...

رسالة من بولس مطران حلب الغائب الحاضر الى امه في رُقادها

رسالة من بولس مطران حلب الغائب الحاضر الى امه في رُقادها

رسالة من بولس مطران حلب الغائب الحاضر الى امه في رُقادها 

 

اعذريني يا امي: رسالة على أجنحة الرياح والسُحُب من بولس مطران حلب الغائب الحاضر الى امه في رُقادها

“احِنُّ الى خُبزِ اُميّ وقهوةِ اُميّ ولَمسَة اُميّ، وتكبُرُ فيَّ الطفولة يوماً على صدرِ اُمّي واَعشَقُ عُمري لاني اذا مُتُّ يوماً اخجَلُ من دَمعِ اُمّي” 
(كلمات الشاعر محمود درويش – غناء مرسيل خليفة)

أُمّي الحبيبَة
اكتب لك من مكانٍ ما، ليس هو بمكان، وفي زمن ما ليس هو بزمن. اكتبُ لكِ وليس بيدي قلمٌ ولا ريشةٌ ولم تلُامس يَديَّ مِحبرة، فحيث انا لا ورق ولا اوراق. لا دفتر ولا حِبرٌ ولا مَكاتيب، بل فراغٌ فيه ملءٌ وملءٌ فيه فراغ، بل نورانيّةُ نورٍ تُضيءُ بالظُلمة، ظُلمة ظَلماء، جعلتني اقربُ من النور مما كنت عليه. لا يُدركُ الانسان، يا اميّ الحبيبة، طعمُ الحياة الا عندما يقتربُ من الموت، وطعم النور الا عندما يقتربُ من الظلمة، وطعمُ الفردوس الا عندما يقتربُ من الجحيم، وطعمُ القُربى واللقيا الا عندما يقتربُ من البُعد والغياب والفِراق، وطعمُ الحنان الا عندما يبتعدُ عن حنان الام وحنانُكِ يا اُميّ، مُحيطٌ هادئٌ عُمقُه لا عُمق له.
لن اكتب لك عن الموت، فانتِ اليومَ راقدةٌ في الحياة، وانت المُربيّة الفاضِلة التي علّمَتنا وربّتنا على عشق هذه الحياة المُحييَة التي تعلوا كل حياة، وعلّمتنا ان نعشقَ بلا حدود، هذا النور الذي لا يغيب، ولا يغرُب. لا يا امي الحبيبة لن اكلِّمُكِ عن الموت، وانت انتقلت الى هذه الحياة، التي نَصَبتِها امام ذواتنا وبصيرتنا، منارةً وطريقاً وهدفاً. لن اكلِّمُكِ عن حالي واحوالي، فانا كالمسافر في رحلة طويلة، ثابتٌ ومُتحرِّك. انا يا امي، كالمُنتظِر المُنتَظَر، المُنتظِر في مَحطّة، مَحطّة الزمن، مُنتظر القطار، قطار العودة في الوقت المُناسِب الذي يرتضيه هو لي، رب الأرباب. 
مهما كان من امر، اليوم عرسك وليس عرسي، اليوم اكثر من اي يوم مضى، انت وانا، سائحان بين الارض والسماء، يَجمعُنا حبُّ السيد، له المجد، هكذا كنا وهكذا سنبقى.
لا يا امي الحبيبة لن اكلمك في كل هذا. ففي فمي ماء كلمة واحدة: أعذريني يا امي!

اُعذُريني يا امي ان كنت انا في يوميّاتك ولياليك، طيلة السنين الثلاث الاخيرة، كنت كالسيف الذي كان مُسلّطا على قلبك دون أن يجوز.
اعذريني امي، اعذريني يا حبيبتي، اعذريني يا زهرةً عمَّرَت ولم يذبُل عِطرُها، اُعذريني يا ندى الصباح المُتلالئ حياةً وفصحاً في سحرِ كل يوم وكل صباح، اعذريني يا شمسَ المَغيب الحارَّة الممتلئة حرارة، اعذريني يا ميناءً كنّا نستكين اليه، يا مَنارةً كانت تبعُد عنّا الاخطار، يا دِفئا كان يَبعُد عنّا الاصقاع، اعذريني يا مَحطّةً كان يتوقَّفُ عندها قِطارُ حياتِنا لتخزين الرجاء قبل الانطلاق مُجدداً، اعذريني يا من علّمتنا دروس الحياة، اعذريني يا قلبٌ يُحب بصفاء ويبكي بسكوت، ويدمع بسكون، اعذريني يا سكوتاً مُتكلم، وكلاماً صامتا، اعذريني يا قلباً لم يُغادِرُ الدفء خفاياه، اُعذريني يا من كان ظلُّها حضورٌ وحضورُها ظلٌ نتفيائ به، اعذريني يا اميّ يا بحراً غُصنا ونَهلنا من مِياهِه الغزيرة، اعذريني يا امي يا شمعة اضائت ليالينا وسِراجا لم ينفكّ عن السهر علينا في طفولتنا وشيبنا وشبابنا،

اعذريني يا امي على كلِّ دَمعة زرفتِها انتِ على فراقي، والغياب، ففي عيوني بحرُ دموعٍ لكلِّ دمعة ٍنزِلت من عيونك. اعذريني يا امي لأني انا صَمَتُ عندما كان علي ان اتكلم، وغِبتُ عندما كان يجب ان احضر. اعذريني يا امي اذ انت غِبتِ وانا لم احضَر بعد.

لكن لا هم يا أمي، فكل انطاكية حضَرت يا اميّ، بعِدَّتِها وعديدها، من مَشارقِها ومَغاربها، من لبنانها العزة و سوريتها الحبيبة، كل شعب الله كان هناك في وداعك، ونحن ابناء الرجاء لا نوَدِّع، بل نقول الى اللقاء على رجاء القيامة، ووقف امام نعشك وعرشك، إبنك البكر وشيخنا الأنطاكي، ثالث عشر الرسل القديسين الأطهار، بطريرك مدينة الله أنطاكية العظمى، شيخنا الأنطاكي الصابر على المحن، غبطة ابي و اخي الحبيب، المسمى على حنان الله يوحنا، وقف بعزة ومهابة مُحاطاً من كل الاحبة، لواذقة وغيرهم، اكليريكيين وعلمانيين، فحضرت الكنيسة الحاضرة والكنيسة المُغيّبة. المنظورة وغير المنظورة، وكلها بفم واحد انشدت وهتفت لرب المجد، ليكن ذكرك مؤبداً.

اعذريني يا حبيبة، لاني لا زلت هناك، وانت هنا، اعذريني لاني ما قطعت الاودية والجبال والمغاور لاجثو امام عزك المتواضع وتواضعك في العزة لالثم يمينك الطاهرة واتبرّك من بركاتك مرة اخيرة يا سيّدة سيّدَة، لالثم هذه اليمين التي ربّت ونمّت واثمرت. اعذريني يا امي لاني تِهتُ هناك وتصاعَدَت المسافات، والنفق طال طوله، لكن من قال ان الغياب ليس حضور والحضور ليس غياب. غيابنا بالجسد قد يكون حضورٌ ومكان اللقاء والقربى واللقيا ومطارح الرجاء. هذا هو رجاؤنا، هذا هو ايماننا هذا هو مُحرِّكُنا.

انا اعرف من انت، وما قدّمتي وما عانيتي. واعرف ان جهادك لم ينقطع ولم يتوقّف يوماً لا في الشباب ولا في الشيبة. صبرك المُقدّس كان دائما مَطارحُ الرجاء وعنوانٌ للخروج من كل محنة وكل أزمة، وعلّمتنا دوما ان في الحزن فرح، وفي الفرح حزن، كيف لا وهذه هي، في جوهرها، الارثوذكسية الايمانيّة. نعم الرجاء لم يفارق صلاتك وهو جزءٌ من صلابتك التي كانت دائما رصانة، اكانت في قسوة ام في ليونة. هذا هو جهاد الذين يتوكلون على الرب ويعملون في بيادره الكثيرة فيزرعون الغرسة، ويَصقونها ماء حيا، وينتبهون على نموها، ويسهرون على استقامتها، ويتأنون عليها في الشيب والشباب.

يا امي الحبيبة، هذا ما علمتنا اياه وهذا الذي يجعلني، هنا في المحنة، على ثباتٍ ورجاء. والشكر لك وللرب الذي كان ولا يزال هو محرك حياتك وحياتنا.

فلا تخافي علي يا امي اذا ما شاهدتني انا ابنك من بعيد، مُجبراً مُقهراً مُكبّلا، مُهانا، مَأسورا، مُتألما، فهذا هو المشهد الخارجي للذين لا يعرفون ان سيد الاسياد لا يُفارقني ورب الارباب يَقِفُ معي ووالدته والدة الإله الجزة المنداة التي عاينها جدعون قديما، تسندني، الذي لا يعرفوا أنه لن تقوى عليه وعليّ وعلينا جميعا ابوابُ الجحيم مَهمَا كَبُرَت ومهمت وَسِعَ سيفُ ظُلمِها. فكلنا مدعويّن للشهادة له علنا لا ننسى أنه حيث تعظُمُ التجربة وتكبُرُ المِحنَة، تكبر الدعوة والنعمة.

أمي الحبيبة قولي هذا لاخوتي ان لا يخافوا عليّ ويلبقوا ثابتين على الثبات الى نلتقي من جديد، بنعمة الرب وعندما يراه هو مُناسبا في الموعد المنتظر. فلا صلب بدون قيامة. هذا ليس رجاؤنا فقط بل عمق إيماننا.

تشفعي يا حبيبة لنا عند رب المجد، وتوسلي كما كنت دائما في مديح أو بلا مديح، تنشدين للسيدة، والدة الإله العذراء مريم المثباركة، وصلذي لنا كما كنت دائما تفعلين بصلاة هادئة ثابتة وورعة، صلاة فيها تمتمة ةتضرع، و الى اللقاء يا غالية، في حضرة السيد، له المجد،

ابنك بولس مطران حلب
السائح بين الأرض والسماء، الموجود في مكان ما وفي زمان ما، 
ودائما مع الرب

 

 

من صفحة كارول سابا

 

 

رسالة من بولس مطران حلب الغائب الحاضر الى امه في رُقادها