...

الإيمان والآلام

الإيمان والآلام

الإيمان والآلام

 

“إنَّ هذا الجنس لا يمكن أن يخرج بشيء إلاَّ بالصلاة والصوم”

الحدث، الذي سمعناه من النصّ الإنجيلي، يرسم لنا مشهداً يوميّاً من ظروف الحياة الحاضرة. المسيح في مواجهة الإنسان المعذَّب من الشيطان. وإلى جانبهما التلاميذ و”أبو الصبي” عاجزين، بإيمانهم الذي سمَّاهُ يسوع ضعيفاً، عن تخليص هذا الصبي المصروع. هذا المظهر للصبيّ هو مظهر لكثير من مجتمعاتنا المعاصرة؛ ويمثل صورة واضحة لشريحة واسعة من واقع الحضارات الحاليّة. ما نلاحظه في هذا الصبيّ هو العنف والبشاعة. لقد كان الشيطان، الذي تملَّكه، كثيراً ما يلقيه بعنفٍ في النار، وجعله إنساناً لا اجتماعياً أصمَّ أبكمَ. لا توجد صورة أبشع من مشهد هذا الصبيّ متمرغاً وهو يُزبد مرمياً على الأرض دون أدنى حدود الكرامة لخلقته البشريّة.

تطال مظاهر العنف في حضارتنا المعاصرة جوانب كثيرة من الحياة وبطرق عديدة. إنَّ حضارتنا المدنيّة وإن كانت تحمل من ضمير المسيحيّة الكثير، مـا زالت تحتاج لتَحضّرٍ مسيحي كتابي بعدُ. يلغي العنف الجنسي مرّات عديدة الحبّ الإنسانـيّ ويرمي الإنسان في حيوانيّة المتعة العابرة، على حساب جمال العلاقة المقدّسة بين الطرفين. وكم تحتاج وسائل الإعلام والمناهج التربوية والبرامج وساحات التسليات إلى تربية مسيحيّة مبنيّة على السّلام والجمال! العنف السياسي متفشّي في بقع كبيرة على سطح البريئة، ليس فقط يقمع حريّة الفكر، بل غالباً ما يطال كرامة الجسد البشريّ. السجون السياسية فيها أبشع صور المعاملة اللاّ إنسانيّة. العنف الاجتماعيّ يخلق ويوسِّعُ الشرخَ بين الطبقات الاجتماعيّة. فطبقة تزداد صلابة ورفاه، وأخرى تزداد حاجةً وعناء. وتحمل صورةُ المجتمع المتصارع مقداراً من البشاعة يلغي جمال الاجتماعيّات والأخوّة. العنف في كلّ مكان وتظهر على صورة الحياة لطخٌ عديدة بشعة لا جمال فيها ولا وداعة.

ما هو موقف المسيحيّ الملآن بالحبّ والإيمان أمام سيطرة هذه العوارض الشيطانية؛ لا على “صبي مصروع” وحسب بل على مجتمعات وشعوب بكاملها؟

قد لا نكون نحن المسيحيّين أوفر حظاً من “أبي الصبيّ” آنذاك، بأن نعترف بعجزنا وضعف إيماننا، ونرمي على الربّ السؤال ذاته “إن اســتطعتَ

يا ربُّ شيئاً لدنيانا وآلامنا فتحنَّن علينا وأَعِنّا”. غالباً ما نشعر، نحن المؤمنين، أن انتشار الأوبئة الروحيّة في جسم البشريّة قد صار سرطاناً لا يسمح بأمل الحياة. وبالفعل يقف الواحد منَّا موقف اليائس والبائس أمام صَرَعات الدهر وآلام البشر المُعذَّبين، وكأنَّ حالنا لا تسمح بأن نحرِّك ساكناً! ولا يبقى لنا إلاَّ هذه العبارة “إن استطعتَ يا ربّ شيئاً أعنَّا”.

جواب المسيح على موقفنا هذا هو ما أعلنه “لأبي الصبي”. أنَّ المسألة ليست مستعصية، وأنَّ طرد هذا الشيطان ليس أعلى من قدرة التلاميذ ومن اختصاص السيّد فقط، ولم تُقفل دوننا أبواب العمل من أجل حلّ مشاكل دهرنا، لكي نلقيها على عاتق الربّ فقط. سرّ الموضوع هو أنّنا تلاميذ له، لكنّنا جيل متعِب وغير مُحتمَل و”غيرُ مؤمن” أو “قليل الإيمان”.

إيماننا غالباً مبني على سطحيات دينيّة مسيحيّة. فنحن نعتبر أنفسنا مؤمنين حينما نتمّم بعض الواجبات الدينيّة ولا نقصِّر في بعض الممارسات الطقسيّة ونقول: “جوهر الدين المعاملة”؛ ونشعر أنّنا أوفينا ربّنا حقَّه وتديّنا بالمطلوب حين نحافظ على مسلكيّة حسنة، أو أحياناً نسمّيها مسيحيّة؛ تلك التي فيها الكافي من التهذيب الاجتماعيّ والإحسان والخدمات العامة والاحترام وما شئنا من فضائل مسيحيّة اجتماعيّة ضروريّة ومثاليّة… لذلك لا نتأخر مرّات عديدة عن اعتبار الصلاة مثلاً أمراً ثانياً أو ثانوياً وكذلك الصوم ليس حظّه بأفضل. “فالدين هو المعاملة” والخلق الحسن هو المهم!

نستطيع بكلمة سريعة أن نكون واقعيّين لو أنّنا عبَّرنا عن إيماننا بأنّه يتحدّد بممارسة أخلاقيات دينيّة سامية، وحينما نلتزمها، نكون مسيحيّين! ولكنّنا هكذا نكون قد فرّغنا إيمانَنا من فضيلتَين هما الصلاة والصوم، معتبرين أنّ الالتزام الخلقيّ هو الجوهر، واعتبرنا هاتين الفضيلتين بوجود ما سبق ثانويّتَين. يسمي المسيح إيماناً كهذا ناقصاً وضعيفاً. إيمانٌ كهذا، كما يوضحه النصّ الإنجيلي، ليس لمواجهة التحدّيات المعاصرة السابق ذكرها. الإيمان دون الصلاة والصوم سطحيّ وظاهريّ وغير فعَّال. الخُلُق لا يلغي الصوم والصلاة. بل يجب أن يُبنى عليهما. وأن يكون إحدى ثمارهما.

كيف لنا إذن بأن نبسط السّلام والجمال فوق بقعة العنف والبشاعة؟ لا يمكننا ذلك بأيّ شيء إلاَّ بالصلاة والصوم.

إنَّ الصلاة، كما يُعرّفها القدّيس يوحنا السلمي، الذي نعيِّد لتذكاره في الأحد الرابع من الصوم، هي العشرة مع الله. والإنسان دائماً هو كائن تائه وقلق خارج العشرة الإلهيّة. يقول المغبوط أوغسطين: “لقد خلقتنا يا ربّ ميّالين إليك ولن نرتاح إلاَّ بك”. الصلاة هي مصدر السّلام الداخليّ ولو كنّا وسط اضطرابات الدنيا كلّها. وأيّ سلام لا يبنى عليها ظاهريّ وفي باطنه القلقُ والاضطراب. “لا تخَفْ أيّها القطيع الصغير” و”ثقوا لقد غلبتُ العالم”، هذه الوعود هي منبع السّلام لدنيانا. فنحن لا نخشى ولا نتزعزع “لأنَّ الله معنا”.

والصوم هو الذي يبني فينا النظرة السليمة للجمال في عالمنا، عالم الإباحيّة الذي يربّينا على جماليات الخدعة؛ خدعة العين والطعام واللذة وسواها… اليوم نحن في زمن يحتاج إلى صوم أكثر ممّا سبق، لأنَّ إباحيّة الاستخدام وخدعة الجماليات الدنيا تزداد انتشاراً. من سيعيد ترتيب الأمور ويجعل من العفّة في الزواج أجمل في نظر الناس من متعة اللذّات، والمُثل العليا في المعاملة أجمل من دناءة المصلحة، والكلمة الإلهيّة أشهى من العسل؟ هل لنا سوى الصوم؟ الصوم بالعمق هو التربية السليمة للجمال عند الإنسان. بشاعة العنف لا تمحوها إلاَّ وداعة الصوم.

الصلاة تعطينا السّلام الداخليّ وتمدُّنا إلى القريب بسلام وتدفعنا إلى المحتاج كفاعلي سلام. والصوم يعيد لذاتنا جمالها الأصلي فيرى الإنسان جمالاته في السماويّات بدل الأرضيّات. الصلاة والصوم يطردان العنف الشيطاني وبشاعته.

نعم، إنَّ هذا الجنس لا يمــكن أن يخـــرج من حضاراتنا بشيء إلاَّ بالإيمان المبني على الصلاة والصوم.  آميــن

المطران بولس (يازجي)

عن “نشرة الأحد”، السنة 27، العدد 15،  الأحد 14/4/2013    

 

 

 

 

 

الإيمان والآلام