...

المسيح قام، حقاً قام

المسيح قام، حقاً قام

 

المسيح قام، حقاً قام

في التقليدين الحضاري والكتابي لإسرائيل القديم، كان الجحيم مكان استقرار الأموات، كلهم بلا تمييز. إنه المستقر الآيل إليه كل حي، على ما في سفر أيوب (30: 23). وبين ما حمله من حضارته القديمة وما فهمه من الإعلانات الإلهية، تصور إسرائيل القديم استقرار الأموات في الجحيم وجوداً ظلياً، أو شبه وجود، إذ لا قيمة له البتة وهو أشبه بالـ “لا وجود”. في عمق أعماق الأرض، حيث الجحيم، ظلام دامس يحجب وجه الله فلا يستطيع الأموات أن يسبحونه ولا حتى أن يكون لهم في أمانته رجاء. “هل يحدث أحد في القبر برحمتك أو في الهلاك بحقك، هل تعرف في الظلمة عجائبك وعدلك في أرض منسية”، يقول صاحب المزامير في مناجاة أليمة (88: 11-12). أقسى ما في مأساة الميت إذاً أنه يمسي من الله منسياً. إزاء هذا الواقع الموجع، وجد شعب إسرائيل في طول العمر على الأرض وفرضية الانضمام إلى الآباء (تكوين 25: 8) تعزية عن ما هو مصير البشرية ومسارها المحتوم. بيد أن هذا الجحيم، وفي أحيان كثيرة، ما عاد يكتفي بمجرد انتظار الوافدين إليه بل كان يباغت بشراً وهم في عز قوتهم. ففي سفر أشعياء أيضاً تفتح الهاوية فاها لتلتهم “وجهاء صهيون وعامتها وكل صرح فيها” (5: 14). التعزية التي وجدها إسرائيل لنفسه، والتي تكلمنا عنها آنفاً، ما عادت تكفي. إذذاك فهم المؤمنون أن قدرة الجحيم على اجتياح أرض الأحياء سببتها الخطيئة التي أوجدت – في أرض الأحياء – موتاً. هكذا تطورت فكرة الجحيم في وجدان شعب الله فصار (الجحيم) مكان الرقاد الذي يستيقظ منه الأبرار إلى الحياة الأبدية، والأشرار إلى العار الأبدي، في يوم القيامة العظيم على ما في سفر دانيال (12: 2).

إن نزول المسيح إلى الجحيم، في إيماننا المسيحي، هو مسألة عقائدية محورية وهو من حقائق العهد الجديد الأكيدة. فالذي بشر الأرواح السجينة التي كانت قد تمرّدت قديماً كان ينبغي أن ينزل إليها، وهو نفسه الذي “قد مضى إلى السماء وملائكة وقوات وسلاطين مخضعة له”، على ما في رسالة القديس بطرس الأولى (3: 19-22). ما كان للمسيح اتصال بأسرى الجحيم لو لم يمت حقيقة كإنسان، وما كان ليمضي إلى السماء إلى يمين الله لو لم ينتصر على الموت قائماً. ما من بشارة يحملها إلى الأموات لو لم تكن خبر تحريرهم. القديس بطرس يتحدث أيضاً، في خطبة أمام اليهود في أورشليم، عن نزول المسيح إلى الجحيم (بموته) وظفره عليه (بقيامته) “بمشورة الله المحتومة وعلمه السابق”، أي بتدبير إلهي، مستشهداً بصاحب المزامير الذي “سبق فرأى وتكلم عن قيامة المسيح إنه لم تترك نفسه في الهاوية ولا رأى جسده فساداً” (أعمال 2: 24، 31). لم يقل الرسول “لم ينزل إلى الهاوية”، بل “لم تترك نفسه في الهاوية” وهذا يعني أنه نزل إليها. وفي معرض حديثه عن سر الصعود يبين الرسول بولس، في رسالته إلى أهل أفسس، أن المسيح الرب نزل أولاً إلى “أقسام الأرض السفلى” قبل أن “يصعد فوق جميع السماوات لكي يملأ الكل” (4: 9-10). هذا وفي كل مرة نتلو دستور إيماننا نعترف بأن يسوع المسيح هو الرب، وبأنه قام من بين الأموات.

قلنا فيما خلا إن الظلمة كانت تحجب عن الموتى وجه الله، أي إنهم هم كان محرومين رؤيته. لكن الهاوية والهلاك كانا مكشوفين أمام الله على الدوام (أيوب 26: 6)، وأنفس الأسرى كلها محصاة. ولما أتت ساعة الغلبة ما عاد الجحيم قادراً على الاحتفاظ بواحد من أسراه لأن المسيح ابن الله اقتحمه بذاته، بسلطان سيادته على الحياة والموت. حتى موت السيد على الصليب كان الجحيم المقر النهائي لكل حي، وما كان لنفس أن تخرج منه. لذا كان ينبغي أن ينزل المسيح بنفسه، وهو الذي لا قدرة للجحيم عليه، ليفجّر ذاك السجن الدهري من داخله فاتحاً للموتى باب الولادة الجديدة، صائراً بكر القائمين من بين الأموات على ما يسميه سفر الرؤيا (1: 5). هبة الحياة الأبدية ما كانت لتتحقق لو لم تسقط – نهائياً – أبواب الجحيم. هذا هو الفداء الذي طالما انتظرته البشرية المحكومة منذ آدم بالانفصال عن وجه الله، الجحيم الذي ما بعده جحيم. أما الثمرة الأبدية لهذا الفداء واستمراره هو الكنيسة، التي لن تقوى عليها أبواب الجحيم من بعد (متى 16: 18).

 

 

 

المسيح قام، حقاً قام