...

ما هو الحق؟

 

 

 

 

في كثير من الأحيان، تتركنا مناقشة القضايا الأخلاقية على شاشة التلفزيون في حيرةفالجميع يدّعي أنه يسعى حقاً إلىالحقيقة، وأنه يدعو إلى السلوك البشري اللائق.

بين الحين والآخر أشاهد مناقشات بين مثقفين” وغيرهم من الخبراء” حول القضايا المعاصرة – كالزواج والطلاق، والسلاح والجريمة، وعقوبة الإعدام أو الإجهاض، قرارات الحياة والموت، المثلية أو الامتناع عن الجنس – وكثيراً ما أبتعد شاعراً بالارتباكيمكنني أن أتصوّر أن هذا يحدث لكم أيضاً.

إذا تسنّى للمرء أن يستمع بعناية لهؤلاء الخبراء فقد يستنتج أن الحقيقة” هي مفهوم شخصي جداً وعابرومع ذلك، يبدو لي أننا فقدنا قدرتنا على تحديد الأشياء بشكل واضح بما فيه الكفاية من أجل مصلحتنا.

وبسرعة قد يسأل شخص مهتمٌّ: “لماذا؟” ما الذي حدث فجعل اتخاذ القرارات حول القضايا الأخلاقية والمعنوية صعباً جداً بالنسبة لنا؟ ما الذي تغيّر في حياة الإنسان فجعلنا منقسمين إلى هذا الحدّ ومجزّئين في نظرتنا إلى العالم.

أود أن أقترح جوابين أساسيين على هذا السؤال.

أولاً، لقد أخرجْنا الله وإعلانَه للحكمة من المعادلة.

ثانيا، لقد جعلنا أنفسنا مركز كلّ شيء – أصبحنا متمحورين حول ذواتناينبغي بكلّ شيء أن يخدم الفردونتيجة لذلك، فقد تبنيّنا فكرة التمكين الذاتي(self empowerment)، حيث يتمسّك كل فرد بالحقيقة التي عنده.

بعبارة أخرى، إذا كان أحد يعتقد بشيء، يكون هذا حقيقته طالما أنه يشعر بصدق أن هذا الشيء صحيحومع ذلك، هذا يخلق مشكلة كبيرة هي تعدد الحقائق، والتي بدورها تثير سؤالاً خطيراً: “ما هي الحقيقة؟” وبالنسبة لشخص مثلي، وأظن أنه بالنسبة لكم أيضاً، هذا سؤال صعب جداً أن نتعايش معه.

يبلغ عدد سكان الأرض اليوم نحو ستة مليارات ونصف نسمةإذا تمسّك كلّ واحد منّا بحقيقته، ففي الواقع لن يكون هناك أيّ حقيقةخوفي هو أن هذا النوع من التفكير سوف يؤدي في النهاية بالإنسانية إلى حالة من الفوضى واليأس.

لقد استندت قوانيننا في الأصل، حتى منذ اليونان القديمة، على فكرة أن هناك بعض الحقائق الأساسية التي تؤمّن حسن سير المجتمع البشري، كواجب اﻹنسان نحو بلده، قدسية حياة الإنسان، احترام ممتلكات الآخرين، أهمية حرية الإنسان، مركزية البعد الروحي للشعب ورغبتهم في عبادة الله، أهمية مؤسسة الزواج والأسرة باعتبارها نواة المجتمع، وأخيرا تربية الأطفال كمسؤولية مقدسة.

من حين وضع أول القوانين دُعي البشر جميعاً لقبول هذه الحقائق، إذا كانوا يرغبون في عضوية المجتمع البشريولكن عندما ينظر المرء إلى عالمنا اليوم، وخاصة أوروبا وأمريكا الشمالية [فعلياً كل العالمالمترجم]، يجد أدلة على أن التأثير اﻷكبر على مجتمعنا هو للمقاربة الفردية الأنانية الحقيقة.

دعونا نبدأ بتربية الأطفال وهي آخر تلك الحقائق التي لا تزال القوانين تحميهافي الولايات المتحدة وحدها، يوجد اليوم أكثر من 60 مليون شخص ممن عانوا الاعتداء الجنسي كأطفالبحسب مسح أجرَتْه وزارة الصحة والخدمات الإنسانية، فإن الأطفال الذين أسيئت معاملتهم وإهمالهم في الولايات المتحدة تضاعف تقريباً خلال السنوات السبع بين 1986 و 1993.وقدّر التقرير أن عدد الأطفال الذين يتعرضون لسوء المعاملة والإهمال ارتفع من 1.4 مليون في عام 1986، إلى أكثر من2.8 مليون في عام 1993، في حين تضاعف أربع مرات عدد الأطفال الذين أصيبوا بجروح خطيرة من حوالي 143،000 إلى ما يقرب من 570،000. ومعظم هؤلاء الضحايا ينمون وهم يعانون من مجموعة متنوعة من الأمراض النفسية.

هذا أمر غير مسبوق في أي مجتمع متحضرلقد فشلنا في خلق أشخاص أصحاء قادرين على نشر حضارتناماذا يمكن أن تكون أسباب هذا الفشل العظيم؟ أعتقد ما يلي: (أتخفيض قيمة الزواج ووحدة الأسرة لصالح تحقيق المزيد من الممتلكات المادية. (باﻷخذ بفكرة أنّ النجاح يُقاس بقيمة الممتلكاتفي هذه الاستهلاكية لتحويل رياح النجاح إلى مصلحتنا، أصبحنا على استعداد، مثل أغاممنون القديم، للتضحية حتى ببناتنا وأبنائنا، لكن للأسف ما من إلهة” تأتي لنجدتهم. (جفي جهادنا من أجل الصعود الاجتماعي والإشباع الفردي نحن نضحّي أيضا بقيَم احترام النفس وكرامة الأسرة الأساسية فيما نصير مشبوكين في العلاقات الإنسانية التي تؤدي إلى الدمارإن مطاردة الوجود الأناني القائم على المتعة يجعل البعض على استعداد حتّى لاستخدام المخدرات والكحول من أجل الهروب من الواقع المرير الذي يخلقونه لنفوسهم.

تغلق الحلقة المفرغة عندما يؤدي شرٌّ إلى آخرزيجات متصدعة ودمار ماليالضحايا اﻷكثر تضرراً هي أسرنا وأطفالنا.الزواج يتطلب الالتزامالأطفال وتربيتهم يحتاجون التضحيةاعتبر الإغريق القدامى أنّ أعلى مراتب الشرف هي الموت عنمعابدهم (أي إيمانهموعائلاتهم“. اليوم، معظمنا هم أنانيون غير مستعدين للموت حتى لأنفسهم، فكيف عن الآخرين.

السؤال الذي في ذهني هوإذا انهارت مؤسسات الزواج والأسرة وتربية الأطفال في المجتمع المعاصر، حتى ولو كانت القوانين لا تزال في مكانها كمحاولة لتقديم الدعم لهذه المؤسسات، وحتى بالرغم من اتّفاق معظم الناس حول قيمتها، ماذا سوف ينتج عن طريقتنا في الحياة والتفكير في ما يتعلّق بالأشياء الأخرى حيث لا يوجد توافق آراء بيننا؟

فيما نحن نبحث عن حلول، يجب أن نأخذ أيضاً بالاعتبار تلك التي ورثناها من الأجيال السابقةعلينا أن ننظر إلى حكمة أولئك الذين سبقوناما من عالِم أو مهندس يبدأ ببناء أي شيء من دون دراسة ما فعل الآخرون من قبله في هذا المجاللن يقف بناؤنا إن تجاهلنا خبرات الأجيال السابقة وحكمتهاإذا نظرنا إلى الوراء، إلى جذور الحضارة الغربية، فإن لدينا أكثر من ثلاثة آلاف سنة من حكمة أجدادنا للاستفادة منهالدينا كل من الحكمة المعطاة للفلاسفة اليونان، كما لدينا تجربة شعب إسرائيل في علاقته مع الربلدينا الوصايا العشر وكتابات الأنبياء، ولكن قبل كل شيء لدينا ملء الوحي اﻹلهي في شخص يسوع المسيح، في تعليمه ومعجزاته، في حياته وموته، وأخيراً في قيامتهلدينا أيضاً ألفا سنة من التطبيق العملي لهذه التعاليم من قبل شعب الله، إسرائيل الجديد، الكنيسة المسيحية.

إذا كنّا نتلهف للعودة إلى الإغريق والرومان لمعرفة المزيد عن الفن والرياضيات والهندسة، ألا ينبغي أن نكون أيضاً حريصين على أن نتعلم منهم عن الحياة؟ إذا كان بإمكانهم أن يعلّمونا كيفية بناء جسر أو مبنى ليبقى عدة قرون، ألا يمكنهم ربما أن يعلّمونا أيضاً كيفية جعل عائلاتنا ومجتمعنا أكثر قوة؟ ففي النهاية، الإمبراطورية الرومانية المسيحية (أو كما هو تُعرَف عموماً بالإمبراطورية البيزنطيةاستمرت وازدهرت لأكثر من ألف سنةأيمكن أن عندهم صيغة النجاح أو مكوناته السرية التي نحتاج؟

إذا تعلّمنا بتواضع من ينبوع المعرفة والحكمة هذا لا يبقى أي احتمال للخطأإذا طلبنا إرشاد الله وعنايته فما من إمكانيةللفشلإذا توجهنا إليه وهو الذي خلقنا وشكّلنا فسوف نحصل على ملء التفاهم وملء الحق والحياةفهو قد قال: “أنا هو الطريق والحق والحياة” (يوحنا 14: 6) إن الذين يتبعونه سوف يعرفون الحق، والحق سوف يحررهم (يوحنا 08:32) لأنه لا يوجد إلا حقيقة واحدة، وهو كلمة الله المتجسّد، ربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح.

 

 

المتقدّم في الكهنة بانايوتيسباباجورجيو
www.orthodoxlegacy.org

 

 

 

 

 

 

ما هو الحق؟