيه. عندما قال يسوع للتلاميذ “لا تخافوا”، رأوا ان كل بحر طبريا لا شيء وانه لا يُغرق، رأوا ان المسيح هو البحر وهو الجبل وهو النجوم وهو الشمس وهو السماء. لذلك لمّا نسي بطرس ان البحر هو بحر، وعندما لم يحس ان العاصفة هي عاصفة، وعندما لم يعد يفهم انه يغرق لأن البحر لم يعد موجودا، والكون لم يعد موجودا، والمسيح صار هو الكون، قال للرب: “دعني آتي اليك على المياه” ومشى على المياه.

ولكن النعمة لا تدوم دائما. جحد بطرس سيده كما سيجحده في ما بعد، وكفر كما سيكفر من بعد التجلّي، عاد انسانًا من لحم ودم. ويسوع أراد ألا يبقى أحد منّا لا من لحم ودم ولا من شهوة رجل بل من الله. عاد بطرس يرى أن هناك بحرًا وهناك عاصفة وهناك دنيا وهناك كونًا، فغرق في بحيرة طبريا اي غرق في الدنيا.

ثم دخل يسوع الى السفينة. القصة هكذا. قصتنا هكذا. سفينة العمر التي كلّ منّا راكبها تروح وتجيء الى ان يدخل الرب اليها. وكأن القديس متى يقول: أنتم يا مسيحيين كاذبون، تأتون الى بيت كبير تُسمّونه كنيسة لكنكم لستم آتون الى الله لأنكم ألغيتم الله من حياتكم. هذه صورة عن أوضاع معظم الناس الى أن يدخل الرب السفينة، اي الى ان نقبله ونصبح له تلاميذ. ولا يعود هناك عاصفة نضطرب لها، ولا نخاف من موت يجيء، ولا يذهب عقلنا اذا فقدنا قريبًا، ولا نهبط هبوطًا رهيبًا لأننا أخطأنا بل نعود الى الوجه الإلهي. وقد قرأنا في الإنجيل منذ أيام أن وجهه صار شمسًا، فنرجع الى هذه الشمس نستنير ونرتاح ونكون أسيادًا على نفوسنا، وأصحاب رضى ومتهللين وسكارى بالمسيح.

جاورجيوس مطران جبيل والبترون وما يليهما

(عن نشرة “رعيّتي”، الأحد 10 آب 2014)

http://www.ortmtlb.org.lb/index.php/raiati-bulletin/raiati-archives/109-raiati-2014/1269–32-

هل جعلْنا الله خيالًا؟