...

يوحنا المعمدان

 

 

وكان في الزمان، وعلى شاطئ الأردن رجل ناسك، له وجه أسمر تلوَّح بحمرة أشعة الشمس، وجبين بارز مجعد بخطوط الأفكار الجاثمة وراءه، تطل من تحته عينان لا يستطيع الناظر إليهما أن يتحقق لونهما لكثرة ما تشتعلان بالأنوار الغريبة، هما كالجمرة المشتعلة تلون الأهداب لها بمثابة خط أسود يفهمك أن العينين سوداوان، وفوق هذا الجبين النافر يقوم إكليل من شعر أسود تفككت ربطه فارتمى خصلاً مبعثرة فوق الكتفين العاريتين ليرد عنها لفحات الشمس الكاوية، وعند منتصف الجبين وفي أسفله يبتدئ أنف دقيق تعلو أرنبته، وينتهي بانحناءة فوق الشفة العليا التي إذا عانقت أختها السفلى وجدت نفسك أمام خط الفجر الأحمر الذي يتصل بقلب الصباح، وتحت العينين البراقتين تتسع وجنتان تحسبهما قطعاُ من البرونز لكثرة بروز العظمتين واتحادهما بالجلد المستوي بالشمس، ويقوم هذا الرأس الدقيق الصنع على قاعدة من المرمر الأسمر، ترتكز على ترسين من الألواح المغطاة بالشعر الملتف حلقات حلقات كأنها أعشاب حنت بذورها لتعانق جذوعها، ويفصل الصدر عن الساقين خصر رقيق وبطن ضامر يغطيه جلد قاس، وتنتهي الساقان اللتان تخالهما قطع خشب مصقول بأقدام ترتفع عن الأرض الصحراوية بسيور من جلد.
وكان في الزمان، وعلى شاطئ الأردن قوة هائلة من الروم, تتصاعد صرخات في البرية, صرخات فيها قوة البركان لأنها من بركان الصدر تتفجر, صرخات الحق في الوديان السحيقة من الحواس الوضيعة, الحق الداعي إلى عالم المثالية، إن هذا الصوت المتصاعد في البرية لإنذار خطير للبشرية المتخبطة في ديجور الظلام، ودعوة صريحة تتخلى عن عالمها مخافة أن يدركها النور، وهي لا تزال قابعة في وديان الجهل، فتحرم من سعادة النور وتفقد عالم السعادة الخالد.
لقد رقص الأردن على أنغام صوتك يا يوحنا، والصحراء الممتدة ككف المتسول ترنحت على أنغام النهر الطروب، والجبل الأجرد الجاثم بعيداً تمنى لو يمشي معك، تمنى أن يكون هذه العصا التي بيمينك ليخط على الرمال عظمتك الفائقة، لقد رقص الأردن وتحرك الجبل كما تحركت أنت في رحم أمك العجوز، لما قدم إليك وهو في رحم أمه مرسلك ليعطيك الرسالة التي تبلغها الآن لأهل الأردن، لقد تعمدت في رحم أمك بمياه الروح لما تعانقت أمك وأم يسوع, في عناقهما اتحاد قلبك بقلبه، فكنت أنت روحاً قدسيةً حولت مياه الأردن لينبوع خلاص، لقد كنت روحاً تتمشى فوق المياه وفوق الصحراء وفي أجواء القلوب، فقدمت الماء وأطفأت ظمأ القلوب العطشى إلى الحق، وحرثت الصحراء بسلك إيمانك، فأنبتت الصحراء زهوراً من الروح، كانت لك تلاميذ مخلصين، ولمرسلك رسلاً بشروا به في ساحات العالم وأزقته.
كانت ولادتك لغاية نبيلة في مقصد العلي، وحياتك كلها كانت بخدمة هذا السر السامي، لقد خلقت لتبشر بالحق في عالم بشرَهم إخوتك الأنبياء من قبلك، فلم يسمعوا للحق، لأن آذانهم لم ترد أن تسمع، وقلوبهم لم تقبل أن تستوعب، لقد أرسلت لتبشر في وديان الأردن الشعب السالك في الظلمة، فقمت برسالتك حق القيام، لأن الشعب الكافر نظر إليك نظرة النبي العظيم الذي يستحق التكريم والإجلال، كان العالم مفككاً أخلاقياً فجاء صوتك جامعاً له، وكان العالم يرزح تحت ثقل الحياة الناعمة المادية فجئت أنت بتقشفك البالغ تعلمه الاحتقار للحياة الباطلة، لقد مقتَ الجسد ليمقته أبناء الأرض، وطرت إلى ملكوت السماء ليطيروا معك، وعمدت بالماء لتغسل الوسخ الذي تسد جوانح أرواحهم إلى الأرض، حتى إذا حلقوا، يحلقوا على أجنحة قوية حرة، كنت ناراً يحرق الهشيم من تربة القلب، ومنجلاً يقطع الأشواك من حقل الروح، وداعيةً للزهد الروحي، داعيةً إلى التوبة الحقيقية، لأنه بدون التوبة لا يمكن أن ينال الملكوت السماوي, هذه التوبة التي تحكم على كل الحواس الوضيعة بالموت في أتون الحق الصريح، أنت صوت من الله يا يوحنا، ويا له من صوت جميل، وهذا الصوت لا يدركه إلا المختارون من أبناء الملكوت، فتلاميذك دخلوا إلى أعماق سرك، وأنت الذي أدخلتهم بحياتك المثالية، هؤلاء هم من أبناء العجوز أولئك الذين طلبوا رأسك على طبق من فضة ذهبية، وهل أجمل من رأس الحق، وهل أجمل من الذهب يحليه رأس الحق، لقد تنعم كبرياء الفاجرة وتغرى، لقد جنَّت سروراً لما رأت رأسك والدم يسيل من قاعدته، ولما كانت هي في ذروة نشوتها كان مسيحك يتألم، وكان أبناؤك الذين سمعوا صوتك في حيرة الألم ووجوم الاشمئزاز من قبح عمل العاهرة، لقد قطعت الفاجرة رأسك فقطعت رأسها، لقد تغلبت عليك حسب زعمها ولكنك كنت أنت الغالب وكان هي المغلوبة، لأن عملها جلب عليها نقمة الأجيال، والدم الذي سال من عنقك دفن في تربة الفجور فأنبت الحق المحرر من الفجور والعهر.
هو ذا صوتك في البرية وعلى ضفاف الأنهار وفوق قمة الجبل، هو ذا صوتك في براري القلوب القاحلة، وفي جبال الأوهام البشرية، وعلى ضفاف الأحلام الكاذبة يتراجع أصداء، يحمل النار الصهّارة لكل غريب عن الحق، كنت مثالاً للحق وكانت توبتك التي بشرت بها بذاراً للقلوب، بذاراً من الزنابق الفواحة لهذا الجمال الروحي، بذاراً من الورود العبقة بالمعاني السامية، ونصبة متينة في قلب الحياة لا تقوى عليها الأعاصير، أنت الصورة المثالية للحياة الإنسانية, الإنسانية التي مت في قلبها وأنت تقوم بالواجب المقدس، تحن إليك الناس وفي حنينها احترام كلي، وتذكرك لأن الإنسان عرف بك إمكانيات قواه الروحية، أنت الصورة للكمال الإنساني، والصورة جميلة، فأين نحن منك وأين تحليقاتنا من تحليقاتك، أنت ناسك ونحن متهتكون، أنت متقشف ونحن نعربد ونضج ونصرخ، أنت حملت الحق في قلبك ونحن ندوسه تحت أقدامنا، أنت دخلت إلى صلب معنى الكون ونحن لا ندخل إلا لصلب غطرستنا وكبريائنا، كنت كما كنا من طين وتراب، فحولت أنت الطين إلى نور، وحولنا نحن النور إلى ظلمة، مع أن مرسلك هو الذي أرسلنا بروحه لنكون كما كنت أنت صوتاً صارخاً في عباب اليم، وفي أطباق الأثير وفي البراري والقفار والجبال والمغاور وكهوف الأرض، فيا قلب يوحنا أيها القلب الخفاق، علمنا أن يكون لنا قلب كقلبك فنسلك كما سلكت، لنرضي من أرسلك ومن اختارنا لنكون أبناءً له.

الأرشمندريت الياس (معوّض)
مجلة النور، العدد10، 1946

 

 

 

 

 

 

يوحنا المعمدان