...

في الحقيقة: هل يوجد أكثر من واحدة؟

في الحقيقة: هل يوجد أكثر من واحدة؟

 في الحقيقة: هل يوجد أكثر من  واحدة؟

 

 

عندما كنت مراهقًا، علّمني كاهنٌ ميثودي أنّ هناك، إضافةً إلى المسيحية، طرقًا عديدة تؤدي إلى الله. كان يشبّهها بالطرقات التي نتسلّق عبرها الجبل: فبينما يدور بعضها حول الجبل بشكلٍ متعرّج، يؤدّي الطريق المسيحي مباشرةً إلى القمّة. وقد اعتقدتُ بهذه الفكرة لفترةٍ طويلة، من دون أن أدرك كم كانت تُضعف إيماني. أما الآن، فألاحظ كيف جعلتني أجول في سعيي الروحي باحثًا عن الطريق القويم. فطريقة التفكير هذه، إضافةً إلى القول إنّ الديانات كلّها واحدةٌ وتعلّم قيمًا متشابهة، تنتقص من إيمانك بحقيقة يسوع المسيح، لأنّك إن ظننتَ أنّ ما تؤمن به هو واحد بين خياراتٍ عدّة، لن تستطيع الاعتقاد به بشكلٍ وثيق.

غالبًا ما يعلّموننا أنّه من التكبّر القول إنّ إيماننا هو الحقيقة المطلقة. بالنتيجة، يقول الآخرون الأمر ذاته عن إيمانهم. إلاّ أنه من الكبرياء أيضًا أن يدّعي أحدُهم وجود سبلٍ عديدة، فهو بذلك يحسب أنّ رؤيته أكبر وأرفع من رؤيتك، والحقّ في إيمانه أعظم وأسمى. لا يجب أن نخجل من المجاهرة بأنّ ما نعرفه هو الحقّ.

يسوع المسيح هو واقعٌ تاريخي، وطبيعته الإنسانية الحقيقية يصعبُ استيعابها والإيمان بها، فقد اختلفوا حولها على مدى سبعة مجامع مسكونية، وكان التشديد دومًا على أنّه الله المتجسّد. هو في الوقت ذاته إنسانٌ كاملٌ وإلهٌ كامل، لا مجرّد إنسانٍ تقي أو نبيٍّ موقّر، والمسيحيّون وحدهم يؤمنون بهذه الحقيقة. وإننا، عبر فهمنا لهذا السرّ الذي كشفه لنا الله، نحصل على الفرصة الأفضل لإيجاد الفرح الحقيقي، والخلاص ممّا نواجهه في هذه الحياة الأرضيّة من اضطرابٍ وعذابٍ وموت.

وإذ يدّعي الكثيرون معرفة الحقّ، ويسعون إلى فرضه على الآخرين، نرى الأديان المختلفة تتسبّب بنشوء صراعٍ في العالم.ولا يكمن الحلّ في إدانة الدين أو قمعه، فهذا يُنشئ عذابًا أعظم. يحتاج الإنسان إلى الدين، وما يُثبت ذلك هو النمو المتواصل للأديان. إلاّ أنّ الحقيقة المسيحية هي التي تمنح الأمل الأكبر بالسلام والتناغم في العالم.

كوننا مسيحيين، نؤمن أنّ الناس كلّهم مخلوقون على صورة الله ومثاله، ونعلَم أنّ الجميع يملكون القدرة على ممارسة الفضيلة، ونعي أنّنا بأجمعنا خطأة. نحن عمليًّا لم نبلغ التحوّل الذي يمنحنا إيّاه إيماننا الأرثوذكسي. ورغم أننا خطأة، نعلم أنّ الله ما زال يحبّنا. وإذ يحبنا نحن الخطأة، فهو بالطبع يحبّ الآخرين الذين لم يفهموا الحق الذي في المسيحية.

يقول القديس سلوان: “عندما كنتُ صغيرًا كنتُ أصلّي من أجل الذين يهينونني. كنت أقول: “يا رب، لا تحسب لهم خطايا بسببي“. إلاّ أنني، ورغم حبّي للصلاة، لم أنفصل عن الخطيئة، لكنّ الرب لم يذكر خطاياي وأعطاني أن أحب الناس، وروحي تتوق إلى أن يخلص الناس كلّهم ويسكنوا في ملكوت الله، ويعاينوا مجد الرب، ويبتهجوا في محبة الله. وأنا أحكم بحسب حالتي: فإذا كان الله يحبّني بهذا المقدار، هذا يعني أنه يحبّ الخطأة كلّهم بقدر ما يحبّني“.

قد يكون الآخرون أخلاقيّين أكثر منّا، لكن هل تضمن لنا السيرة الأخلاقية الخلاص؟ كلاّ، يعتمد خلاصنا على إيماننا بالله ومحبّتنا له، وعلى حياةٍ في التوبة نَنشد فيها نعمته لتساعدنا على الاتّحاد به، وذلك باتّباعنا تعاليمه لأننا نحبّه ونؤمن به.وهذا يقتضي من الأرثوذكسي الممارِس تواضعًا كبيرًا. يجب أن ندرك مدى ميلنا نحو الخطيئة، وأن نعي ضعفاتنا وسقطاتنا، بسبب محبّتنا ليسوع المسيح وبفضل ما علّمنا إياه. نحن نعلم أنّ تعاليمه حقيقيّة لأنها دُوّنت لنا بلا خطأ في الأناجيل، وحفظتها لنا الكنيسةُ نقيّة.

تنشأ الخلافات في العالم عندما يشعر فريقٌ ما بأنه أهمٌّ من الآخرين. ويؤدي هذا التعالي إلى التهميش وحتى إلى الاضطهاد.يَعلَم المسيحيّون أنّ هذا الموقف المتعالي كبرياءٌ، والكبرياءُ من أعظم الخطايا إذ إنّها خطيئةُ آدم وحواء، وهي تعترض علاقتنا بالله. لا يجب أن يقبل المسيحيُّ الممارِس أنه أعظمُ من الآخرين، بل عليه بالأحرى أن يشدّد على أنه أكبر الخطأة. لقد تعلّمنا أن نحبّ أقرباءنا، مهما كان دينهم أو معتقدهم، وأن نعيش بتواضعٍ متفهّمين طبيعة البشر.

نحن مدعوون إلى أن نتجاوز سقطاتنا ونعلّم الآخرين أن يفعلوا المثل. هذه هي دعوة الكنيسة، فالكنيسة مكانٌ نأتي إليه لنتلقّى الشفاء ونتّحد بالمسيح. يساعدنا إيماننا على تنمية علاقة محبّة مع الآخرين، بغضّ النظر عن معتقداتهم. وهذا أمرٌ يمكننا ملاحظته منذ بدء المسيحية، فالمسيحيون الأوائل تنوّعت تركيبتهم، ما كان مشينًا في ذلك الوقت، لكنّهم كانوا غير أنانيين ومساعدين كرماء للآخرين، وقد وهب العديدون حياتهم لمساعدة المرضى في الأوبئة، حتى إنهم واجهوا الاضطهاد بسكينة. المسيحيون الحقيقيون هم مَن يصنعون السلام ويجودون على البشر كلّهم.

على المسيحي أن يتمسّك بإيمانه بقوة. لا يجب أن نرضى بأن ينتقص بعضُهم من شأن المسيحية بقولهم إنّها واحدةٌ من سبلٍ عدّة. المسيحية طريقٌ يمنح الأملَ الأفضلَ من أجل سلام العالم والخلاص الشامل الكلّ. وتعاليم يسوع المسيح لا تنمّي فينا التكبّر بل التواضع، فاتّباعنا المسيح يمنعنا من ظلم الآخرين أو اضطهادهم.

كونوا حذرين ممّن يدّعون عدمَ وجودِ حقيقةٍ مطلقة، وأنّ الأديان كلَّها متشابهة أو مجرّد طرقٍ مختلفة. فهم بالطبع سيضعضعون إيمانكم. اعلموا، بذهنٍ متواضعٍ وإدراكٍ لخطيئتكم، أنّ لديكم الإيمان الصحيح الذي كُشف لنا بالله المتجسّد يسوع المسيح، مَن حُبل به من الروح القدس، ووُلد من العذراء، وعاش حياةً بلا خطيئة، وقُتل ظلمًا بالصلب، وقام وصعد إلى السماء فاتحًا أبواب الفردوس للبشرية بأسرها، ثم أرسل الروح القدس لتأسيس كنيسته لنتمكّن كلّنا من العيش كجماعاتِ محبّةٍ تسير نحو الاتحاد به. هذه هي حقيقة الإيمان الأرثوذكسي. لا تكونوا مسيحيين فاترين.

كتب أوغسطينوس مطران فلورينا الراقد: “تبحث الروح عن الحقّ. الحقّ هو البيئة التي تعيش فيها الأرواح وترتاح. هي الماء الحيّ، والخبز السماوي. إلاّ أنّ وحده يسوع المسيح لديه هذا الخبز. لقد أعلن أنه الحقّ، الحقّ المتجسّد: “أنا الطريق، والحق والحياة” (يو 14: 6).

الشماس خرالمبوس جوينر

نقلتها إلى العربية جولي عطيه
http://www.orthodoxlegacy.org/

 

 

 

 

 


في الحقيقة: هل يوجد أكثر من  واحدة؟