...

نحو حركة مسكونيّة روحيّة!.

 

 

لست أشاء أن أقيِّم، ههنا، عمل الحركة المسكونيّة العالميّة، لا سيّما خلال القرن العشرين والحادي والعشرين. أقلّه ليس هذا نطاق هذه المقالة. هذا لا يمنع أن أُبدي قناعتي بأنّ الوحدة الكنسيّة تبدأ بالاستيحاد بالله، بالتماس الوحدة مع الله!. الوحدة الحقّ بين المؤمنين لا يمكنها أن تكون أكثر من نتيجة وإلاّ تكون تلاقي مصالح!. هذا هو معنى الوحدة في المسيح!. الاقتصار على الكلاميّة والشّكليّة فيما لله والتّركيز على وحدة التّعبير العقديّ والتّصنيف الإداريّ، ومن ثمّ ترجمة ذلك في تدبير يختصّ بالكأس المشتركة، لا قيمة كنسيّة له إلّا مؤذية!. لذا، في إطار التّعدّديّة في الكنائس، أو الجماعات المنفصلة، بعضها عن البعض الآخر، وما نجم من تباعد، أحدثته الظّروف التّاريخيّة، فيما بينها، بات الطّموح إلى وحدة المؤسّسة، أو قل الكنائس، كمؤسّسات، لا فقط غير مُجدٍ، بل بات يشكّل العقبة الرّئيسيّة أمام تأكيد الوحدة المرجوّة!.
أصلًا، الظّنّ بأنّ الكنيسة مجزّأة وتحتاج إلى لملمة وجمع غير صحيح!. الكنيسة واحدة وباقية واحدة لأنّ سيّدها واحد!. لذا فكرة توحيد الكنيسة، بشكل أو بآخر، خطأ شائع!. أنت تنتمي إلى الكنيسة الواحدة أو لا تنتمي!. وهذا معناه أن تستوحد بالله وبالرّبّ يسوع المسيح!. “أنا الكرمة وأنتم الأغصان”. لا كنيسة خارج يسوع!. الكنيسة جسد يسوع!. الوحدة، من جهة المؤمنين، مشاركةٌ فيها!. طغيان الهمّ المؤسّساتيّ، في هذا السّياق، أو حتّى التّمسّك بضرورة توفّر التّعبير المؤسّساتيّ للوحدة، وإلّا لا تكون وحدةٌ، لا فقط، في يقيننا، يلهي عن الوحدة الحقّ، بل يقتل هذه الوحدة، أيضًا!. لذا، عندنا أنّ ثمّة حاجة إلى تحويل الانتباه والهمّ من التّركيز على السّعي إلى توحيد الكنائس الّتي ننتمي إليها، فيما بينها، إلى العمل الجدّيّ الثّابت على تنقية القلوب وتعميق الحياة الدّاخليّة، لكلّ منّا، في موقعه، في علاقة لا تثريب فيها توحّدنا بالله ومسيحه!. ساعتذاك، لا فقط نجدنا، في الرّوح، باطّراد، في قربًى، أحدنا من الآخر، لا بل القربى تفرز، أيضًا، بصورة تلقائيّة، تعابيرَ محسوسة للوحدة الرّوحيّة العميقة الحقّ فيما بيننا!. لا حاجة أبدًا لأن تكون لنا تركيبة قسوسيّة إكليريكيّة واحدة ولا إدارة كنسيّة واحدة ولا حتّى كأس مشتركة واحدة، تعبيرًا عن الوحدة الّتي نظنّ، وتكريسًا لها!. أقول هذا، لا لأنّ الكأس المشتركة ليست التّعبير الأمثل لوحدة المؤمنين بيسوع وببعضهم البعض، بل لأنّ الكأس المشتركة، في السّياق، المشار إليه أعلاه، تعبير قَصْرٌ على وحدة في مستوى النّصوص والمؤسّسات، ولا يركّز على وحدة روحيّة عميقة بالله أوّلًا، ومن ثمّ أحدنا بالآخر!. هذا المناخ يطرح الكثير من التّساؤلات ويبطِّن الكثير من الزّغل والرّوح الدّهريّة التّمييعيّة والإلغائيّة والاستيعابيّة، ما يجعل القليلَ عددُه عرضة للذّوبان في بودقة الكثير، والمؤسّسةَ الأكثرَ قوّةً وتنظيمًا تبتلع الأقلّ قوّة والأضعف تنظيمًا!. موضوع خبرة حقّ الإنجيل، في سياق كهذا، لا يعود مطروحًا!. في مناخ كهذا، روحُ المؤسّسة، أو المؤسّسة كروح دهريّة غريبة، تتحكّم بروح الوحدة الكنسيّة، لا بل تبيد روح الوحدة الكنسيّة الحقّ!.
قلّما ننتبه، اليوم، إلى أنّه باتت، هناك، هوّة بين الرّوح والتّعبير عنه!. في الأساس، لم تكن هناك مسافة بين اللّاهوت والرّوحانيّة!. اللّاهوت كان روحانيّة معيشة، والرّوحانيّة كانت لاهوتًا في الفعل!. اليوم، بالأكثر، أضحى اللّاهوت مقتصِرًا على التّعبير، لا سيّما الدّماغيّ والنّصّيّ، عن الإلهيّات، وباتت الرّوحانيّة، بالأحرى، أفعالًا ذاتيّة انفعاليّة ورعة تقويّة!. هذا الفصام جعل اللّاهوت عملًا عقليًّا والرّوحانيّة مدى نفسانيًّا، ما يحوِّل الكنيسة إلى مؤسّسة فكريّة نفسانيّة، ويُطيح حقيقة التّجسّد ومفاعيلها، ويبلِّغ عمل ضدّ المسيح، في تحوير حقّ الإنجيل، ذروتَه!. هذا هو الفتك بالكنيسة من الدّاخل، بإفراغ إيمان المؤمنين من روح الله، وإغراقه بما هو نفسانيّ فكريّ دهريّ!. كلّما جمعتَ المتفرّقين، من الجماعات المدعوّة إيمانيّة، بعامّة، في مؤسّسة واحدة، والحال هذه، كلّما نجحتَ في تقليص عمل روح الله، باسم الله، وشيّأتَ الكنيسة، وجعلتها، في مدار المرامي الدّهريّة لسكّان الأرض، خادمةً لوحدة الشّعوب، على كلّ صعيد!. لذا كلّ الحركات والتّجمّعات العاملة على توحيد “الكنائس” و”الدّيانات” لها هدف مخفيّ عميق واحد: الإلحاد الدّينيّ الفعليّ!. توحيدُ الإيمان العالميّ قولًا وتجاهلُه فعلًا!. وبالنّسبة لنا، نحن المسيحيّين، هدف الأهداف الكامن وراء مثل هذه المساعي، هو إسقاط المسيح من وجدان البشريّة، لأنّه ليس، في نهاية المطاف، إلّا المسيح عدوًا لروح العالم ومخلِّصًا!.
من هذا المنطلق، كلّ سعي أصيل إلى حركة مسكونيّة حقّ لا يمكنه، في خضم بلبلة الألسنة الحاصلة، في نظرنا، إلّا أن يكون روحيًّا!. “السّاجدون الحقيقيّون”، على قولة الرّبّ يسوع للمرأة السّامريّة، “يسجدون للآب بالرّوح والحقّ، لأنّ الآب طالب مثل هؤلاء السّاجدين له” (يوحنّا 4)!. طبعًا، الأساس هو الكلمة لأنّ إلهنا كلمة وقد كلّمنا!. لكنّ الكلمة شيء والكلاميّة شيء آخر!. العقيدة شيء والاسترسال في الكلاميّة العقديّة شيء آخر!. لا شكّ أنّ الفكر الإغريقيّ جعلنا نُغرق في تعاطي علم العبارة phraseology ، ونَحكم على النّاس لا باعتبار ما هم عليه بل باعتبار ما يقولون!. ولكنْ، مَن تراه تتماهى لديه خبرتُه وتعبيرُه عن هذه الخبرة؟ بالعكس، كلّما استرسل المرء في الإيضاح اللّغويّ للتّعبير عن خبرته، كلّما تشوّشت وعمقت الهوّة بين الخبرة والتّعبير عنها لديه!. الدّقّة، في التّعبير، متعذَّرة، إلّا، ربّما، على قلّة من المحترفين، ناهيك عن تعذّر جعل التّعبير عن الخبرة تماميًّا!. هذا، في كلّ حال، مستحيل!. لذا، الاسترسال في الجهد التّعبيريّ يحتّم زيادة إمكان الشّطط في الكلام ومن ثمّ التّباعد بين المؤمنين!. ثمّ أكثر النّاس المحسوبين على مقولات عقديّة محدّدة لا يعون مضمونها، أو، حتّى، أنّها موجودة، ما يجعل اللّاهوت، بالأحرى، قطاع أخصّائيّين في علم التّعبير العقديّ لا أكثر!. كلّ هذا يكرِّس الفراق بين خبرة المؤمنين، هنا وثمّة، من جهة، والتّعابير العقديّة، من جهة أخرى، وهذه غالبًا ما تصبح قائمة في ذاتها، لا علاقة لها بخبرة المؤمنين، ويردّدها الأكثرون، إذا ما كانوا ليرَدِّدونها، كالببّغاء!.
إذا ما كنّا لنؤكّد الخبرة الرّوحيّة منطلَقًا لاستقامة الرّأي، فهذا يكفيه، كأساس، أن يعرف المؤمن، فيه، على صعيد العقيدة، أنّ الله واحد، آبٌ وابن وروح قدس. الواحد ليس عددًا بل فرادة. الله لا يُعَدّ لأنّه لا يُحَدّ. وأنّ الآب غير الابن، غير الرّوح القدس. وأنّ الابن، ابن الله، صار إنسانًا، وهو يسوع المسيح، المولود، بالجسد، من مريم البتول، الّتي صارت، بفعل ولادتها إيّاه، والدةَ الإله. وأنّ يسوع، مذ ذاك، إله وإنسان، معًا. وهو باق كذلك إلى الأبد!. هذا، من جهة عقيدة اللّاهوت، ما يُفترَض بكلّ مؤمن أن يعرفه ويلتزمه، لكي يكون له إمكان علاقة بالله، قائمة وقويمة، وإلّا يقع في الهرطقة. والهرطقة تقطع عن الله، أي تجعل العلاقة بالله غير ممكنة!. خارج حدود عقيدتَي الثّالوث القدّوس والتّجسّد الإلهيّ، لا أقول لا قيمة للمقولات العقديّة، لأنّ لبعضها قيمة جزيلة، بل تكون أنتَ، في مستوى الخبرة الرّوحيّة، قادرًا على أن تعرف الله، بأن تحبّه وتنمو في النّعمة والقامة الرّوحيّة لديه، لتستوحد به، لأنّه محبّة!.
على هذا، الشّركة الرّوحيّة بين المؤمنين، تقوم على أساس عقديّ، بالمعنى الّذي أبنّاه أعلاه، ولكن، في آن، على أساس الاستقامة الرّوحيّة الشّخصيّة الّتي يُفترَض بالرّعيّة وراعيها ضبط إيقاعها عن كثب!. الأساس الواحد من دون الآخر، لا يكفي!. ثمّ، الكأس المشتركة الّتي يساهمها القوم على أساس طائفيّ صرف، أي لمجرّد انتمائهم إلى الطّائفة الأرثوذكسيّة، تسفيهٌ للشّركة الحقّ، في المسيح، واختزال لها، وقصرُها على مجتمع قبليّ ذي شعارات دينيّة واحدة، وفي هذا كفرٌ!. أمّا الكأس المشتركة الّتي يمكن أن يساهمها، إلى أبناء الكنيسة الرّوميّة الأرثوذكسيّة – وأتكلّم كروميّ أرثوذكسيّ – قومٌ، من خارجها، لهم أساس عقديّ واحد، وإيّاها، بالمعنى المبرَز أعلاه، فهذه ينبغي، لقبول الاشتراك في مساهمتها، أخذ أمور عدّة بعين الاعتبار:
1) أن يخضع المقبلون إليها للمعايير العقديّة والرّوحيّة الّتي يخضع لها أبناء الكنيسة الأرثوذكسيّة.
2) أن لا تكون هناك كنيسة من الكنائس الّتي ينتمي إليها طالبو مساهمة الكأس المشتركة، في البلد، أو الأصقاع الّتي يوجدون فيها، إلّا كنيسة الرّوم الأرثوذكس.
3) أن يخضع المقبلون إلى الكأس المشتركة للمساءلة، أولًا، حتّى يجري التّأكّد من سلامة وضعهم وتهيئتهم لمساهمتها، في الكنيسة الأرثوذكسيّة، وفقًا لرسومها وقواعدها وآدابها الخاصّة بها!.
أمّا السّماح لغير الأرثوذكس بمساهمة القدسات في الكنائس الأرثوذكسيّة، ولهم كنائسهم الخاصّة، في الجوار، وهم يذهبون تارة، إلى هنا، إلى إحدى كنائسهم، وتارة، إلى هناك، إلى إحدى الكنائس الأرثوذكسيّة، أقول السّماح بذلك لا يوافق أبدًا لأنّه يخلق حالة من التّشويش الرّوحيّ، فضلًا عن التّسيّب والعبثيّة في الموقف والازدواجيّة في الانتماء والزّيف في روح الشّركة، والاكتفاء من العلاقة الكنسيّة بالقشور الاجتماعيّة الانفعاليّة الشّعاريّة!.
اللّياقة والتّرتيب، في الكنيسة، لا يجيزان الخلط والتّلفيق وتحويل الشّركة، في الرّوح القدس، إلى تراكم بشريّ!. وما يُقال في مساهمة القدسات يُقال في الصّلوات!. هذه لها طابعها الشّركويّ، أيضًا، مثلها مثل الكأس المشتركة!. بدون روح الشّركة، المعيّة في الصّلاة، صلاة في الشّكل، فرديّة المنحى، اجتماعيّة المضمون، شعوريّة التّوجّه، ومن ثمّ لا قيمة روحيّة ولا كنسيّة لها!.
إلى ذلك، لا شكّ أنّ ثمّة حاجة ماسّة إلى التّحرّر من الطّابع الطّائفيّ للكنيسة، وكذلك من طابعها الوطنيّ والقوميّ، إذا ما كان لنا أن نسير قدُمًا في حركة مسكونيّة روحيّة!. نحن، حيثما وُجدنا، نعمل على تقديس الأرض والوطن والعمل والعالم، لكنّنا لسنا محصورين بهذا الدّهر ولا نعمل لخدمته بل لخدمة الله وتمجيده فيه وقبلتنا الملكوت!. قدّيسونا غير مستأسرين لمرامينا الطّائفيّة أو القوميّة أو الوطنيّة!. القدّيسون المحلّيّون ليسوا محلّيّين لأنّهم يهتمّون، حصرًا، بحماية وصُنع ما فيه خيرُ المحلّة، الّتي تقدّسوا فيها، بل هم شهود لله حيثما التمس المؤمنون عونهم والاقتداء بهم!. كلّ قدّيس يخرج من محلّة ما، ولكنّه يصير خادمًا لله في كلّ العالم!.
في هذا السّياق، الكنائس التّاريخيّة الّتي لا شركة بينها، ولكنْ، لاهوتها، بالمعنى الّذي أبنّاه أعلاه، واحد، تعاطت، في الماضي، أعدادًا من قدّيسيها اللّاحقين لافتراقها، على نحو مشترك!. هذه، في اعتباري، ظاهرة روحيّة صحّيّة تمامًا!. أُورد، مثلًا، البار يوحنّا الدّيلميّ (القرن 8 م). هذا مذكور، عندنا، أقلّه منذ القرن الثّالث عشر للميلاد (المخطوط السّينائيّ العربيّ 418). لكنّه نشأ في وسط نسطوريّ، وقد تبنّته، إلى كنيسة الرّوم الأرثوذكس، كنائس السّريان اليعاقبة والموارنة والأحباش والأقباط، بالإضافة، طبعًا، إلى السّريان الشّرقيّين، أي النّساطرة.
اليوم، من حقّنا، لا بل من واجبنا أن نتساءل، أليس الشّهداء الواحد والعشرون، الّذين هم من أصل قبطيّ، وواحد منهم أسود، الّذين قُطعت رؤوسهم من أجل المسيح، في ليبيا – لأُعطي مثلًا معاصرًا – وذلك في 15 شباط 2015، وأعلنت الكنيسة القبطيّة قداستهم، أقول أليس هؤلاء شهداء الكنيسة الجامعة المقدّسة الرّسوليّة، وشهداء المسيح في كلّ العالم؟ إنّ اعتبار الكنائس الرّسوليّة الأخرى لنفسها، غير معنيّة بقداستهم، تقديمٍ للطّابع العنصريّ والعقديّ الشّكليّ على الطّابع الرّوحيّ في الكنيسة، وهذا مسيء جدًّا لشهادة الكنيسة الجامعة المقدّسة الرّسوليّة!. هؤلاء شهداء يسوع المسيح الّذي نؤمن، نحن والأقباط، أنّه إله وإنسان بغضّ النّظر عن الطّريقة الّتي نعبِّر بها عن هذه الحقيقة الإلهيّة الإنسانيّة، ويعبِّرون!. إذًا، هؤلاء هم شهداء الكنيسة الحيّة في الرّوح القدس، يساهمون في تقديسنا ونتقدّس ونتبرّك بهم وبأذيالهم!.
يوم نخرج من تقوقعنا القبليّ وتصلّبنا النّصّيّ، ونتّضع، ونشرع في التماس عمل روح الله، بعمق، في كنائسنا، وفي كنائس غيرنا، على قدم المساواة؛ ويوم نتوب توبة صدوقًا إلى ربّنا على قولة: “توبوا إليّ أتُبْ عليكم”، فسنجدنا، في الرّوح، الواحد إلى الآخر، والكنيسة إلى الأخرى؛ يومذاك، نجدنا في شركة الوحدة في المسيح، نسير في حركة مسكونيّة مخصبة حقّ، تُفرع من هاجس واحد هو التّملّؤ من روح الرّبّ القدّوس!. إلى أين يمكن أن يؤول بنا ذلك؟ لا أقلّ من فكر روحيّ متنامٍ واحد، وجسد روحيّ واحد، ومجد إلهيّ واحد!.

الأرشمندريت توما (بيطار)، رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي، دوما – لبنان
عن “نقاط على الحروف”، 27 أيلول 2015

 

 

 

نحو حركة مسكونيّة روحيّة!.